مأساة الذات معاكسة لأشرف الخلق..

مأساة الإنسان مع ذاته كبيرة ومستعصية ولعله لن ينتهي من تبعاتها إذ قلما يريد التنازل عن الثقة بها وكأنها قطب الرحى لوجوده وهذا ما ينعكس تقهقراً لذاته حيث تقبع في مستنقعات هذه الأنانية المفرطة، فنجد رواج الغرور والاستعلاء والفوقية والعنصرية والتفاهة والعصبيات الدينية والمذهبية إلى حد الظاهرة المرضية واستعار الحس القبلي على حساب الوحدة والانفتاح والتعاون والحس الوطني.

بدل أن تتحول الذات إلى ساحة اختبار وجداني وجودي سليم وتصويب الاتجاه وتعزيز الإدراك، نجد أن هذه الذات وكانعكاس طبيعي لهذه الأنانية تعتمد المنطق التبريري والذرائعي ولا تعترف عما تغفل عنه من ضرورة السؤال والمراجعة لما هي عليه من أوضاع وعلاقات.

بعد مسلسل حب الذات إلى درجة إحراق العالم وما فيه تحولت الذات إلى سلاح توحش مستمر يلبي الشعور بالتفوق والاستعلاء وهو ما نجده واضحاً في سياسات الدول الاستعمارية تجاه الشعوب المستضعفة ودولها والتي تملي عليها ما تريد وتبتزها بكل وقاحة.

بينما المطلوب حب الذات إلى درجة معرفتها حقاً وتنظيم توجهاتها وخياراتها أضف غلى ذلك حب العالم كتعبير جميل عن حب الذات بمعنى جعل الذات مظهراً حياً للاجتماع الإنساني والثقافي والعقيدي الفاعل والمؤثر في رسم المصير والمسار.

هذا التفاوت الفاضح بين تقديس الذات وبين معرفتها حتى تأخذ حيزها الفعلي يمنع كل محاولة من أجل تغيير الذات بمعنى جعلها خارج سطوة الأنانيات والأهواء كي ترى بوضوح واتزان حجم معاناة الواقع لتنطلق بذهنية تغييرية تعيد ترتيب الأمور وتنظيمها ، فالقاعدة تنطلق من الذات المتعالية التغييرية كي تصبح عامة تحتوي كل نشاط جمعي وتلف كل توجهات الجماعة والمجتمعات.

ليس هذا فحسب، بل من مقومات هذه الذات الاستقلالية وصناعة اللحظات التي تحرر الكينونة الإنسانية فتصبح الذات وعاء يفيض طاقة وتجدداً ويبرز هبة الله للإنسان (الحرية). ما يصنع ذواتنا ليس هي في حيزها الخاص فقط، بل في اتصالها بالعالم ومشاركتها الفاعلة في رسم الكينونة الجماعية فتجعل حيزها الخاص قوة تدفع إلى الاتصال بينابيع العالم من خلال خلق لحظات واعية ترفع الغبن عن الواقع وتكتب تاريخا مشرفاً خالياً من المخاصمات والمشاحنات واليقينيات الجامدة المنحدرة من العصور الماضية، ولكن أين هو هذا الاتصال؟

هو مفقود أضحى غريباً منطوياً يرسم حدوده الضيقة في انغلاقية تامة على المشاركة الإنسانية وهذا ما يتسبب بمزيد من التشتت والضياع والتشظي الاجتماعي، حيث إن الإنسان أصبح غير قادر على إيجاد مرتكز له في الكون، فتوجه نحو التاريخ ليريح نفسه القلقة فألح على طلب إجابات لأزمته الوجودية التي لم يعد “الوحي” ولا “الطبيعة” قادريْن على تقديمها، فانتشرت إذ ذاك ما نراه من شتى صنوف الخرافات والغيبيات وتجهيل للناس وتسطيح لعقولهم علّها تملأ فراغ الإجابات كمظهر من مظاهر العجز والاستسلام .

لا بد من خلق جيل يعرف ذاته ويتواصل بوعي مع عالمه ويمارس الحب للذات والعالم بطريقة حكيمة ومتوازنة يحفظ ذاته ودورها وينفع عالمه وينتفع به وحتى ذلك الوقت سنبقى نشهد على فصول مأساة تستهلك دماءنا ووجودنا وكرامتنا وتعاكس بشراسة الإنسان كأشرف مخلوق وأعلى كرامة

من جهته، قال أوغسطين: “هناك نوعان من الحب: حب الذات حتى إفناء العالم وحب العالم حتى إفناء الذات”.

لعل المقصود باعتقادي أن التوازن بين الحبين لم يكن يوماً موجوداً وإلى الآن بمعنى إما يسلك الإنسان طريق الانتحار من خلال تأليه الذات فيحرق نفسه ومن حوله وإما ينسى نفسه لجهة معرفتها وتوجيهها الوجهة السليمة ويصل إلى النتيجة نفسها فيحرق نفسه تماماً بينما المطلوب إبقائها قوية في تكامل مستمر مع دواخلها وما يحيط بها من ظروف خارجية.

في بعض الفضاءات الثقافية والفكرية والإعلامية وحتى الدينية نعثر على تمركز فاحش حول الذات لجهة تقديسها إلى حد التعامي عن الوظيفة الأساسية لهذه الفضاءات المتمثلة برفع منسوب الوعي والتركيز على أهمية الكائن الاجتماعي الذي تنتفع به الحياة من كل الجوانب، لذا نرى الكثير من هذه الفضاءات الإعلامية والثقافية والدينية تعتمد المظاهر الفاقعة والسطحية في العرض والتناول للقضايا على حساب تقديم المضمون والقيمة متسلحة بمنطق الزبائنية والفساد في مسرحية فردانية تعزز فقط المجال المادي الطبيعي للذات وإثارة أهوائها وعصبياتها والدعوة إلى استغراقها في الماديات والتفاهات إلى درجة تفريغها من كل سمو وتألق.

تغيير الذوات عملية معقدة وصعبة ولا تكون حية إلا من خلال سعي عملاني متواصل جاد ومسؤول وحازم عبر رفض الازدواجية في الشخصية المتمثلة في النفاق الذي يقضي على أية فرصة حقيقية للتغيير المطلوب، فإذا ما استمر مسلسل التنافق فلا من ذات ولا من مجتمعات حيث الجميع يعيش في فوضى ودوامة وانعدام الوزن الإنساني والاجتماعي، وهو ما يترجم في كتابة تاريخ فرداني وجماعي يستريح على أسرار وألاعيب لا تعبّر عن الواقع والحقيقة.

من هنا لا بد من خلق جيل يعرف ذاته ويتواصل بوعي مع عالمه ويمارس الحب للذات والعالم بطريقة حكيمة ومتوازنة يحفظ ذاته ودورها وينفع عالمه وينتفع به وحتى ذلك الوقت سنبقى نشهد على فصول مأساة تستهلك دماءنا ووجودنا وكرامتنا وتعاكس بشراسة الإنسان كأشرف مخلوق وأعلى كرامة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  فريدمان لترامب: إنسف الحزب الجمهوري.. حماكَ الله!
Avatar

باحث وكاتب، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  لبنان بين الدول الـ 34 الأكثر فشلًا من أصل 179دولة