حين تتحول المأساة السورية إلى “ستاند” ترويجي!

منذ عقود، شكّل سجن صيدنايا رمزاً للرعب في ذاكرة السوريين. هذا المكان لم يكن مجرد معتقل، بل مصنعاً للمعاناة الإنسانية؛ مُورست فيه أبشع صنوف التعذيب النفسي والجسدي بحق المعتقلين السياسيين، المعارضين، وحتى الأبرياء الذين قادتهم الصدفة إلى هذا الجحيم إذ كشفت تقارير المنظمات الحقوقية بعضاً مما جرى خلف جدرانه، لكن الحقيقة الكاملة ما تزال مدفونة في الظلال.

بعد سقوط نظام آل الأسد أو التحرير أو انتصار الثورة، كما يشتهي كثيرون قول هذه أو تلك، جرى العبث بملفات وتخريب وثائق كان يُمكن أن تقود إلى العدالة، مثلما تم حرف السرديات..

ليس ذلك وحسب، فبعد مدة قصيرة، لم يعد صيدنايا عنواناً للدم والدمع، بل تحول – في مشهد أقل ما يُقال عنه أنه عبثيٌ صارخٌ – إلى منصة لتسويق المنتجات إذ تجرأت بعض الشركات الغذائية في سوريا على إقامة مهرجان ترويجي وبينها شركة بن حسيب التي يزيد عمرها عن عمر صيدنايا أو يساويه، وهكذا حوّلت الشركة الجدران الشاهدة على آلام وصراخ المعذّبين إلى خلفية لكوب من القهوة..

هكذا بشحطة قلم تاجر، يُمكنك شرب جراح السوريين وآهاتهم بسكر أو سادة، مع هيل أو من دونه.. هذا عائد إلى ذوقك الشخصي!

ثم جاءت واقعة ميرا وأحمد، الحبيبان العاشقان (من طائفتين مختلفتين) اللذان حاربا تقاليد المجتمع البالية وانتصرا بالحب بعد عامين من العذابات، لتشعل قصة حبهما مواقع التواصل الاجتماعي!

لكن قبل أن يكتشف الشعب السوري تفاصيل القصة التي في ظاهرها تحمل بعداً رومنسياً.. كان يمكن لميرا وأحمد أن يشعلا حرباً طائفية في البلاد..

القضية كادت أن تتحول إلى شرارة فتنة لولا أنها سُرقت سريعاً من يد الرأي العام، لكن التجار كان لهم رأي آخر.. قصة العشق هذه، وأبعد من انتصارها على المجتمع، قد تكون فرصة ذهبية لتجار الإعلانات. بالأمس، كانت دموع العاشقين تُهدّد بالاقتتال، واليوم يقفان معاً وهما يُروّجان لمحل جيسيكا للألبسة في حمص، بابتسامات مشرقة ونظرات حالمة..

يتهافت المعلنون على ميرا وأحمد ليس بسبب حرفيتهما بالإعلان إنما لاستثمار شعبية قصة شغلت بال الرأي العام السوري!

ليس أمراً اعتباطياً..

هذه التحولات ليست مجرد سذاجة إعلامية، بل تعكس واقعاً مريراً: المأساة السورية باتت سلعة، وما يثير السخرية أكثر، هو أن هذا التسليع لا يأتي فقط من الداخل..

الغرب، الذي لطالما صدّر نفسه كراعٍ للحقوق والحريات، يناقش اليوم بكل براغماتية مسألة رفع العقوبات عن الشعب السوري تحت ذرائع إنسانية ظاهرها المساعدة، وباطنها صفقات اقتصادية، وكأن المعاناة السورية لم تكن إلّا محطة على طريق تحرير الاقتصاد السوري ودفن دولة الرعاية لمصلحة نموذج اقتصادي ليبرالي متوحش وبعنوان الاندماج في الاقتصاد العالمي.

هذا ما تحدثت عنه الكاتبة والباحثة نعومي كلاين في كتابها الشهير الشهير “The Shock Doctrine” (عقيدة الصدمة) الذي صدر في العام 2009، والذي طرحت فيه نظرية “رأسمالية الكوارث” (Disaster Capitalism).

تقول كلاين – التي سافرت كصحفية إلى بغداد عام 2004 على مسافة شهور قليلة من الاجتياح الأمريكي للعراق – إن الحكومات والشركات تستغل الأزمات الكبرى، سواء أكانت حروباً أو كوارث طبيعية أو أزمات اقتصادية لتمرير سياسات اقتصادية نيوليبرالية وتحقيق مكاسب مالية، بينما يكون الناس في حالة صدمة وضعف.

في السياق السوري، حتى قصة حب أو خطف فتاة قد تصبح فرصة لتمرير هذه السياسات الاقتصادية المحلية أو العالمية.

ليست الأولى ولا الأخيرة!

صيدنايا أو قصة العاشقين لم تكن المرة الأولى لاستغلال الحرب السورية من أجل مصالح اقتصادية، فأثناء الحرب تم استخدام الصور والأخبار المتداولة عن الحرب والنزوح والفقر لخلق حملات ترويجية “عاطفية” تتلاعب بالمشاعر لتسويق منتج غذائي، أو حملة تبرعات عبر علامة تجارية، أو حتى تسويق منتجات فنية وسينمائية.

الأمثلة كثيرة منذ بداية الحرب السورية إذ استخدمت شركات إنتاج غذائي عربية مشاهد من الحرب السورية للدعوة إلى “دعم الصامدين” مقابل شراء منتجها.

كما أن الكثير من حملات التبرعات تم ربطها بشراء سلع استهلاكية، حيث يُقال للمستهلك إن جزءاً من الأرباح سيذهب لمساعدة اللاجئين السوريين، من دون أية شفافية فعلية.

في عالم الاقتصاد ليس هناك مكان للقيم الأخلاقية برغم ظهور نظريات عديدة تعالج المعضلة الأخلاقية ومنها نظرية التسويق الأخلاقي التي تدعو إلى استخدام الأحداث الحساسة في الإعلانات فقط إذا كانت النوايا حقيقية وتدعم الضحايا بشكل مباشر لكن من وجهة نظر التاجر أنت لست ضحية، أنت مجرد مستهلك.. برغم أنك استهلكت كل دموعك خلال سنوات الحرب المستمرة حتى اللحظة!

إلى متى؟

لا تستغربوا إن طالعتكم إحدى شركات الإنتاج بإعلان على هامش المجازر التي حدثت في الساحل السوري.. ربما سيحمل عنوان: لا تُقتَل وأنت جائع!

أو “خدلك بريك” قبل أن تُقتل.

أو أن ينتجوا إعلاناً ترويجياً لمسحوق غسيل لتنظيف الدماء عن ثياب الضحايا.. قبل دفنهم جماعياً.. مرفقاً بموسيقى تشويقية أو تسويقية – الأمر سيّان – في خلفية الإعلان..

إن أصعب ما يمكن أن يعيشه الإنسان، هو أن يرى جرحه يتحول إلى ستاند يُعلَّق عليه “بوستر” ترويجي .. ليبقى السؤال الأكثر إحراجاًً: إلى متى ستستمرون بالمتاجرة بالمأساة السورية وتحولونها إلى فرصة ووجعهم إلى مادة إعلانية؟ إلى متى ستتقاطع التجارة مع الألم، وتُنسى العدالة في زحمة العروض والخصومات؟

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الورقة الفرنسية.. الشياطين في التفاصيل وما أكثرها!
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لبنان.. في قبضة آل كابوني!