

إذن: جلسة وعشاء عمل. عمل ماليّ – تقنيّ، وسط مدينة معروفة بكونها مركزاً ماليّاً أوروبيّاً وعالميّاً.
هل هناك، أقلّه في المبدأ، أو في الظّاهر، كما أشير عادةً، ما من شأنه أن يُبعد الحاضرين عن عوالم المادّيّات، أو لنقل، ما من شأنه أن يسافر بالمشاركين – المدراء الماليّين أجمعين – من عوالم المادّة إلى عوالم الرّوح وإلى عوالم الأسرار الإلهيّة والوجوديّة في عشاء كهذا العشاء؟
طبعاً لا، ومع ذلك، جرّني حدس داخليّ معيّن إلى جرّ الجلسة نحو بُعد غير متوقّع.. أعتقد أنّ دخوله وضع البعض منّا في حالة مربكة، وبتجلّيات مختلفة.
***
كنّا خمسة أشخاص. بينهم لبنانيّان، ولو من ثقافة غربيّة إلى حدّ لا يستهان به أبدا.
كنت واحداً من هذين الأخيرين طبعاً.
كان من المفترض أن تكون أغلب المواضيع، وإن لم يكن كلّها كما جرت العادة في مواعيد كهذه: مواضيع ذات طابع ماليّ واقتصاديّ وتجاريّ.
أنا متّهم دائما من قبل زملائي، بالمناسبة، باقحام المسائل الفلسفيّة أو الرّوحيّة.. في أيّ مناسبة، ومتى ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
فعلتها في هذا العشاء واقعاً.
ربّما لتواجد أحد الأشخاص من ذوي الأصول الهنديّة بيننا.
إلى حدّ بعيد، نعم. أعتقد ذلك.
أكثر من عينيّ الفاتنة السّاحرة تلك، ذات الأب الهنديّ والأمّ البريطانيّة. ما هذا الخليط الجينيّ.. الجنّيّ؟ قلت لها، عند وصولنا، وأمام مديرها ومديري، وبشكل واضح: على البشريّة أن تكرّر وتكثر من أمثلة هذا المزيج الجينيّ النّاجح العجيب.
النّتيجة التي كانت شاخصة أمامي، مبهرة واقعاً. حسناء، لا شرقيّة ولا غربيّة. سمراء وشقراء، سوداء وبيضاء معاً.. تحفة فنّيّة بيولوجيّة إلهيّة، صاعقة للنّاظرين.
ولكن، برغم هول وخطورة وعمق هذا الجمال الذي كان جالساً أمامي، لا أعتقد أنّه هو الذي ألهم السّؤال “الالهيّ” القادم.
بالمناسبة، وبحسب تجربتي المتواضعة، فهذا النّوع من الجمال، مأخوذاً في ذاته ولوحده، يأتي عادةً بإلهامات.. بعيدة غالباً عن أن تكون من النّوع الرّوحيّ أو الالهيّ. ولكن، هذا بحث آخر طبعاً..
***
تحدّثنا عن الهند بشكل عامّ.
-عن نظام الطّبقات ضمن الثّقافة الهنديّة، وعن علاقته بنظريّة أو بمعتقد التّناسخ أو التّقمّص.
-عن نظرية “الكارما” الهندوسيّة، في نفس الإطار طبعاً.
-عن كيف ترى الثّقافة الهندوسيّة مسألة “الحياة والموت” او مسألة “الحيوات إن شئت”.. وصولاً إلى مكان أو مستوى أو مقام “النيرفانا” العَظيم.
-عن الشّرق القريب البعيد، وثقافاته وطرقه الروحيّة.
-بطبيعة الحال، تناولنا – بعض الشّيء – موضوع المعيشة والعيش في أوروبا، خصوصاً في المدينة التي كنّا فيها يومها. الموضوع يراودني شخصّياً في أحيان كثيرة: كأنّ أوروبا، بطريقة ما، تريدني أن أعود.. بعد أن عدت إلى “بلادي” منذ ما يقارب السّنين السّبع.
سؤال مادّيّ-ظاهريّ مُحيّر (بالمناسبة، أنا لا أؤمن بنظريّة السّفر الجسديّ تماماً، ولكن هذا بحث آخر أيضاً).
***
عدنا لنتحدّث عن الشّرق والغرب. لا أذكر التّفاصيل تماماً، ولكنّني أعتقد أنّي أنا من قمت، كالمعهود المعروف، بإعادة الموضوع الى المربّع – أو الدّائرة – الوجوديّة والرّوحيّة.
يحصل ذلك عادةً بشكل شبه تلقائيّ كما أشرت.
تردّدت قليلاً في أن أكمل هذا الحوار الذي تشعّب شيئاً ما.. ثم حصل أمر معيّن في داخل نفسي، أو روحي، خصوصاً في ظلّ الحديث عن الشّرق والغرب.
دفعني هذا “الأمر” أو “الخاطر” واقعاً إلى أن أنظر إلى الحضور بشكل مفاجئ.. نظرة “ما”، مختلفة.
قلت لهم: لماذا لا نطرح هذا السّؤال التّالي على أنفسنا الآن؟
رمانا صديقنا الفنلنديّ-الايطاليّ-اللوكسمبورجيّ – معاً – بنظرة مستغربة لكن محترمة. ربّما قال لنفسه حينها: تبّاً، هل نحن حقّاً في عشاء عمل هنا؟
***
قلت: بالأحرى، سأطرح السّؤال عليكم، وليعطِ كلّ واحد منّا جوابه، ونكون بعد ذلك من المقارِنين.
في الحقيقة، خطر على بالي حينها سؤال يشبه أسئلة أساتذة “الاقتصاد الجزئيّ”، والتي كثيراً ما تتضمّن اشكاليّات حول خيارات معيّنة، مدروسة مفاهيميّاً و/أو رياضيّاً، على الفرد أن يختار بينها..
سألت الحضور، إذن، إن كان موافقاً. فأشار أغلبهم بالايجاب، وكانوا من المنتظرِين.
***
قلت: لنفترض أنّه أتاني تفويض معيّن من قبل ما يمكن تسميته بالسّماء أو بالعوالم “العُلويّة”.. أو من الوجود – “نفسه” – إن شئتم..
تفويض، إذن، بأن أهب كلّ واحد منكم ربحاً بين ربحَين، يختار بينهما مع استحالة الجمع. فإمّا هذا وإمّا ذاك:
- الرّبح – الخيار الأوّل: أن أعطيكم الآن، وفوراً، ١٠٠ مليون دولار أميركيّ نقديّ حقيقيّ واقعيّ شرعيّ.. على أن يتمّ تحويل المبلغ إلى حسابكم في غضون دقائق، من دون أيّ مشكلة ومن دون أيّ صعوبة ولا حاجة لإنجاز أيّ عمل أو أوراق أو موافقات اضافيّة من أيّ جهة على الأرض أو في السّماء.
- الرّبح – الخيار الثّاني: أن أعطيكم، أيضاً بتفويض أكيد مُبين، وبشكل فوريّ.. “جواب الأجوبة، ومفتاح المفاتيح”.. من قبل السّماء أو الوجود أو العوالم الإلهيّة إلى آخر القائمة وآخر التّسميات. بعبارة أخرى، يتمثّل الرّبح الثّاني في أن أعطي كلّ واحد منكم الجواب الذي ينتظره، والذي ينتظره كلّ مفكّر وكلّ فيلسوف وكلّ حكيم وكلّ سالك، وربّما كلّ انسان حول العالم ومنذ فجر التّاريخ. إنّه الجواب على السّؤال المركّب التّالي: لماذا نحن “هنا”، وما هو المعنى الحقيقيّ اليقينيّ من هذه الحياة، وما الذي سيحصل بالتّالي بعد موت الجسد وتوقّف الدّماغ عن العمل؟
***
إذن، الخيار واضح. لندقّق أكثر: ١٠٠ مليون دولار في عصرنا هذا، أو المعرفة اليقينيّة الحقيقيّة لمعنى وجودنا من أساسه، ولمعنى حياتنا وولادتنا وموتنا على هذه الأرض الزّرقاء للنّاظرين.
فماذا أنتم مختارون؟
ليس هناك أيّ “فخّ” وراء أيّ خيار بالمناسبة. لا عاقبة مستورة في لعبة الخيار هذه، ولا وراء أيّ من الخيارين. ربح صرف أكيد، مقابل ربح صرف أكيد. إمّا هذا الرّبح أو ذاك. لا خسارة مخبّأة، بحسب قواعد اللّعبة.
أمّا صديقنا الهنديّ، الخارج، بحسب قوله هو، من تجربة معاناة شخصيّة مؤلمة، فقد ابتسم لفهمه خطورة السّؤال، ولكنّه كان أوّل من أجاب بوضوح: هات الـ١٠٠ مليون واتركني وشأني، فما أنا بعدُ من الصّابرين.
وأمّا صديقنا الأوروبيّ الصّرف، فلم يكذّب الخبر ولا كان من المتردّدين، واختار الـ١٠٠ مليون من دون أيّ شيء إذن.. يشبه أيّ نوع من التّردّد المُبين.
صديقتنا الحسناء العجيبة.. بدا لي أنّها اضطربت في داخلها بشكل عميق، وهذا ما تأكّد عندي لاحقاً. ولكنّها اختارت الـ١٠٠ مليون، برغم كلّ ما بدا على وجهها للعين وللحدس الكريم.
صديقنا اللّبنانيّ ناقش السّعر طبعاً، وطلب مليار دولار، فقلت إنّ لي تفويضاً حتّى بالمليار.. نقداً للطّالبين. اختار المليار بكلّ ثقة، مع تشديده على أنّه لم يكن ليقبل ثمناً أقلّ من ذلك أبداً (على الطّريقة اللّبنانيّة).
أمّا كاتب هذه السّطور، فسيختار هنا عدم البوح بما اختار في بيعه الذي بايع الوجودَ به، لكي نُبعد أيّ شبهة أنانيّة أو فردنة أو استعراض.. إلى آخر القائمة.
لم تنته القصّة هنا عزيزي القارئ، وقد نعود إلى ما حصل بعد ذلك لاحقاً. ولكنّني اليوم متأكّد أكثر من أيّ وقت مضى من أهمّيّة وعمق هذا السّؤال الذي جاءتني به تلك اللّيلة..
فتأمّل معي جيّداً، وبتعمّق وبهدوء: ماذا ستختار، أنت، عزيزي القارئ، بعد أن تغوص جيّداً في هذا السّؤال العجيب؟
ربح صرف، مقابل ربح صرف. فأيّ الرّبحَين ستختار في العالَمِين؟