عباس عراقجي الكاتب في بيروت: “قوة التفاوض”

يتصور البعض أن موازين القوى في لبنان انقلبت إلى حد أن أي مسؤول إيراني يريد زيارة لبنان، عليه أن ينال الضوء الأخضر المسبق من إسرائيل أو الولايات المتحدة. بالمقابل، يُريد الإيرانيون الإجابة على طريقتهم: تلقينا ضربة كبيرة في لبنان، كما في سوريا لكننا لم نُهزم.. والدليل أن وزير خارجية إيران عباس عراقجي اختار بيروت مكاناً لتوقيع كتابه "قوة التفاوض" الصادر باللغة العربية.

عن “دار هاشم”.. “المتورطة” حديثاً في دخول عالم النشر من أوسع أبوابه (بيروت)، صدر كتاب “قوة التفاوض” لوزير خارجية إيران عباس عراقجي. هو باكورة إصدارات الدار الذي يُكرّم بولادته الأخوين التوأمين هاشم وحسن هاشم (الأول والد الزميل علي هاشم والثاني عمه)؛ الأخوان اللذان ولدا معاً واختارا الرحيل معاً خلال حرب إسرائيل الأخيرة (أيلول/سبتمبر 2024) بمرض عضال وبفارق أيام أربعة؛ الرجلان اللذان أمضيا عقوداً من عمرهما في ساحات الإغتراب كداً وتعباً في مجاهل أفريقيا لتأسيس حياة آمنة لأولادهما ولشيخوخة لم يدركاها، مثلما لم يُدشنا جنى عمرهما في بلدتهما الناقورة حيث كان البيت الذي ابتنياه بعرق الجبين هدفاً لحمم النار الإسرائيلية فجعلته رماداًً.

***

كتاب “قوة التفاوض” (213 صفحة)، هدفه، حسب ناشره (دار هاشم) هو “لعب دور الجسر في منطقة تعصف بأبنائها أزمات كبيرة وخطيرة”، وإدراك “أنه مهما طالت الحروب فإن الحقائق الصحيحة والمشتركات الإنسانية هي التي تمكث في الأرض، وهي ما يجمع العرب والفرس والترك والكرد بأديانهم وثقافاتهم المتنوعة في بقعة نفيسة من هذا العالم”. ثم تأتي مقدمة الكاتب الموجهة إلى “القارئ العربي” ويُعرب فيها عن سعادته بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، ويكتب عراقجي “يمتلك العالم الإيراني والعربي تاريخاً حافلاً بالتفاعل والتعايش، رغم ما شهده من مدٍّ وجزر”. ثم التقديم الثاني بقلم وزير خارجية إيران الأسبق محمد جواد ظريف وفيها تتبدى الحكمة الظريفية من خلال التأكيد على الحوار “الذي كان وسيظلّ من أول متطلبات الحكم وأفضل طريقة لتقليل التكاليف وزيادة المكتسبات”، غامزاً من قناة بعض ما تعرّض له من انتقادات فيقول عن مستلزمات الحوار “الاستعداد للتضحية والمخاطرة بالسُمعة الشخصية لتحقيق المكاسب القومية”.

يتضمن كتاب “قوة التفاوض؛ مبادئ وقواعد المفاوضات السياسية والدبلوماسية” ستة أبواب، وتحت كل باب هناك العديد من العناوين الفرعية التي تتصل بمفهوم فن الدبلوماسية.

في تمهيده للكتاب يقول عراقجي إنه “عندما تتحدث عن المفاوضات الدبلوماسية يتبادر في أذهان بعض الناس أشخاص يرتدون أزياء أنيقة وجذّابة يجلسون خلف طاولات المراسم وهم يضحكون ويحتسون قهوة باهظة الثمن، لكن الحقيقة مختلفة، كل شيء يتغيّر ما أن يخرج الصحافيون من قاعة الاجتماع، فالأشخاص الذين كانوا يتظاهرون بالابتسامات أمام الكاميرات يتحولون فجأة إلى أشخاص جادّين متجهمين أحياناً، وتخرج الملفات والأوراق أو أجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية هذه الأيام التي أُخفيت عن أنظار الإعلاميين الفضوليين لتوضع على الطاولة وهنا تبدأ “حرب الإرادات والمهارات”. فالمفاوضات الدبلوماسية “هي في الواقع ساحة حرب واجتيازها أشبه ما يكون حقل ألغام محفوف بالمخاطر والتوترات إذ يؤدي أدنى سهو إلى الدمار” (ص27).

***

في الباب الأول من الكتاب بعنوان “ماهية المفاوضات السياسية ومفهومها”، يرسم عراقجي الإطار المفاهيمي للتفاوض: أولاً؛ الحوار “الذي هو جوهر خلق الإنسان”، ثانياً؛ “الإنسان في الأصل كائن اجتماعي”، ثالثاً؛ التفاوض هو “تفاعل البيان والكلام” وهدف التفاوض “تحقيق أفضل صفقة ممكنة” تُرضي الطرفين (ص42)..

في الباب الثاني بعنوان “أنواع المفاوضات السياسية”، يُقسّم عراقجي المفاوضات وفقاً للأهداف، فهناك التفاوض من أجل التعاون، التفاوض لحل الخلاف، التفاوض لمواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، التفاوض الوقائي، التفاوض من أجل الوساطة (يشبه ما تقوم به قطر بين حماس وإسرائيل مثلاً)، التفاوض لأجل التفاوض، وأسباب هذه الاخيرة عديدة منها لشراء الوقت، خفض الضغوط، لعبة إلقاء اللوم، كسب المعلومات، تأكيد المكانة والاعتبار الدولي لهذه الوحدة السياسية أو تلك.

أما بالنسبة إلى تقسيم المفاوضات السياسية، وفقاً للشكل والترتيب، فيراها عراقجي كالآتي: المفاوضات الثنائية أو متعددة الأطراف، المفاوضات الرسمية وشبه الرسمية وغير الرسمية، المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، المفاوضات السرية وشبه السرية وغير السرية. هذه المفاوضات يختصرها عراقجي بكلمة “المفاوضات المركبة”، فقد تحوي عملية تفاوض مباشرة جوانب سرية وشبه سرية وغير سرية وتعقد بصورة متزامنة على مستويات رسمية وشبه رسمية وغير رسمية بل ويُستفاد خلالها أحياناً من الوسطاء الذين ينقلون الرسائل بشكل غير مباشر.

***

إذا كان هذا الكتاب ثمرة “حوالي أربعين عاماً من الدراسة والمتابعة والعمل والتجربة في المجالات الدبلوماسية والمفاوضات السياسية”، فإن الباب الثالث يأتي بعنوان “المفاوضات السياسية والقوة الوطنية”، ويُعدّد فيها مواصفات يجب أن تتوفر في المفاوض الناجح ومنها: أن يتجهز ويتمكن من المهارات التفاوضية الأساسية مثل قوة البيان والاستدلال والتعبير والذكاء والتدبير والتجربة وقدرة التأثير، إلا أن المحرك الأساسي لديه هو دائماً القوة الوطنية لدولته ومقوماتها مثل الإمكانات الدفاعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والخطابية والاعلامية والديبلوماسية، مميزاً بين أربعة أشكال من القوة: القوة الصلبة والقوة الناعمة والقوة المعنوية والقوة الذكية، ترفدها عوامل الجغرافيا والموارد الطبيعية والسكان والقدرة العسكرية والتنمية الاقتصادية والعلم والتقنية والتربية والتعليم والثقافة والتاريخ، مؤكداً على قوة التفاوض تحت عنوان “دراسة حالة/ دور عامل القوة في المفاوضات النووية بين إيران ومجموعة خمسة +1” والتي أدت إلى ولادة الاتفاق النووي عام 2015، وما لبث أن ألغاه الرئيس دونالد ترامب في العام 2018.

إقرأ على موقع 180  الصحافة الإسرائيلية عن "حرب الظلال": ما بعد "القنصلية" ليس كما قبله!

***

يغلب على الكتاب الطابع الأكاديمي الجامعي، ولكن مع عرض تجارب ومعلومات من وحي تجربة التفاوض النووي السابق مع الولايات المتحدة بما يمنح القارئ شعوراً بالدهشة والتقدير من خلال متابعة دهاليز عمل المفاوض وفنون الدبلوماسية (الكفاءة ولغة الجسد والتعبير إلخ..). وقد أورد عراقجي مجموعة من الطرائف ومنها قصة القلم في أثناء المفاوضات السابقة وتتعلق بانفعال وزير خارجية أميركا الأسبق جون كيري عندما ضرب بيده على الطاولة فطار القلم الذي أمامه ليصطدم بوجه عراقجي (كان عضواً في الوفد الإيراني المفاوض)، فما كان من الأخير إلا أن حمل قلمه ورماه بوجه جون كيري، لكن كيري اعتذر وأوضح أن تصرفه كان غير مقصود (وقد ذكر هذه الحادثة في كتاب مذكراته).

وإذ ينصح عراقجي بالامتناع عن اطلاق الاقتراحات المتطرفة كي لا يحصل تنازل تدريجي باتجاه الأقل والأقل، كذلك ينصح بعدم إطلاق التهديد والكلام الفارغ وبخاصة إذا لم يكن بمقدور مطلق التهديد تنفيذه، مستشهداً بسيف الساموراي وخنجر اليمني، ناقلاً ما ذكرته مساعدة كيري ورئيسة الوفد الأميركي المفاوض ويندي تشيرمان في كتاب مذكراتها من أن عراقجي “يتمتع بهدوء ورباطة جأش فولاذية وثابتة أكثر من أي شيء آخر إذ كان يجعلنا جميعاً غاضبين على الجانب الآخر من طاولة المفاوضات”، على عكس ما نُقل عن كيري، في اجتماعاته مع الوفود العربية لأجل سوريا حين قال إن العرب “يتعبون بسرعة، وبعد فترة يقبلون بأي ما تقوله” (ص 195 من الهوامش).

***

الباب السادس والأخير من الكتاب عنوانه “مساومة البازار: نهج إيران التفاوضي”، وفيه يقول عراقجي القادم من أسرة عريقة في عالم تجارة السجاد بأن المتعارف عليه عالمياً أن أسلوب تفاوض الإيرانيين شبيه بأسلوب تجار البازار، بما يعني المساومة المتواصلة والدؤوبة، ويسمونها أيضاً بأسلوب مساومة تاجر السجاد. هذا الأسلوب عبارة عن عملية من التفاعل تحتاج إلى صبر كبير ووقت وثمن ضخم وخلالها من يتعب أولاً ويمل سيكون هو الخاسر..

في هذا السياق، يروي عراقجي أن والده أخبره بقصة مفادها أن “بائعاً خرج من متجره لغرض ما، وفي ذات الوقت جاء أحد الزبائن، فلم يستطع عامل المتجر تلبية رغبات الزبون. وعندما عاد البائع وعلم بأن الزبون خرج، أمسك وزنة الميزان، وكسر ساقه حتى لا يغادر المحل مرة أخرى”. بناءً على تلك القصة، يشرح الوزير الإيراني القواعد والأصول التي تُوصي طهران بها دبلوماسييها في مختلف المحافل السياسية الدولية.

ويورد عراقجي أيضاً حادثة تُلخص عنوان كتابه “قوة التفاوض” عندما أدى بصلابته ومثابرته وأناته أن يتسبب لرئيسة الوفد الأميركي للمفاوضات ويندي تشيرمان “أن غضبت وانهارت دموعها بشكل لا إرادي”. يقول كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها مفاوضاً يبكي أثناء المفاوضات (ذكرتها تشيرمان في مذكراتها).

في هذه الحادثة كانت جميع الأطراف (الخمسة زائداً واحد وبينها فريق المفاوضات الأميركي) تقترب من الإعلان عن توقيع الاتفاق (2015)، ولكن عراقجي عندما سألته شيرمان هل أنت موافق على الاتفاق قال لها “نعم.. ولكن”، عندها انهمرت دموعها وقالت له: “أنتم دائماً تطلبون المزيد”.

ويستعين عراقجي بتغريدة للوزير الأسبق محمد جواد ظريف بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015 قال فيها إن فن الدبلوماسي “يكمن في أن يخفي دهاءه كله خلف ابتسامته”..

 ***

يأتي إصدار كتاب “قوة التفاوض” في ظل المفاوضات الدائرة حالياً بين الولايات المتحدة وإيران حول البرنامج النووي الإيراني، وثمة انطباع أن الأمور بلغت مرحلة يسميها وزير الخارجية الإيراني في هذا الكتاب بـ”نقطة البلوغ”. تلك النقطة التي يُعرّفها عراقجي بـ”اللحظة التي يقتنع فيها طرفا المفاوضات أن خياراتهما المستخدمة ضد بعضهما البعض لم تجبر أياً منهما على الرضوخ والتراجع”.

في الخلاصة، يمكن القول إنه على الرغم من تدوين عراقجي لكتاب “قوة التفاوض” قبل أشهر قليلة من وفاة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي وحدوث التغيير السياسي الذي قاد لتولي عراقجي مسؤولية وزارة الخارجية، إلا أنه يعكس حقيقة الفكر التفاوضي لدى الوزير الحالي، لذا فإن الإطلاع عليه جديرٌ بالأهمية لكل من يريد أن يُشكّل تصوراً ذهنياً عن العقل الإيراني الذي يفاوض فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب حالياً.

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إغتيال سليماني بعيون إسرائيلية: سيناريوهات الرد مفتوحة