هندسة جديدة للإقليم في مواجهة إيران.. والانفلات الترامبي نحو الخليج

قبل ١٤ عاماً، حذّر رئيس "الموساد" الأسبق مائير داغان، في إفادةٍ قدّمها يوم مغادرته منصبه، من ألّا يؤدّي أي هجوم إسرائيلي على إيران إلى إنهاء مشروعها النّووي، بل يكون ذريعة لإيران لاستئنافه بكلّ قوّة. وذكر يومها أنّ تدميره بالكامل بواسطة عمليّة عسكريّة إسرائيلية منفردة ليس ممكناً.

على أرض إيران، ومن داخلها، وفي خطّة محكمة أُطلق عليها تسمية “الزفاف الأحمر” (مستوحاة من مسلسل “صراع العروش” حيث تمّ تنفيذ مذبحة خلال زفاف سياسي)، استطاعت إسرائيل أن توجّه ضربةً معنويّة كبيرة ولكن غير قاضية لإيران. فهي نجحت في تصفية كبار القادة العسكريين والأمنيين وكبار العلماء النوويين، ثمّ ضرب المنشآت النووية والعسكرية، تطبيقاً لعقيدة أمنية إسرائيلية قديمة جديدة تقول: “الدفاع يبدأ من عمق أراضي العدوّ لا عند حدودنا”.. وتمّت ترجمتها في نسختها الإيرانية وفق ما لخّصه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية شلومي بيندر بقوله: “تحويل مسافة ١٥٠٠ كيلومتر التي تفصل بين الدّولتين إلى شيء غير موجود بكلّ ما يترتّب على ذلك”.

نجح الهجوم في تصفية القادة والعلماء.. ولم يكن وليد خطّة مستجدّة، بل هو وفقاً لرئيسة قسم الأبحاث في “الموساد”.. “تتويجٌ لسنوات من العمل”.. هي بطبيعة الحال، سنوات سابقة على تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تماماً كما كان الأمر بالنسبة لعملية “البيجرز” في لبنان.

هكذا، لم يكن فجر الثالث عشر من حزيران/يونيو الجاري عاديّاً. كاد “الإنجاز” أن يؤطّر عقول المراقبين بفكرةٍ واحدة مفادها أن إيران في طريقها إلى التّفكّك السّريع، وأنّ الخرق أكبر من أن يحدّ الخسائر التي قد تُقبل بعد. وأنّ ما أُنجز قد يكون أعمق بكثير مما هو مُعلَن.

أفرد الحدث المستجدّ مساحةً للسؤال الآتي: هل نُفّذت الضّربة الإسرائيلية بمباركة وخديعة أميركية، أم أنّ اندفاعة نتنياهو ترمي إلى إحراج ترامب وجرّه إلى ملعبه؟

بدا السؤال مشروعاً بعض الشيء، ذلك أنّ الأيام الأخيرة ما قبل “الزّفاف الأحمر” لم تكن تشي بعسلٍ يسود علاقة “بيبي” بترامب. كانت زيارة الأخير إلى السّعودّية الحدث الأبرز في هذا الإطار. يومها، أسالت الصّحافة العبريّة أقلاماً لاذعةً في نقدها. كتب بن كسبيت في “معاريف”: “هنالك هلع حقيقي في إسرائيل، وإسرائيل تجيد المبالغات، وترى كل ما لا يروقها تهديدًا وجوديًا. ترامب في السعودية، إنها كارثة على وجود إسرائيل”.. فيما توجّس نحوم برنياع من الصفقات التي عقدها ترامب مع السعودية، والتي قد تصل في مدى عشر سنوات إلى نحو 2 تريليون دولار، ما يمنح القادة الخليجيين نفوذًا سياسيًا في أميركا لم يعطَ لأي دولة أجنبية حتى اليوم، وهو الأمر الذي يشكّل خطراً على أمن إسرائيل بحسب برنياع.

كلام هذا وذاك تقاطع مع ما قاله زعيم المعارضة الإسرائيليّة يائير لابيد في الكنيست: “كل الأحداث المهمة فعلًا تجري بدوننا. ستعقد قمة مهمة في السعودية ونحن لسنا هناك. الصفقة التي تبرمها أميركا الآن مع السعوديين تشكل خطرًا على أمن إسرائيل، ترامب سئم من مماطلات نتنياهو، ويمضي بمفرده. نتنياهو أفقدنا أميركا”. وإذا ما أضيف إلى كلّ ذلك الاتفاق الذي عقده ترامب مع الحوثيين من دون التنسيق مع إسرائيل، واستبعاد ترامب لمستشاره للأمن القومي، القريب جداً من نتنياهو، فإنّ زاوية قراءة الأحداث الجارية بين إسرائيل وإيران تغدو أكثر اتّساعاً، وكذلك زاوية قراءة الأهداف، فهل ينوي نتنياهو القضاء على المشروع النووي الإيراني فعلاً، أم أنه يرمي إلى كسب أهداف أقلّ في الأثر الآنيّ، لكن أبلغ في البعد الاستراتيجيّ؟

ويقول رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي: “لا تمتلك إسرائيل القدرة على القضاء على المشروع النووي الإيراني باستخدام القوة العسكرية”، ويضيف “نحن لانملك القدرة على إسقاط نظام آية الله.. الوحيدون القادرون على إسقاطه هم أبناء الشعب الإيراني أنفسهم، وهنا قد يكون لظهور النّظام في حالة من الضّعف تأثير معيّن”.

تبدو أهداف إسرائيل من الضّربة وفقاً لذلك محدّدة ومؤطّرة. ولم يكن نتنياهو ليُقدِم على مغامرته هذه من دون تأييد الداخل الإسرائيلي في الأساس، لا الخارج الأميركي بالضّرورة، برغم الأخذ بالاعتبار أن إضعاف إيران والتخلّص من ورقتها هو هدف أميركي بامتياز، كونه البوابة الأساسية لإضعاف الصين بعد ترهّل روسيا. وقد أبرز آخر استطلاع شهري نشره معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب أن الغالبية الإسرائيلية عبّرت عن تأييدها للحرب على إيران، وأنّ الجبهة الداخلية مستعدّة لدفع أثمان إذا استمرّت ثلاثة أشهر. وهو استطلاع يبدو منطقياً إذا ما قيس بالصّعود الكبير لليمين الفاشي في إسرائيل، والمزايدة التوراتيّة على الأحداث. فالناس “تصبر” على “آخر المعارك الوجودية” التي ستؤمّن مستقبلها من جهة، وستُعَملق “الأسد الصّاعد” من جهةٍ أخرى، كما يعتقدون.

لكن، هل كان الإسرائيليون يتوقّعون هذا الرّدّ المشرّف من قبل إيران؟

لم تكن الضربات الصاروخيّة الإيرانيّة دقيقة وحسب، بل أبرزت قدرةً عاليةً على إلحاق الضرر بالمباني والأحياء، كما على استنزاف مخزون الصواريخ الاعتراضيّة الإسرائيلية، وإرهاق خزينة الدولة. هذا فضلاً عن اللّحمة التي أحدثها العدوان على إيران بين أبناء الشعب الإيراني أثناء الحرب، وإن كان الأمر قد يختلف فيما بعدها.. وهي لحمةٌ بل وهو ردٌ أفرز النموذج الإيراني على كونه آخر النماذج المصارعة للهيمنة والمقارعة للوحش الإسرائيلي المُبيد، ما أفرح أبناء فلسطين، وما أحرج غالبية العرب..

إقرأ على موقع 180  إيران وإسرائيل.. الحرب قد لا تبقى "في الظل"!

لكنّ الفاعل الإيرانيّ الذي ما عاد عنده ما يخشاه، صحيحٌ أنّه يؤلِمُ بحقّ، ولا يستسلم، ولم يلعب كامل أوراقه بعد، فإنّه حتّى اللحظة لم يمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها المدرجة أعلاه، وإن كان أفق الصراع ما يزال مفتوحاً. نتنياهو، الذي يعرف تماماً كيف يدخل الحروب، لا يعرف كيف يخرج منها، وكيف يقف عند نقطة الذروة، وهو غالباً ما يشحذ إخراجاً من الخارج الذي أحرجه واستماله قبل انفلاته. لكنه يُجيد اللعب على الحبال في الإقليم، وينجح في أن يفرض نفسه لا كعبء جديدٍ على أميركا الترامبية، بل كمهندسٍ لخريطة إقليمية وعالميّة صاعدة. وهو بذلك يستثمر في شخصية ترامب نفسها وفي عقيدته الرئاسية.

بهذا المعنى، لا ينتمي دونالد ترامب إلى “مدرسة ويلسون” التي ترمي إلى بسط النفوذ الأميركي عبر نشر القيم الأميركية، ولا إلى “مدرسة هاملتن” الرامية إلى منع أن تقوى دولة إلى حدّ تهديد مصالح أميركا، بل ينتمي إلى “مدرسة جاكسون” (نسبة إلى الرئيس الأميركي الأسبق أندرو جاكسون الذي علّق صورته في مكتبه في ولايته الأولى)، وتتأسس عقيدتها على مبدأ أنه ليس مهماً لأميركا أن تدير العالم، إذ أن العالم سيدير نفسه، هذا من جهة. من جهة أخرى، يفتخر ترامب بانتمائه لـ”عقيدة الجنون” وهي مدرسة في السياسة ترمي إلى إيهام خصمها بالجنون حتى يصعب عليه توقّع ما سيبدر منه من أفعال. ستتيح نظرية الرجل المجنون هذه لترامب أن ينفلت من كلّ المعايير الدبلوماسية أو كلّ القواعد الخطابية، لينطق بما يحلو له كيفما يحلو له، ويُغرق خصمه بالتكهّنات والضياع قبل أن يرسو المشهد على واقع بعينه.

أمكن للمتابع من هذا المنطلق أن يفهم التصاريح الترامبية الأخيرة، من أقصاها إلى أدناها.. ومن يمينها إلى يسارها.. تصاريحٌ قد لا توحي بالجدية بقدر ما تعطي انطباعاً بأنّ زحمة الكلام ترمي إلى إنهاء حالة الحرب مع إيران بطريقة ما.. والعودة إلى التفاوض، بشكل قد يدّعي فيه الجميع أنّه انتصر، لكن يؤمّن لإسرائيل مزيداً من الأمن المؤقت، ورؤيةً تدّعيها بأنّها شارفت على”كشّ ملك”، وعرّضت نظامه للمساءلة الداخلية بدءاً من اللحظة التي تنتهي فيها الحرب كما قد يخيّل إليها، وفقاً لتصريح تساحي هنغبي نفسه.

سيدخل كلّ أطراف الصراع الدائر اليوم التاريخ من الباب العريض إذ يُغيّرون مسرى هذا الشرق، أياً يكن شكل هذا التغيير.. يدخله المرشد الإيراني من باب اتساق أفعاله مع المبادئ الثورية التي أسس عليها جمهوريته، ويدخله ترامب من باب التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية وعقد الصفقات المربحة في الجوار إذا استطاع ، فيما يدخله نتنياهو من باب جرأته على إفلات الأسد في الإقليم لإعادة هندسته. لكنّ التاريخ الذي سيكتب للأخيرَيْن أنهما انتصرا بوحشيتهما لوحشيتهما، سوف يؤكّد على أن ما جرى منذ يوم السابع من أكتوبر هو حدث أفرز أكبر كمية ممكنة من المستحيل في ظرف زمني ضيّق نسبياً.. “نحن نوجد، لكننا لا نحدث إلا نادراً”.. هكذا قال المفكر فتحي المسكيني تعليقاً على الأحداث آنذاك.. وقد قال يومها أيضاً: “ما يحدث في غزة هو شكل كولونيالي شديد الارتباط بالوجه المظلم من آلة الحداثة.. لقد أتقن الصهيوني في القرن العشرين كيف يترجم اللعبة الكولونيالية للحداثة في تمرين إبادة على الطريقة الأميركية”.

يتمرّن الإسرائيليون والأميركيون على الإبادة والاستعباد، ويخلقون ألف فضاء من الأسئلة حول الهوية والانتماء والثقافة والعصر ومن نحن اليوم، لكنهم سيظلّون يخلقون نقائضهم مهما تمكّنوا.. وقد يفرزونها من دواخل مجتمعاتهم، في أجلٍ قد لا يكون بعيداً نسبياً.

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  عندما يُجازف بايدن إسرائيلياً في سنة.. إنتخاباته!