

عرضنا في الجزء الأول لدور المعارضة الأكاديمية في حقبة الشاه محمد رضا بهلوي إستناداً إلى مجموعة من الوثائق أبرزها تلك الصادرة عن جهاز “السافاك”، الذي تمكن من زرع شبكة من المخبرين طلاباً وأساتذة وإداريين في جامعة طهران وباقي الجامعات الإيرانية، كما تناولنا أبرز الاتجاهات والتيارات الفكرية في جامعة طهران وجامعات الأقاليم وأبرز رموزها من المثقفين والأكاديميين، فضلاً عن خصائص المعارضة المثقفة خارج طهران. وفي الجزء الثاني والأخير، نتناول دور الأساتذة في الكليات والمعاهد الحكومية والخاصة.
***
على الرغم من أن الكليات التقنية والطبية الحكومية كانت أقل انخراطًا في النشاط السياسي المباشر مقارنة بكليات الآداب والعلوم الإنسانية، إلا أنها لم تكن بمعزل عن المعارضة. عبّر العديد من الأساتذة في هذه الكليات عن معارضتهم للنظام من خلال انتقاد السياسات التعليمية والصحية والاقتصادية. كان الأساتذة في الكليات الطبية، على وجه الخصوص، ينتقدون سياسات الصحة العامة التي ركّزت على المدن الكبرى وأهملت المناطق الريفية. بعضهم شارك في برامج التطوع الطبي في القرى النائية، فكانوا شهوداً على واقع الفقر والإهمال، ما زاد من حدة انتقاداتهم للنظام. وبرزت منهم شخصيات مثل الدكتور كاظم سامي (طبيب نفسي)، الذي أصبح لاحقًا وزيرًا للصحة بعد الثورة الخمينية عام 1979.
لم تكن المعارضة مقتصرة على الجامعات الحكومية، فأساتذة الجامعات والمعاهد الخاصة، على الرغم من أن عددهم وتأثيرهم كان أقل من الآخرين، إلا أنهم ساهموا أيضًا في نشر الوعي النقدي. وهؤلاء الأساتذة غالبًا ما كانوا يتمتعون ببعض الاستقلالية عن الضوابط الحكومية المباشرة المفروضة على الجامعات الحكومية الكبرى، ما أتاح لهم مساحة أوسع للنقد غير المباشر أو المناقشات الأكثر حرية في الفصول الدراسية.
***
لعبت النساء الأكاديميات المعارضات أدوارًا محورية، برغم العوائق الاجتماعية والسياسية التي كانت تعترضهن. عارضت هذه الفئة سياسات الشاه من منظور مزدوج: كمثقفات ناقدات للاستبداد، وكنساء مدافعات عن حقوقهن في مجتمع محافظ، حيث طالبن بتمثيل أوسع ومشاركة حقيقية، ومن بينهن:
- الدكتورة زهرا رهنورد (زاده كاظمي): كانت طالبة ثم أستاذة في الفنون بجامعة طهران. لعبت دورًا فكريًا مهمًا من خلال كتاباتها التي جمعت بين الفكر الإسلامي والعدالة الاجتماعية، وتأثرت بأفكار علي شريعتي. كانت زوجة مير حسين موسوي، ولها نشاط طلابي وأكاديمي مؤثّر.
- الدكتورة عظمى ألموتي: أستاذة في القانون، عُرفت بنشاطها في الدفاع عن حقوق الإنسان ومعارضة سياسات الشاه القمعية، وشاركت في اللجان الحقوقية السرية التي كانت توثّق الانتهاكات.
- العديد من الأستاذات في كليات الآداب وعلم الإجتماع والتربية استخدمن مواقعهن لتوعية الطالبات وتشجيعهن على التفكير النقدي والمشاركة في النشاط السياسي والاجتماعي. ولقد ساهمن في تأسيس منظمات نسائية مستقلة عن الحكومة، وركزن على قضايا مثل تعليم المرأة ومشاركتها في المجتمع، كجزء من رؤية أوسع لمجتمع إيراني أكثر عدلاً وحرية.
***
مثّلت معارضة أساتذة الأقليات الدينية والعرقية (الأرمن، اليهود، البهائيون، الأكراد، العرب، البلوش) بعدًا آخر من أبعاد المعارضة الأكاديمية. واجه هؤلاء الأساتذة تمييزًا مزدوجًا: كمعارضين سياسيين، وكأعضاء في أقليات غالبًا ما كانت مهمشة أو مستهدفة. الأكاديميون الأرمن، على سبيل المثال، عارضوا سياسات “التفريس” (من فارسي) التي استهدفت لغتهم وثقافتهم. أما الأكاديميون البهائيون، فقد واجهوا اضطهادًا شديدًا من قبل النظام، ما دفع كثيرين منهم إلى الهجرة أو العمل بشكل سري.
***
شكل الأكاديميون الإيرانيون المقيمون في الخارج، وبخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، شبكة مهمة من المعارضة الخارجية. استفاد هؤلاء من الحرية الأكاديمية المتاحة في الجامعات الغربية لإنتاج بحوث ودراسات نقدية حول النظام الإيراني. من أبرز هؤلاء: أبو الحسن بني صدر (اقتصاد، فرنسا) وإبراهيم يزدي (طب، الولايات المتحدة)، وكلاهما كان له دور قيادي في حركة الطلاب الإيرانيين في الخارج، وأصبحا لاحقًا من بين الشخصيات المهمة في الثورة.. إلى أن قرر الأول، على مسافة أشهر من تركه منصب الرئاسة، الهرب من إيران في العام 1981، وصار رمزاً من رموز معارضة النظام الحالي حتى وفاته. أما الثاني، فقد تبوأ مناصب سياسية عديدة بعد الثورة إلى أن تم الزج به في السجن وصار من رموز المعارضة حتى وفاته في العام 2017.
***
اعتمد الأساتذة المعارضون على ما يمكن تسميته “المقاومة الناعمة”، حيث استخدموا مواقعهم الأكاديمية لنشر أفكار نقدية بطريقة غير مباشرة، فقد استخدموا التأويل النقدي للنصوص الكلاسيكية في الشعر الفارسي الكلاسيكي وكذلك في النصوص التاريخية لتوجيه انتقادات مبطنة لحكم الشاه. كما ركّزوا على الهوية الثقافية للتأكيد على القيم والتقاليد الإيرانية الأصيلة في مواجهة سياسات التغريب، وربطها بمبادئ العدالة والاستقلال الوطني. واستخدموا النقد الاقتصادي والاجتماعي في تحليل السياسات الحكومية وتبيان آثارها السلبية على المجتمع، مثل عدم المساواة المتزايدة والتضخم والبطالة.
ونسج الأساتذة المعارضون شبكات من العلاقات السرية امتدت عبر الجامعات والمدن المختلفة. هذه الشبكات ساعدت في تنسيق المواقف السياسية وبخاصة خلال الأزمات والأحداث المهمة. وكشفت وثائق “السافاك” عن اجتماعات سرية دورية بين أساتذة من طهران وشيراز وأصفهان. كما ساعدت في تبادل المعلومات والأفكار برغم الرقابة الحكومية الشديدة، وكانت المراسلات السرية وزيارات “الأساتذة المتجولين” وسيلة أساسية لنقل الأفكار. واعتمدوا الدعم المتبادل للأساتذة الذين تعرضوا للاضطهاد أو الفصل، وقدموا الدعم القانوني والمادي لهم.
***
لعب الأساتذة المعارضون دوراً محورياً في تشكيل وعي الطلاب السياسي وتحفيزهم. وتجلّى هذا التأثير في تشجيع الطلاب على التفكير النقدي والتشكيك في الخطاب الرسمي، من خلال محاضرات غير منهجية وحلقات نقاش سرية.. وساعموا في توجيه الطلاب نحو المشاركة في النشاطات السياسية والاجتماعية، مثل تنظيم المظاهرات الطلابية الحاشدة أو توزيع المنشورات السرية. وتجلت ذروة تحفيز الطلاب غداة انتصار الثورة وتحديداً في خريف العام 1979، عندما احتل الطلاب الإيرانيون السفارة الأميركية في طهران. هذا الحدث، المعروف باسم “أزمة الرهائن في إيران”، استمر لمدة 444 يومًا حيث احتجز الطلاب 52 دبلوماسيًا وعاملًا أمريكيًا كرهائن.
***
واجه الأساتذة المعارضون قمعاً شديداً من قبل السلطات، شمل المراقبة المستمرة من قبل عملاء “السافاك” داخل الجامعات. إضافة إلى الاعتقالات والاستجوابات وبخاصة للنشطاء البارزين منهم، حيث تُظهر سجلات “السافاك” مئات الحالات التي تم فيها استدعاء أساتذة للتحقيق أو اعتقالهم وتعذيبهم وفصلهم من التعليم في الجامعة كعقوبة فورية لمن تم اكتشاف نشاطاتهم المعارضة. بالإضافة إلى منعهم من السفر للحدّ من تواصلهم مع المعارضة خارج إيران. وتلازماً مع القمع الحكومي، واجهت المعارضة الأكاديمية تحديات داخلية كان أهمها الخلافات الأيديولوجية بين التيارات المختلفة (ليبرالية، ماركسية، إسلامية، قومية إلخ..)، والتي كانت أحيانًا تعيق التنسيق الفعال والتنافس الشخصي والضغوط الاجتماعية وبخاصة في المناطق المحافظة التي كانت تنظر بريبة للنشاط السياسي النسائي أو الأكاديمي.
***
لعبت المعارضة الأكاديمية دوراً مهماً في تهيئة الأرضية الفكرية والسياسية للثورة الإيرانية، بل كانت من أبرز محركاتها. فالأساتذة الذين عارضوا الشاه، شكّلوا النخبة الفكرية للثورة، وكثير منهم تولى مناصب مهمة في النظام الجديد بعد الثورة، مثل مهدي بازرگان الذي أصبح أول رئيس وزراء، وأبو الحسن بني صدر أول رئيس جمهورية، وإبراهيم يزدي الذي شغل مناصب وزارية متعدّدة. وأثّروا على جيل كامل من الطلاب، الذين شاركوا فعليًا في أحداث الثورة، وشكلوا وقود المظاهرات والاحتجاجات. وساهموا في صياغة الخطاب الثوري من خلال كتاباتهم ومحاضراتهم التي كانت تنتقد الشاه وتدعو إلى التغيير الجذري.
لكن المفارقة التاريخية تكمن في أنّه بعيد استقرار النظام الجديد بقيادة آية الله الخميني، والذي ساهم الأساتذة المعارضون في إقامته، بلغ قمع “أهل الثورة” حد اقصاء هؤلاء عن المشهد العام ومن الجامعات والسياسة. هذا الاستبعاد لم يكن عشوائيًا بل كان نتيجة أسباب عديدة أهمها ما سمي بالثورة الثقافية (1980-1983). فبعد فترة وجيزة من انتصار الثورة (1979)، بدأت حملة شاملة لتطهير الجامعات والمؤسسات التعليمية مما أُطلق عليه يومذاك: “التأثيرات الغربية والماركسية”. كان الهدف هو أسلمة الجامعات وتوحيد الخطاب الأكاديمي مع أيديولوجية النظام الجديد. وأدت هذه الحملة إلى إغلاق الجامعات لأكثر من سنتين، وفصل آلاف الأساتذة والطلاب الذين لم يتكيّفوا مع المعايير الفكرية الجديدة. ووجد العديد من الأكاديميين الذين عارضوا الشاه أنفسهم آنذاك مطاردين من قبل النظام الثوري الذي أوصلوه إلى الحكم بأنفسهم، وتم استبدالهم برجال دين يدينون بالولاء المطلق للنظام الجديد.
***
النظام الثوري، الذي تشكل حول مفهوم ولاية الفقيه، سعى إلى مركزية السلطة والخطاب. وأيّ فكر لا يتماشى مع هذه الأيديولوجية، حتى لو كان من إسلاميين تقدميين أو وطنيين، اعتبر تهديدًا. والأساتذة الذين كانوا يدعون إلى الديموقراطية أو حقوق الإنسان أو الحريات الفردية، وجدوا أنفسهم على خلاف مع التوجه الجديد، ما أدى إلى تهميشهم أو استبعادهم.
وبذلك شهدت السنوات الأولى بعد الثورة صراعات حادة بين الفصائل المختلفة التي شاركت في إسقاط الشاه (الليبراليون والقوميون والماركسيون وغيرهم)؛ هؤلاء وجدوا أنفسهم في مواجهة التيار الإسلامي الراديكالي المتشدّد الذي سيطر على مفاصل الدولة. وهذه الصراعات أدت إلى إقصاء منهجي لأولئك الذين لم يتمكنوا من التكيف مع الواقع السياسي الجديد. والاستبعاد هذا، لم يكن حدثًا لمرة واحدة في الثمانينيات، بل أصبح نمطًا تاريخيًا من القمع الأكاديمي عبر عقود مختلفة في إيران.
وتظهر الإحصائيات الحديثة استمرار هذا النمط. فقد نُشرت قائمة بـ 157 أستاذًا جامعيًا دائمًا تم فصلهم أو إجبارهم على التقاعد أو منعهم من التدريس بسبب آراء معارضة، وذلك من مطلع عام 2006 حتى نهاية آب/أغسطس 2023. ومنذ بداية الاحتجاجات المناهضة للنظام في أيلول/سبتمبر 2022، فصلت الحكومة الإيرانية ما لا يقل عن 52 أستاذًا جامعيًا معارضًا.
إنّ ما تقدّم يكشف عن أن التوتر الدائم بين السلطة السياسية والنخب الأكاديمية لم يكن مقتصرًا على عهد الشاه، بل استمر وتطوّر ليشمل النظام الذي حلّ من بعده، وعلى ما يبدو أن أي سلطة ترى في الحرية الأكاديمية والفكر النقدي تحديًا لسلطتها المطلقة.
***
تكشف دراسة حركة المعارضة الأكاديمية لشاه إيران عن ظاهرة معقّدة ومتعددة الأبعاد، فهي لم تقتصر على جامعة طهران أو النخب، بل امتدت لتشمل المشهد الأكاديمي الإيراني برمته.
ويعكس هذا التوزع الجغرافي والاجتماعي للمعارضة عمق الأزمة السياسية والثقافية التي شهدتها إيران في عقدي الستينيات والسبعينيات الماضيين. لم تكن هذه المعارضة مجرد رد فعل على السياسات القمعية، بل كانت تعبيرًا عن رؤية بديلة لمستقبل إيران وهويتها. وبرغم القمع الشديد، فإن ضغط الأكاديميين، في مجالات مثل الصحة العامة والتعليم العالي، أجبر النظام أحيانًا على إعادة النظر في سياسات محددة، وإن كانت تلك التغييرات محدودة.
تتجاوز الدروس المستفادة من هذه التجربة السياق الإيراني، لتطرح أسئلة مهمة حول دور المثقفين والأكاديميين في المجتمعات التي تشهد تحولات سياسية وثقافية جذرية. كما تسلّط الضوء على التوتر الدائم بين السلطة السياسية والحرية الأكاديمية، وهو توتر ما يزال قائمًا في إيران والعديد من البلدان الأخرى حتى اليوم.
وتبقى قصة المعارضة الأكاديمية في إيران صدى لتحذير دائم: “حريات الفكر والتعليم هي أول ما تستهدفه الأنظمة المستبدة، ومقاومة الأقلام والعقول يمكن أن تكون الشرارة التي لا تنطفئ، حتى لو أدت إلى استبعاد من قاموا بإشعالها”.
(*) راجع الجزء الأول من هذه الدراسة: حركة المعارضة الأكاديمية لشاه إيران: من الثورة إلى الاستبعاد