

سقط في اليوم الأول من العملية، وفق الإحصاء الإسرائيلي، 1200 قتيل و3400 جريح وتم أسر 251 إسرائيلياً بين مدني وعسكري. بالمقابل، تشير الأرقام الرسمية إلى أن إسرائيل خسرت في اجتياحها للبنان (1982 ـــ 1985) 654 جندياً و3887 جريحاً وفقدت أربعة جنود ووقع في الأسر 12 جندياً. وتفصح الأرقام المعلنة لحرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 أن عدد القتلى الإسرائيليين بلغ 2600 قتيل و136 أسيراً لدى مصر و28 أسيراً لدى سوريا. وأسفرت حرب حزيران/يونيو عام 1967 عن سقوط 983 قتيلاً عسكرياً إسرائيلياً و20 مدنياً و15 أسيراً. وسقط في حرب السويس عام 1956 حوالي 172 جندياً إسرائيلياً وأسيراً واحداً. وفي الحرب الأكبر عام 1948 سقط 6373 جندياً ومدنياً إسرائيلياً.
“بيرل هاربر” فلسطيني
وإذا أردنا الذهاب إلى مكان أبعد في المقارنة، نجد أن الضربة اليابانية الصاعقة في ميناء “بيرل هاربر”، القاعدة البحرية الأمريكية الواقعة في جزر هاواي في 7 ديسمبر/كانون الأول عام 1941 والتي دفعت أمريكا للاشتراك في الحرب العالمية الثانية، قد أدت إلى سقوط 2403 جنود وجرح 1178 جندياً. هذه الخسائر لا تتجاوز خسائر إسرائيل بكثير على الرغم من الفوارق الهائلة بين أحجام الأطراف المعنية والمعدات العسكرية والمواقع الاستراتيجية.
تفيد هذه المقارنة بأن حجم العملية والخسائر التي خلّفتها ما كان متوقعاً وهو بمثابة اعلان حرب شاملة تستدرج بالضرورة حلفاء الطرفين وتتجاوز غزة ولبنان. فهل كانت حماس تراهن على اشعال حرب شاملة عبر استدراج “محور الممانعة” من دون تنسيق مسبق أم أن المحور لم يدرك هو أيضاً أثر وحجم العملية التي وصلته النية الفلسطينية بالقيام بها من دون تحديد ساعة الصفر؟
هذا السؤال ما زال بحاجة إلى إجابة لم تصدر بعد عن أي من أطراف “محور الممانعة”. بانتظار الإجابة الرسمية من المعنيين، أرجح أن المحور فوجئ كما فوجئت حماس بنتائج العملية من دون أن يكون مستعداً للانخراط فيها انخراطاً شاملاً وتاماً وليس عبر اسناد بصواريخ ومسيرات على أهميتها. نعم لقد كان “طوفان الأقصى” مؤثراً إلى الحد الذي يفوق كل تصور مسبق لدى جميع أطراف الحرب.
ستتضح أبعاد الصورة أكثر عندما ننظر إلى حجم القوى التي احتشدت أو أخذت تحتشد للاشتراك في هذه الحرب. فقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 8 أكتوبر/تشرين الأول عن ارسال حاملة الطائرات جيرالد فورد وهي الأحدث والأهم في العالم، إلى شرق المتوسط وتلتها حملة الطائرات داويت ايزنهاور. وأرسلت بعدها إلى البحر الأحمر حاملة الطائرات هاري ترومان ومن ثم تلتها شقيقتها فينزون، وأرسلت جنباً إلى جنب حاملة طائرات مروحية وسفناً وغواصات وفرقاطات حربية.
استنفار 55 قاعدة عسكرية أمريكية
هذا الحشد العسكري الأمريكي كان قياسياً، ذلك أن واشنطن تحتفظ بـ 11 حاملة طائرات، أرسلت أقل من نصفها بقليل للرد على عملية “طوفان الأقصى”؛ أضف إلى ذلك ارسال دعم لوجستي بشري في سياق استنفار القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، والبالغ عددها 55 قاعدة أكبرها قاعدة العيديد في قطر التي تضم 13 ألف جندياً.
وفي السياق أرسلت بريطانيا سفناً حربية ومشاة بحرية وطائرات استطلاع وقتال إلى شرق المتوسط ولم تبرح الطائرات البريطانية سماء غزة والمنطقة. من جهتها، بادرت فرنسا والاتحاد الأوروبي إلى تشكيل قوة بحرية لحماية السفن التجارية الأوروبية في البحر الأحمر وشاركت في اسقاط المسيرات الإيرانية التي أطلقت على إسرائيل في 13 نيسان/أبريل عام 2024.
تعكس هذه الأرقام تقديراً أمريكيًا وأوروبيًا عالياً للخطر الداهم الذي يُهدّد الدولة العبرية وتصميماً على حمايتها ورفع معنويات سكانها التي تراجعت إلى الحد الأقصى بعد هجوم أكتوبر، خصوصاً بعد أن بدا الجيش الإسرائيلي في حالة ارتباك وعجز عن استعادة زمام المبادرة برغم مرور ساعات طويلة على بدء “الطوفان”.
ويُمكن رصد ذهاب العملية إلى أبعد مما توقعت حركة حماس والمحور من خلال ردود فعل أطرافه، لكن قبل ذلك لا بد من ذكر بعض آثارها على الأرض. فقد وصل مقاتلو حماس إلى عمق 25 كلم في طوفانهم وتحديداً إلى مستوطنة اوفاكيم، مروراً بمستوطنات على بعد 10 كلم في سديروت و5 كلم في نتيفوت و5 كلم في مهرجان روعيم الذي انتشرت صور الهاربين منه على وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة مروعة لم تشهد إسرائيل ما يشبهها في كل حروبها مع العرب، منذ عام 1948 حتى تلك اللحظة.
مصرع التكنولوجية الرقمية
لقد استفاد مقاتلو حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى من عنصر المفاجأة، ليحققوا إصابات قاتلة في صفوف الإسرائيليين أكثر بكثير مما كانوا يتوقعون. فقد سيطروا على مقر قيادة فرقة غزة (رعيم) بسهولة كبيرة، وخرقوا الجدران الالكترونية والاسمنتية من دون صعوبات تذكر، واستخدموا الطائرات المسيرة في التشويش وتدمير أبراج المراقبة، والطائرات الشراعية (جيلدرز) لنقل مقاتلين إلى مواقع القتال بسرعة كبيرة، وشنت قواتهم البحرية هجمات ناجحة بواسطة قوارب مطاطية في قاعدة (زيكيم) البحرية.
بدأت هذه الهجمات المنسقة بإطلاق زخات صاروخية كثيفة، عند الساعة السادسة والنصف صباحاً بالتوقيت المحلي، واستمرت أياماً حتى تمكنت إسرائيل من القضاء على الوحدات العسكرية المتسللة وذلك من دون أن تصاب حماس بخسائر كبيرة بحسب مصادرها. في حين أكدت إسرائيل والولايات المتحدة سقوط 1000 شهيد فلسطيني داخل الأراضي الإسرائيلية.
وصول “طوفان الأقصى” إلى عمق 25 كلم يعني أن المقاتلين أصبحوا في منتصف الطريق بين غزة والضفة الغربية حيث تقدر المسافة بين 50 إلى 70 كلم وصاروا على بعد 200 كلم من الحدود اللبنانية، وتفيد المعلومات التي نشرتها إسرائيل حول المقاتلين الذين أسروا أو استشهدوا، أنهم كانوا يحتفظون بتموين وذخيرة تكفي أياماً عديدة ما يعني أنهم كانوا يراهنون على مسار أطول للعملية.
لقد نوقشت خلال الحرب إحدى الفرضيات القائلة إن حماس كانت تنتظر تحركاً من مقاتلي الضفة الغربية لإكمال الهجوم الوافد من غزة، والذي لو استمر كان يمكن أن يشكل جسراً قتالياً من غزة إلى الضفة الغربية؛ هذا الجسر كان يمكن أن يتسع ويكتسب أهمية عسكرية فائقة لو نفذ حزب الله هجوماً مرغوباً نحو الجليل ومنه إلى حيفا. ويؤكد على صلاحية هذه الفرضية اللواء الإسرائيلي المتقاعد اسحق بن بريك الذي يرى بأن إسرائيل ما كان بوسعها القتال على جبهتين. وراجت توقعات أخرى في الدولة العبرية من أن الحزب كان بوسعه الوصول إلى حيفا من دون صعوبات كبيرة مستفيداً من عنصر المباغتة في اليوم الأول للعملية.
لا هجوم من الضفة ولا من الجليل
هل كان محور الممانعة يتحرك وفق خطة مرسومة سلفاً على أن تبدأ ساعة الصفر بعملية “طوفان الأقصى” وتستكمل بهجوم حزب الله على الجليل وصولاً إلى حيفا وإلى ما بعد حيفا، وفق ما كان يُردّد الأمين العام الراحل للحزب السيد حسن نصر الله؟ أو على الأقل هل كانت حماس تتمنى أن يتحرك هذا السيناريو، وهل استدرجت المحور إلى هذا المكان؟
بعض الأنباء غير المؤكدة تفيد أن حماس أبلغت أطراف المحور في لقاء تم في بيروت في آب/أغسطس عام 2023 نيتها شن عملية عسكرية كبيرة ضد إسرائيل تسمح لها بتغيير قواعد الاشتباك، لكننا ما زلنا بحاجة إلى تأكيد رسمي لم يصدر بعد عن أطراف المحور حول هذا الجانب.
وتفيد أنباء أخرى أن إيران كانت على علم بتفاصيل العملية، وقد انعكس ذلك في تصريح شهير للرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، الذي وصف العملية بـ”الزلزال” الذي ستهتز له أركان إسرائيل. ويُنسب إلى رئيسي تصميمه على دعم المقاومة الفلسطينية في غزة ولبنان بكل الوسائل التي تتيح هزيمة إسرائيل، بل يتهم أصحاب نظرية المؤامرة إسرائيل باغتيال رئيسي بعد زيارته لأذربيجان بواسطة “بايجر” مفخخ ويربطون موقع الاغتيال بوجود مكتب ناشط لجهاز “الموساد” في “باكو”.
ويذهب أصحاب منطق المؤامرة إلى مدى أبعد، إذ يرون أن اغتيال رئيسي أخلى الساحة لانتخاب رئيس جديد يريد المصالحة مع أمريكا حليفة وحامية إسرائيل في الشرق الأوسط. في كل الحالات لا نملك أدلة من شأنها تكذيب التقرير الإيراني الرسمي حول ظروف مقتل رئيسي، وفيه تأكيد قاطع بأن سقوط المروحية الرئاسية أسبابه مناخية، أضف إلى ذلك أن إيران كانت تستعد للتفاوض مع الولايات المتحدة حول الملف النووي قبل العملية، ما يعني أنها ما كانت بوارد خوض حرب مع إسرائيل حليفة واشنطن الأهم في المنطقة قبل “طوفان الأقصى”.
وكائناً ما كان حال ونوع التواصل بين أطراف “محور الممانعة” قبل هجوم السابع من أكتوبر، فإن ردود الفعل الغربية والدولية على هذه العملية كانت كلها تنم عن خوف على الكيان الصهيوني، وعن شعور بالخطر على مصيره. بعبارة أخرى كانت الولايات المتحدة تعرف أن إسرائيل غير قادرة على خوض القتال على أكثر من جبهة وأنها تحتاج إلى حماية ومشاركة ودعم لوجستي متواصل ومفتوح. ولعل انتشار القوات الأمريكية في المنطقة بالطريقة التي أشرنا اليها للتو يفصح عن هذا الشعور بالخطر المصيري على الكيان الإسرائيلي.
لقد انهارت في 7 أكتوبر/تشرين الأول أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، في ساعات قليلة، أمام أعين المقاتلين الذين فوجئوا بما أتت أيديهم. والواضح أنهم كانوا يحسبون انتصاراً أقل في معارك أصعب وخسائر أكثر وردود فعل إسرائيلية أسرع. ولعلهم ذهبوا بتوقعاتهم بعيداً في رهان متأخر، على أن يشترك المحور كله في معركة “زلزلت الكيان الصهيوني” على ما قال رئيس إيران الراحل. لكن التمني في لحظة نصر استثنائية لم يكن متناسباً مع حسابات حماس نفسها ومع حسابات المحور عموماً. ذلك أن حرباً تسعى إلى توجيه ضربة قاضية لإسرائيل ستؤدي بالضرورة إلى حرب مع الولايات المتحدة والغرب الذي دمّر العراق وأفغانستان خلال شهور قليلة، ويمكنه بوسائله الحربية أن يدمر إيران وأن يتحمل مخاطر حرب إقليمية مفتوحة، أو حرب عالمية دفاعاً ليس فقط عن إسرائيل وانما أيضاً عن جغرافية العالم السياسية التي رسمها ويتحكم بمساراتها.
طوفان الأهداف
ما من شك أن حماس كانت تتمنى أو تتوقع ولربما عملت ما بوسعها لحمل أطراف المحور على الاشتراك في “طوفان الأقصى” بكامل القدرات المتاحة، لكنها كانت تعتمد في المقام الأول على قدراتها الذاتية، وهذا ما لاحظناه من خلال شبكة الأنفاق السرية الضخمة لحماية بناها التحتية.
وإذا ما استبعدنا خطة الحرب المفتوحة، فإن تقديرنا لأهداف العملية يمكن حصره في الخطوط العريضة الآتية:
1 ـــ الحؤول دون تصفية القضية الفلسطينية عبر الخط الابراهيمي، أي التطبيع مجاناً من دون تنازلات.
2 ــ تغيير قواعد الاشتباك مع إسرائيل على غرار القواعد التي كانت قد استقرت في لبنان قبل “الطوفان”. ومن المعلوم أن إسرائيل ما كانت قادرة قبل “الطوفان” على اقتلاع خيمتين نصبهما حزب الله في أرض حدودية متنازع عليها في مزارع شبعا اللبنانية.
3 ــ فك الحصار المستمر على غزة منذ العام 2007 وإعادة اعمارها.
4 ــ تعظيم حضور حماس في المشهد السياسي الفلسطيني والإقليمي.
5 ــ استعراض قوة حماس والفصائل المقاتلة براً وبحراً وجواً وهي المرة الأولى التي يتمكن خلالها فصيل فلسطيني من تشكيل قوة بهذا القدر من التنوع في مساحة صغيرة لا تصل إلى 400 كلم مربع.
6 ـــ تهميش السلطة الفلسطينية الرسمية التي اختارت التفاوض لاسترجاع ما يمكن استرجاعه من أرض فلسطين بعد خسارتها الحرب وخروجها من لبنان عام 1982.
7 ــ ضرب أسطورة الجدران المعلوماتية والتكنولوجية الرقمية التي أحاطت بغزة وصورت على أنها غير قابلة للاختراق.
8 ــ استباق التطبيع السعودي الإسرائيلي والتهدئة اللبنانية الإسرائيلية (ترسيم الحدود البحرية).
9 ــ إخراج المسجد الأقصى من دائرة الاعتداء الدوري وإرساء معادلة جديدة لحمايته.
10 ــ طي صفحة الشعور الفلسطيني بالإحباط جراء الطرق المقفلة لحل القضية الفلسطينية.
11 ــ ابرام صفقة لتحرير آلاف السجناء الفلسطينيين.
12 ــ اختبار فعالية “محور الممانعة” ومعادلة “وحدة الساحات”.
13 ــ اختيار توقيت 7 أكتوبر لإحياء ذكرى الانتصار العربي في حرب تشرين عام 1973.
14 ــ إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية في المسرح الدولي واخراجها من المسار الإبراهيمي أو على الأقل فتح مسار آخر أمامها يمنح الفلسطينيين حقوقاً أكثر وأملاً بمستقبل أفضل.
هل تحققت هذه الأهداف أو هل يمكن أن تتحقق وماذا عن نهاية الحرب. أسئلة سأجيب عنها في المقال الثالث.
(*) راجع المقال الأول للكاتب بعنوان: 7 أكتوبر حماقة تاريخية أم مغامرة جريئة؟