البدو والدروز في سوريا: تاريخ من التعايش والصراع وتداخل المصائر

تُشكل العلاقة التاريخية بين عشائر البدو والدروز في سوريا، وتحديداً في المنطقة الجنوبية، فصلاً غنياً ومعقّداً من تاريخ البلاد. تمتد هذه العلاقة عبر قرون، تتشابك فيها خيوط التعايش السلمي والتآلف مع فترات من التوتر والصدام، لتُشكّل في النهاية نسيجاً اجتماعياً فريداً ومتأثراً بظروف الجغرافيا، الموارد، السياسة، والتدخلات الخارجية. ولفهم هذه العلاقة المتشعّبة، لا بد من استعراض تاريخ كلّ من المكونين، ثم تحليل التفاعلات التي شكّلت مصيرهما المشترك.

عشائر البدو: الجذور والامتداد

يعود وجود القبائل البدوية في الصحاري السورية إلى آلاف السنين، قبل ظهور الإسلام بكثير. كانت حياتهم قائمة على الترحال والرعي والصيد والتجارة، وأحياناً الغزو للحصول على الموارد في بيئة قاسية. تميزت هذه القبائل باستقلاليتها الكبيرة واعتمادها على روابط القرابة والولاء العشائري.

بعد الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، تعزّز وجود البدو مع هجرة القبائل العربية من شبه الجزيرة العربية، لتصبح البادية السورية الشاسعة موطناً طبيعياً لهم.

خلال العصور الوسطى والعثمانية، سيطرت القبائل البدوية على مساحات واسعة من البادية السورية، وتحكّمت في طرق القوافل التجارية. كانت علاقاتهم مع المدن والقرى المستقرة تتأرجح بين التعاون التجاري والغزو. حاولت الدولة العثمانية إخضاعهم وتوطينهم دون نجاح كبير، مفضّلة التعامل مع زعماء القبائل عبر تقديم الهدايا أو استغلال النزاعات الداخلية للحفاظ على نوع من السيطرة.

في فترة الانتداب الفرنسي (1920-1946)، حاول الفرنسيون “تنظيم نشاط البدو” عبر وحدات إدارية خاصة، مع احترام تقاليدهم شريطة عدم الإضرار بالسكان المستقرين. وأحياناً، استغل الفرنسيون العشائر لتعزيز نفوذهم، ما أثار حفيظة الحكومات السورية بعد الاستقلال (بطرس، 1979).

بعد الاستقلال عام 1946، سعت الحكومات السورية المتعاقبة إلى دمج البدو في الدولة الحديثة، وتشجيعهم على الاستقرار وتوفير الخدمات الأساسية لهم. وبرغم التحدّيات والتغيرات، حافظ البدو على جزء كبير من ثقافتهم وتقاليدهم، مثل الشِعر النبطي وفنون الضيافة وتربية الماشية. لكن الأزمة السورية الراهنة (بعد 2011) أثّرت بشدة على نمط حياتهم، حيث أدت الفوضى والنزوح إلى تغيرات جذرية في كثير من المناطق البدوية.

تتوزع عشائر البدو الرئيسية، مثل عنزة، شمر، الجبور، والبقّارة، في مناطق واسعة تمتدّ من البادية السورية (ريف حمص الشرقي، دير الزور، الرقة، الحسكة) إلى جنوب سوريا (بادية حوران الشرقية والجنوبية، أطراف درعا، ريف دمشق)، وصولاً إلى شمال سوريا (بادية حلب وحماة) (العبودي، 2009).

لم تكن العلاقة بين البدو والدروز في سوريا علاقة صراع دائم، بل كانت مزيجاً من التنافس على الموارد، والتحالفات المشتركة ضد الأعداء الخارجيين، والتعايش السلمي الذي سمحت به المصاهرة والتبادل التجاري. ومع ذلك، فإن عوامل مثل التوسّع السكاني، التهميش الاقتصادي والسياسي، وغياب سلطة الدولة الفاعلة في السنوات الأخيرة، أدت إلى تفاقم النزاعات وتحولها إلى صراعات دموية تُهدّد النسيج الاجتماعي للمنطقة

دروز سوريا وتأسيس الكيان

الدروز هم طائفة موحّدة تنحدر من المذهب الفاطمي الإسماعيلي، وتتميز بخصوصيتها الدينية والثقافية. تاريخياً، استقر الدروز بشكل رئيسي في جبل لبنان، ولكن لأسباب تتعلق بالاضطهاد والصراعات، حصلت الهجرة إلى جنوب سوريا. فمنذ القرنين السابع والثامن عشر، بدأت أفواج من الدروز بالهجرة إلى المنطقة التي كانت تُعرف آنذاك بجبل حوران (أو جبل العرب) بحثاً عن ملاذ آمن ومساحة للتوسّع الزراعي. كانت هذه المنطقة، في معظمها، بادية مفتوحة تستخدمها القبائل البدوية لرعاية المواشي، ومع تزايد أعداد الدروز واستقرارهم وزراعتهم للأرض، بدأت المناطق الحضرية تتوسّع (أبو عز الدين، 1993).

ومع تزايد قوة الدروز وتشكّل قيادات قوية لهم مثل آل الأطرش، رسّخت الطائفة وجودها، وشكّلت كياناً اجتماعياً وسياسياً قوياً في المنطقة، وخلال فترة الانتداب الفرنسي، تم الاعتراف بالخصوصية الدرزية.

 في العام 1922، تأُسست “ولاية السويداء” التي تحوّلت عام 1927 إلى “دولة جبل الدروز” أو “دولة جبل العرب”، مما منح الدروز حكماً ذاتياً. وقد كان هذا الاعتراف مدعاة فخر للدروز، ولكن في الوقت عينه أثار حساسية بقية المكوّنات السورية التي رأت فيه محاولة لتقسيم البلاد. لكن هذه الدولة ألغيت ودمجت في سوريا عام 1936 (الأطرش، 1960).

بعد جلاء الفرنسيين عن سوريا في العام 1946 وتحولها إلى كيان مستقل، أصبح الدروز جزءاً لا يتجزأ من النسيج السوري، وشاركوا في الحياة السياسية والعسكرية، محافظين على هويتهم الثقافية والدينية مع الانخراط في مؤسسات الدولة الحديثة، وتركّزت الأغلبية الساحقة من الدروز في سوريا ضمن محافظة السويداء، التي ما يزال يُشار إليها تاريخياً باسم “جبل الدروز” أو “جبل العرب”.

تداخل المصائر بين البدو والدروز

تُعدّ العلاقة بين البدو والدروز نموذجاً للعلاقات المعقّدة بين مجتمعات رعوية متنقّلة ومجتمعات زراعية مستقرة في منطقة واحدة. ومع استقرار الدروز وتوسّعهم الزراعي في جبل حوران، دخلوا في تنافس مباشر مع القبائل البدوية التي كانت تعتبر هذه الأراضي مراعيها التقليدية. هذا التنافس على المياه والمراعي أدى إلى احتكاكات ونزاعات متقطّعة، كانت غالباً ما تنزلق إلى اشتباكات دموية محدودة.

وبرغم التوترات، تطور التعايش العملي بين الجانبين. كان الدروز بحاجة إلى منتجات البدو (الماشية، الألبان، الصوف) وخدماتهم (حماية القوافل، النقل)، بينما كان البدو بحاجة إلى المنتجات الزراعية (الحبوب، الخضروات وغيرها) التي ينتجها الدروز. تطوّر نظام غير رسمي لـ”الخاوة” أو الحماية، حيث كانت القبائل البدوية القوية تقدّم نوعاً من الحماية للمناطق الزراعية الدرزية مقابل دفع مبالغ مالية أو عينية، مما كان يضمن نوعاً من السلام المتبادل. حدثت مصاهرات بين بعض العشائر البدوية وبعض العائلات الدرزية، مما خلق روابط اجتماعية وثقافية قوية، وأسهم في تخفيف حدّة التوتر. في كثير من الأحيان، دفعت المصالح المشتركة الطرفين إلى التحالف ضدّ “الأعداء المشتركين”، خلال فترتي “السلطنة” و”الانتداب”. كان البدو حلفاء مهمين للدروز في الثورة السورية الكبرى (1925-1927)، (الخطيب، 2000).

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": حانت لحظة الحساب.. وديناميات متحركة في الشرق الأوسط

بعد استقلال سوريا، في منتصف أربعينيات القرن الماضي، سعت الدولة الحديثة لفرض سيطرتها على كافة الأراضي وتوحيد البلاد، مما أثر على استقلالية العشائر البدوية والدروز على حد سواء. شعر بعض البدو بأنهم تعرضوا للتهميش من قبل الدولة، ولم يحصلوا على نفس القَدَرِ من الخدمات أو التمثيل، مما زاد من شعورهم بالغبن. استمرت النزاعات المتقطعة حول الأراضي أو المغانم، وكانت غالباً ما تُحَلّ عبر “الصلح العشائري”. اتهم الطرفان الأنظمة السورية المتعاقبة (وبخاصة نظام آل الأسد) بتغذية هذه التوترات بشكلٍ غير مباشر أو استغلالها لضمان عدم تشكيل جبهة موحّدة في النواحي الجنوبية ضد النظام.

الأزمة السورية وتأزم الجماعات

مع انهيار سلطة الدولة المركزية، وانتشار السلاح، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية بعد أزمة العام 2011، دخلت العلاقة بين البدو والدروز مرحلة جديدة من التوتّر الخطير. تحوّلت النزاعات الفردية (سرقة الماشية أو السيارات، أو الخطف، أو التنازع على الأراضي) إلى اشتباكات مسلحة، سقط فيها عشرات الضحايا، كما أنّ بروز فصائل مسلّحة من كلا الطرفين زاد من القدرة على التصعيد، وتجاوز سلطة الوجهاء التقليديين، فتعقدت الأوضاع بفعل تدخّل جهات داخلية أو خارجية، تسعى لتأجيج الصراع والاستفادة من الفوضى. وكانت اشتباكات تموز/يوليو 2025 مثالاً حياً على هذا التصعيد الخطير، حيث اندلعت على خلفية حادثة اختطاف، مؤكّدة هشاشة الوضع والحاجة الملحة إلى حلول جذرية.

في الختام، تاريخياً، لم تكن العلاقة بين البدو والدروز في سوريا علاقة صراع دائم، بل كانت مزيجاً من التنافس على الموارد، والتحالفات المشتركة ضد الأعداء الخارجيين، والتعايش السلمي الذي سمحت به المصاهرة والتبادل التجاري. ومع ذلك، فإن عوامل مثل التوسّع السكاني، التهميش الاقتصادي والسياسي، وغياب سلطة الدولة الفاعلة في السنوات الأخيرة، أدت إلى تفاقم النزاعات وتحولها إلى صراعات دموية تُهدّد النسيج الاجتماعي للمنطقة. يبقى فهم هذا التاريخ المعقد خطوة أولى نحو بناء مستقبل يعزز التعايش ويُطفئ نار الفتنة.

المراجع

  • أبو عز الدين، ن. (1993). جبل الدروز: تاريخ وسياسة. بيروت: دار النهار.
  • الأطرش، س. ب. (1960). مذكرات سلطان باشا الأطرش. دمشق: دار الفكر.
  • بطرس، ش. (1979). البدو والعمران في سوريا. دمشق: وزارة الثقافة والإرشاد القومي.
  • العبودي، ع. (2009). القبائل والعشائر في سوريا: دراسة في الأصول والتوزع. دمشق: دار الشرق.
  • الخطيب، م. ك. (2000). جبل العرب: تاريخ وحضارة. دمشق: دار الثقافة.
  • Hitti, P. K. (1957). History of Syria, Lebanon and Palestine. New York: Collier Books.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  اجتماع موسكو الرباعي.. خطوة صعبة لإنهاء الأزمة السورية