الجميع كان ينتظر يوم الجمعة، بوصفه يوما مفصليا، إما أن تنكفىء مع ساعات نهاره التظاهرات الإحتجاجية أو تستمر وربما تزيد وتيرتها. الجواب أعطاه شارع عراقي إزداد إشتعالا، وظل عصيا على الضبط والتطويع، في غياب أية قيادة تتحدث أو تفاوض بإسم الحراك أو تتولى إعطاء تعليماتها للمتظاهرين، سواء بمضاعفة حضورهم في الساحات أو الإنكفاء، تبعا لمعطيات التفاوض.
عنصران سياسيان هامان إستجدا، اليوم الجمعة، الأول هو صدور الموقف المرتقب للمرجعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني بدعوته الحكومة العراقية إلى مكافحة الفساد وتحميله الرئاسات الثلاث والسلطات القضائية والتشريعية والرقابية المسؤولية عما آلت إليه الأمور، محملا الحكومة مسؤولية عدم إستجابتها لمطالب الشعب بمحاربة الفساد أو تحقيق اي شيء على الأرض. وأدان الإعتداءات المرفوضة التي إستهدفت المتظاهرين والقوى الأمنية، وحذّر الذين يمانعون من الاصلاح ويراهنون على أن تخفّ المطالبات به بأن يعلموا أن الاصلاح “ضرورة لا محيص منها وإذا خفت مظاهر المطالبة به مدة، فإنها ستعود في وقت آخر بأقوى وأوسع من ذلك بكثير”.
ولعل الأهم، في خطاب المرجعية دعوتها إلى تشكيل لجنة مستقلة كانت طالبت بتأليفها قبل أربع سنوات، وأن يكون هدفها سبل مكافحة الفساد وولوج طرق الاصلاح الممكنة وخوض حوار “مع الفعاليات المؤثرة في البلد وفي مقدمتهم ممثلو المتظاهرين في مختلف المحافظات للاستماع الى مطالبهم ووجهات نظرهم”.
العنصر الثاني المهم هو الخطاب الذي وجهه رئيس وزراء العراق عادل عبد المهدي للعراقيين، وكان وقعه سلبيا في الشارع، لأنه لم يتضمن أية خارطة طريق لمحاربة الفساد ووقف تدهور المؤشرات الإقتصادية والإجتماعية. ولم يسلك عبد المهدي إلا مسلك باقي الحكومات العراقية، خصوصا وأن عمر الحراك الشعبي تجاوز الأربع سنوات. وضع رئيس الوزراء العراقي العراقيين بين خياري النظام واللانظام، قبل أن يلتقط “الفرصة” للمطالبة بصلاحيات جديدة، تجعله مطلق اليدين في إستكمال كابينته الوزارية الناقصة أو إدخال تعديلات عليها، من خلال “ضم وزراء يمثلون الجيل الجديد والكفاءة ونظافة الكف”، على حد تعبير أحد المقربين منه.
وإذ تعهد عبد المهدي بأن حكومته لن تقدم “وعودا فارغة أو حلولا ترقيعية”، إعتبر أن الخيارات الأمنية “لا غنى عنها كالدواء المر”!
ماذا بعد موقفي المرجعية ورئاسة الوزارة؟
أولا، لا مؤشرات على أن الحراك في الشارع سيتوقف برغم إستمرار إجراءات حظر التجوال في العاصمة وقطع الأنترنت ولا إرتفاع عدد الضحايا، حيث قال مصدر في المفوضية العراقية العليا لحقوق الإنسان لموقع 180 إن عدد القتلى تجاوز الأربعين وتخطى عدد الجرحى الـ 1000 حتى الآن، وأن عدد المعتقلين تجاوز الـ 300 شخص.
ثانيا، لا قيادة واضحة للتحرك الذي تتسع قاعدته الإجتماعية ويطغى الطابع الشبابي عليه حتى الآن، ويتخذ من وسائل التواصل الإجتماعي منصة أساسية لمخاطبة الجمهور العراقي.
ثالثا، كل القوى السياسية العراقية المنضوية بأغلبية تشكيلاتها في حكومة عادل عبد المهدي، تبدو محرجة أمام قواعدها، لذلك، إختفت أصواتها وراحت تتحدث بالعموميات.
يقود عملية قمع التظاهرات الضابط العراقي المعروف طالب شغاتي “وهو قائد قوة مكافحة الإرهاب ومحسوب بالكامل على الأميركيين” على حد تعبير أحد النواب العراقيين
رابعا، كل القوى السياسية المصنفة في خانة التحالف مع إيران، تريد شيطنة التحرك وتضعه في خانة “السفارات” (الأميركية تحديدا) و”المؤامرة” ولا تريد أن ترى بأن تراكم الفساد في كل حكومات حزب الدعوة منذ 16 عاما، أدى إلى تبديد نحو 500 مليار دولار، “فهل هذه المسؤولية تقع على النظام القديم أم الجديد؟ ومن يستطيع أن يفسر لنا كيف يكون الحراك أميركيا، بينما يقود عملية قمع التظاهرات الضابط العراقي المعروف طالب شغاتي “وهو قائد قوة مكافحة الإرهاب ومحسوب بالكامل على الأميركيين” على حد تعبير أحد النواب العراقيين المساندين للحراك؟
خامسا، ما يجري في العراق، شبيه بما يجري في عواصم عربية أخرى كبيروت، وبالتالي، قد تلجأ قوى أو دول لإستثماره، وهذا أمر يشكل خطرا على الحراك وشعاراته وأهدافه، لكنه لا يعني بالضرورة أن الأميركيين هم الذين يحركون الشارع العراقي أو أن كل المتظاهرين هم “مخربون” أو “مندسون” أو يأتمرون بأوامر سفارات المنطقة الخضراء، وفق الرائج في الإعلام العراقي الموالي للحكومة.
سادسا، الأزمة في العراق بنيوية وموروثة وعمرها عشرات العقود من الزمن، لكنها لا تبرر لأحد الترحم على نظام الديكتاتور صدام حسين الذي لم يعد العراق بل الوضع العربي برمته عقودا من الزمن إلى الوراء، وبالتالي، من مصلحة القوى السياسية العراقية أن تتبنى الحراك لتصحيح أهدافه ومنع بعض رموز النظام القديم من محاولة الإستثمار وإعادة عجلات الزمن إلى الوراء.
سابعا، ولعلها النقطة الأهم، يشكل العراق اليوم ساحة الإشتباك الأساسية بين إيران والأميركيين. ما يجري في الساحات الأخرى مثل سوريا واليمن ولبنان، لا يحجب حقيقة أن المعركة الأساس هي على أرض العراق، وحسنا فعل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بقراره عدم حصر تحالفات بلاده بين محوري واشنطن وطهران، بل هو ذهب للتنويع عبر الإنفتاح على الروس والصنيين وهي خطوة أدت إلى إستفزاز الأميركيين وإنزعاجهم، لكنها لا تعني أن الرجل يتعرض لمحاولة إغتيال سياسية من قبل الأميركيين، خصوصا في ظل إنتفاء البديل، من جهة، وإحتمال أن يأتي خيار أكثر إيرانية من عادل عبد المهدي في حال سقوطه، من جهة ثانية، وهو أمر يدركه أغلب المراقبين للمشهد العراقي.
ثامنا، يحتل العراق المركز رقم 12 في قائمة الدول الأكثر فساداً حول العالم وذلك بحسب منظمة الشفافية الدولية، هل يستطيع عادل عبد المهدي أن يتوجه بخطاب شفاف إلى الشباب العراقي، يشرح فيه الخطوات العملية التي قامت بها حكومته للحد من الفساد، إذ أنه لا أوهام بقدرته على إستعادة أموال منهوبة أو إدخال رموز الفساد إلى السجون.
تاسعا، يمتلك العراق، وفق إحصاءات صندوق النقد الدولي، رابع أكبر احتياطي نفطي في العالم، مع ذلك تعاني غالبية سكانه، المقدر عددهم بنحو 40 مليون نسمة، من صعوبات جمة مثل الانقطاع المتكرر للكهرباء، وتدهور مستوى الصحة والتعليم وإرتفاع معدلات الفقر، فضلا عن تردي البنى التحتية، خصوصا في المحافظات الجنوبية. فما الذي يبرر عدم تنفيذ خطة تنموية شاملة حتى يتحول العراق إلى بلد جاذب للإستثمارات والفرص والسياحة، خصوصا وأنه يملك من المقومات ما لا يملكه بلد آخر في المنطقة؟
عاشرا، إن مجلس النواب العراقي الذي سيجتمع غدا السبت في لحظة سياسية إستثنائية، مدعو لمغادرة جدول أعماله الإعتيادي وأن تتحول الجلسة إلى حالة طوارىء تشريعية، بحيث يتم تعليق خطابات المزايدة، وأن تكون الأولوية لتشكيل اللجنة التي نادت المرجعية بتاليفها، لا أن يناقش المحاصصة التي عطلت إستكمال تأليف الكابينة الوزارية.
أي شيء آخر، وخصوصا إستمرار القمع وصولا إلى وأد التظاهرات الشعبية في بغداد وغيرها من المحافظات، ستكون نتيجته تجدد الحراك بعد فترة من الزمن وربما بمضمون أ%