العراق: حكومة السوداني “فرصة أخيرة”.. أو المجهول!

لم يكن أحد يتوقع أن ينتهي عراق العام 2022 سياسياً كما انتهى إليه، بخروج السيد مقتدى الصدر من لعبة السلطة السياسية نسبياً وأن يهدي مقاعده النيابية إلى خصومه في السياسة بالمجان تقريباً.

برغم ذلك، لا يبدو أن “الساسبنس” انتهى عند هذه المفارقة الغريية. ثمة مستجدات مثيرة حصلت وستحصل تباعاً على ما يبدو. العراق اليوم، وإن نجح الفاعلون السياسيون في الإتيان برئيس مخضرم للحكومة هو محمد شياع السوداني، إلا أنه يبقى عراق الأزمات الصعبة المفتوحة على شتى أنواع المفاجآت، وإن خلا المشهد نسبياً من كابوس “داعش”، وما أدراك ما هذا الكابوس الذي كاد يُحكِم الخناق على بغداد والنجف وكل مدن ومحافظات العراق.

مرة بعد أخرى، يتأكد أن دول الشرق الأوسط ليست إلا مسرحاً للعب الكبار. كلّ الحراكات تُقرأ من هنا. كل الاستشرافات تُبصر من هذه النقطة. ما هو حال أو مصير الصراع الأميركي ـ الإيراني؟ تكفي الإجابة عن هذا السؤال تحديداً لكي تتوالى الإجابات عن الكثير من الأسئلة في الدواخل العراقية أو اللبنانية أو السورية أو أو..

ليست نتائج الانتخابات هي التي تحدد قواعد اللعبة. ليست القضية قضية أكثرية أو أغلبية. ليست مسألة رئيس قادر وآخر غير قادر، بل وحدها ـ تقريباً – التوازنات في الإقليم ترسم معالم الطريق، ودائماً عبر الأذرع، التي ما زالت تتصرف على المنوال نفسه منذ عراق ما بعد 2003.. مقتدى الصدر برغم حجمه المليوني الكبير والموروث قرر أن “يستسلم”. “الشاطر” من يُحاول تحسين وضعه لكن داخل الإطار المرسوم للعبة، لا خارجها. هذا كلامٌ في الواقعية السياسية ليس إلا. واقعية جعلت الأكثرية تنتقل من مقلب إلى آخر فقط بسبب الإرتجال!

كان مصطفى الكاظمي “شاطراً” بحساباته. أتقن على مدى 30 شهراً اللعب على حبال التوازنات الإقليمية والدولية. نجح بأن يكون صلة وصل. نجح في الانفتاح على الجوار العربي كما على الغرب بكل فصوله وألوانه. لكن ما أن ذهب الكاظمي حتى أخذ معه “انجازاته” لا بل ثمة محاولة لـ”إجتثاث” كل من زرعهم في الأمن والإدارة، حاله كحال حزب البعث العراقي قبل عقدين من الزمن. مشكلة الكاظمي أنه لم يكن يمتلك استراتيجية واضحة لإدارة الدولة من شأنها مراكمة الإنجازات ولا حمى نفسه بكتلة نيابية وتحالفات وازنة.

من بعده، أتى محمد شياع السوداني محاولاً تلمس تلك الخطة المفقودة، ولكن دائماً لا بد من البدء من الصفر وصولاً إلى محاولة صنع إنجازات جدية. ومنذ تسلمه سدة رئاسة الحكومة في تشرين الأول/أكتوبر 2022، قرر السوداني أن يصنع فارقاً، وهو الذي عبّر البعض عن حكومته بأنها “حكومة الفرصة الأخيرة”، وهو أيضاً  الذي ينعته الأصدقاء كما الخصوم بنزاهة الكف. خطابه منذ البداية كان واضحاً، معلناً هدفه المعروف بأن حكومته حكومة خدمات بالدرجة الأولى. لأجل هذا يجتهد كي يبقي على مسافة واحدة من الجميع. لا يحتمل المشهد تجييراً أصلاً، بل على العكس؛ سيحتاج السوداني في كل مرة لأن يصوغ خطاباً يدفع عنه تهمة الميل إلى الكفة الإيرانية. ولعل تعارض وجهات النظر بينه وبين قادة في “الإطار التنسيقي” يجعل اسم الرجل أكثر مقبولية بحكم الوسطية التي ينتهجها في الداخل وعلى صعيد الإقليم.

سبعون يوماً من عمر حكومة السوداني ليست مدة كافية بالتأكيد لتقييم التجربة، لكن هذه المدة التي استثمرها ليغير حوالى 1000 شخصية سياسية وأمنية، ولينزل إلى الأرض ويعاين الأمور عن قرب. تكفي تجربة زيارته إلى مستشفى الكاظمية قبل خمسين يوماً وعودته إليها مع بداية السنة الجديدة، لإكتشاف معنى أن ينزل المسؤول الأول في الدولة على الأرض وأن تُحدث تلك الزيارة فارقاً في حياة البلد والناس..

الأكيد أن سقوط حكومة السوداني يعني أن لا حكومة ستأتي من بعدها وأن الإنتخابات النيابية المقبلة ستكون مهددة سواء في موعدها أو إن كانت مبكرة، إلا إذا كان هناك من يراهن على الإطاحة بالصيغة العراقية ورمي هذا البلد في آتون المجهول

كان الكثيرون يُراهنون على أن السوداني لا يملك من الخبرة والعلاقات ما يجعله ينجح في مد جسور خارجية، لكن تجربة السبعين يوما تشي بالعكس. الأمر لا يتصل بالشخص. هذا هو العراق. من قمة الرياض الصينية العربية الإقتصادية إلى قمة بغداد 2 في عمان وصولاً إلى الزيارتين المرتقبتين إلى كل من الولايات المتحدة وألمانيا قبل نهاية الشهر الحالي، فضلاً عن زيارة طهران والتشبيك مع قيادات عربية عدة بينها رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي.. كل ذلك كفيل بالقول إن الرجل يحاول بحق. لكن، وبالعودة إلى كلام الواقعية السياسية، سيطرح السؤال نفسه: هل المآلات ستكون محكومة بالنوايا والأفعال أم في الأدوات الحقيقية التي تتيح لأي رئيس حكومة جديد تغيير الواقع العراقي المأزوم؟ هل يملك محمد شياع السوداني حرية اتخاذ القرارات التي يجدها مناسبة وضروريّة أم أنه بحكم الواقع المعقد والمتشابك سيواجه العقبات نفسها التي منعت من سبقوه إلى الموقع ذاته من إحداث الفرق المطلوب؟

إقرأ على موقع 180  بن لادن.. عندما غيّر العالم بشكل كارثي (1)

لعل الإجابة أتت سريعة مع الانخفاض الأخير في قيمة العملة المحلية مقابل الدولار الأميركي، وهو ارتفاع قُرئ على أنه رسالة سياسية واجتماعية واقتصادية ومالية، لحكومة السوداني بالتحديد. فعلياً، وعلى ضوء طريقة تعامل حكومة السوداني مع هذا الاستحقاق المستجد، يمكن بعدها التماس تقييم عملانيّ ومنطقي لأدائه كرئيس للسلطة التنفيذية في البلاد.. لكن السؤال الآن: هل هي لعبة جديدة بين الكبار، على أرض العراق هذه المرة، وبأدوات اقتصادية لا عسكرية؟

تدور الأحداث في العالم كله اليوم على رحى اقتصادية. لم يعد من عاملٍ أقوى على التأثير والتغيير من هذا العامل، ومع ذلك، ثمة من يتجاهله أحياناً، بل في كثيرٍ من الأحيان. وفي العراق تحديداً، هذا البلد الذي يشكل الخاصرة الرخوة للدولار عملياً في المنطقة، ثمة نقطة ضعف اقتصادية رهيبة، ومع ذلك تكاد تكون منسية! وزبدة الكلام أن الإدارة الأميركية تمتلك بعض مفاتيح التحكم بالاقتصاد العراقي وخصوصاً السياسة النقدية، وذلك عبر صفقة أجريت منذ العام 2003 ولا تزال قائمة، دون أن يحاول أحد تغييرها، واختصارها بأن السياسة النقدية العراقية والتي تعتمد على الواردات الأساسية العراقية (واردات النفط) لن تأتي إلى العراق مباشرة، بل تذهب الى حساب البنك الفدرالي في أميركا، ومنه يتم تغذية البنك المركزي العراقي والمفاصل المالية العراقية، ضمن آليات معينة اتفق عليها الطرفان في ذلك الوقت. وقد كانت الذريعة  آنذاك حماية الأموال العراقية من العقوبات والشكاوى المرفوعة ضد العراق بسبب  الحصار الاقتصادي الذي لاحقه على خلفية غرو الكويت. ومن خلال هذا المفتاح الأساسي، تم تجفيف الدولار مؤخراً من البنك المركزي العراقي لأسباب سياسية، في خطوة أدت إلى ما أدت إليه من واقع نقدي جديد وصعب.

اليوم، وبعد “قانون قيصر” المفروض على سوريا، والعقوبات على إيران، كما تلك التي على لبنان أيضاً.. وفي ظل الأجواء الملبدة في كل هذه البلدان الآنفة الذكر، هل تستخدم أميركا ورقة الضغط الأخيرة في العراق لقطع الأوكسيجين عن أذرعة إيران في الإقليم وهل يعني ذلك أن العراق أمام استحقاق جدي للالتزام بقيود “الصفقة”، وهل بدأت الأزمات تحاصر فعلاً حكومة السوداني، وتطرح علامات الاستفهام الجدية والكبيرة حول مصير النظام السياسي ككل أم أن السوداني سيتلقفها كرسالة، ليعود وعلى طريقة اللعب مع الكبار، ويهندس اللعبة بما يتناسب وعراق قادر على إقامة التوازن المطلوب مع طهران؟

هل يملك محمد شياع السوداني حرية اتخاذ القرارات التي يجدها مناسبة وضروريّة أم أنه بحكم الواقع المعقد والمتشابك سيواجه العقبات نفسها التي منعت من سبقوه إلى الموقع ذاته من إحداث الفرق المطلوب؟

لعل أكثر من ينتظر الأجوبة اليوم، من بين كل الفاعلين السياسيين هو التيار الصدري. لا شك بأنه يترقب اللحظة المناسبة للقفز مجدداً إلى المشهد السياسي، وهي خطوة يُنتظر أن تقترن وتوقيت إقرار الموازنة ومناقشة قانون الانتخاب الجديد.. لكن ما أثبتته الأيام ان شخصية من نوع السيد مقتدى الصدر تحتمل كل المفاجآت بما فيها الإنقلاب على الذات كما فعل بعد الإنتخابات. وحتماً هو ينتظر هدية ما من الإطار التنسيقي أو من أي طرف من الأطراف لكي يعود. هو ما يزال يتصرف حتى الآن بطريقة توحي باقتناعه بحتمية فشل المشهد السياسي الحالي بفعل عوامل خارجية أو داخلية.

وكما يبدو عليه المشهد حالياً، فإن السنة الجديدة لن تكون أقلّ صخباً من سابقتها.. ولعل الأشهر الثلاثة الأولى قد تحدّد معالم المستقبل القريب للعراق، ومعها الملامح العامة لمستقبل المنطقة.. والعكس صحيح!

الأكيد أن سقوط حكومة السوداني يعني أن لا حكومة ستأتي من بعدها وأن الإنتخابات النيابية المقبلة ستكون مهددة سواء في موعدها أو إن كانت مبكرة، إلا إذا كان هناك من يراهن على الإطاحة بالصيغة العراقية ورمي هذا البلد في آتون المجهول.

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  بايدن لإحتواء الصين.. منعاً لصعود قوى دولية جديدة!