“معركة الحجاب”.. إنها الثورة الإيرانية بامتياز!

"القلق على مستقبل البلاد صار يسيطر على الجميع، على مؤيّدي النظام ومنتقديه. إنّما الأسوأ، أنّ البعض لا يريدون قبول أصل القضيّة. لا يريدون القبول بأنّ بعض النساء والشباب لا يؤيّدون خططهم". هكذا يوجز الأستاذ الجامعي الإيراني صادق زيبا كلام، الوضع في الجمهوريّة الإسلاميّة. بظلّ استمرار الاحتجاجات الشعبيّة غداة مصرع الشابّة مهسا أميني أثناء اعتقالها في مركزٍ للشرطة في طهران.

يؤكّد البروفسور صادق زيبا كلام، في مقاله المنشور البارحة في صحيفة “آرمان ملي” الإيرانية الإصلاحيّة، أنّ موجة الاحتجاجات في إيران كانت حتميّة. ولو لم تمت مهسا أميني، لكان عُثِر على عذرٍ آخر لتندلع اضطراباتٌ كهذه في الجمهوريّة. ولا سيّما وأنّ النهج المعتاد في التعامل مع “الاحتجاجات” يُستعاد اليوم. إذْ لم تتغيّر، كما يقول، طريقة تعامل المسؤولين في النظام مع الأحداث عمّا كانوا يفعلونه في الماضي!

موقف زيبا كلام يختصر، إلى حدٍّ بعيد، الأجواء التي نقلتها في الأيام والساعات الماضية الصحف الإصلاحيّة في إيران. فمانشيتاتها حملت تساؤلاتٍ تشبه التمنّيات؛ بأن يكون المسؤولون الإيرانيّون قد التقطوا الرسائل التي تحملها الاحتجاجات. وأن يكونوا قد تعلموا شيئاً من درسها؟ هذا في حين، عكست الصحف المحافظة أجواء المحافظين ولا سيما الحرس الثوري. وكلّها إما تحذر من “الفتنة” أو تستند إلى نظريّة “المؤامرة العالميّة” على إيران، كما يفترض الناشط السياسي الأصولي أحمد كريمي أصفهاني. إذْ لا يمكن تجاهل التوقيت الذي اندلعت فيه “الاحتجاجات المدعومة دوليّاً بالتزامن مع وجود الرئيس (إبراهيم رئيسي) في نيويورك وأثناء مفاوضاتٍ لإحياء الاتفاق النووي”.

وبينما كان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يُندّد من نيويورك بما أسماه “نفاق” القوى الغربيّة التي لا تتعاطف مع الذين فقدوا حياتهم على أيدي “سلطات إنفاذ القانون” في أوروبا وأميركا الشماليّة. كان الجيش الإيراني يتوعّد بالتصدّي للاحتجاجات. لكونها جزءًا من “استراتيجيّة خبيثة لأعداء إيران، تهدف إلى إضعاف النظام الإسلامي”. ومن ناحيته، أَمَر الحرسُ الجمهوري القضاء بملاحقة “الذين يبثّون الأخبار الزائفة” المتّصلة بأحداث إيران. لكنّ الأخطر لا يكمن في هذه التصريحات. بل في محاولة النظام خلق جبهاتٍ متقابلة في صفوف الشعب!

ليست بسيطة المشاهد الوافدة من المناطق الإيرانيّة. فهي تعكس حجم العنف الآخذ في التصاعد هناك، مع توسّع رقعة الاحتجاجات. ومع ارتفاع نبرة التخوين والتخويف للمحتجّين الذين وُصِفوا بـ”المرتزقة الذين أهانوا القرآن الكريم والنبي. وأحرقوا مساجد وعلم الجمهوريّة الإسلاميّة المقدّس. ودنّسوا حجاب النساء والأماكن العامّة. ومسّوا بالأمن العامّ”. بهذه التعابير هتف، أمس الأول، أنصار النظام الإيراني الذين أُنزِلوا إلى الشوارع في “تظاهراتٍ مضادّة” كي تواجه “ثورة الحجاب”. أنزلوهم، بحسب ما كتبت صحيفة “كيهان” المحافظة، “لإنهاء الجدل وبدء معاقبة خُدّام أميركا”. وعندما بدأت تتكشّف الكلفة البشريّة للتظاهرات. وبعدما تحوّلت الشعارات والهتافات من مستوى المطالبة بتعديل قانون “الحجاب والعفّة”، إلى مستوى الدعوة لإسقاط النظام. ما الذي فرض هذا التحوّل في أهداف الاحتجاجات؟

يصعب لمتتبّع الوضع في إيران التصديق، بأنّ الشابّات والشبّان الذين انفجروا غضباً وتحدّياً في الشوارع الإيرانيّة إنّما تحرّكوا بإيعازٍ من “الشيطان الأكبر” أو أيّ شيطانٍ آخر! ويصعب، كذلك، توقّع استسلامهم تحت الضغط والقمع. هم سينكفئون إلى حين، بلا ريب. إنّما ستبقى “ثورتهم” ناراً تحت الرماد. تكفي نفخة صغيرة لتعاود اشتعالها

ارتدت الإيرانيّات الحجاب، عندما تحرّكْنَ لمواجهة نظام الشاه. أي إنّهنّ جعلْنَ حجابهنّ رمزاً للمقاومة. ولبسْنَ الشادور، أيضاً، بوصفه أداةً ثوريّة في النضال ضدّ الديكتاتور الفاسد وسياسته التغريبيّة. ما يعني، أنّ الحجاب والشادور لم يكونا دليلاً، في ذاتهما، على أيّ قناعاتٍ دينيّة للمرأة الإيرانيّة. وبعد خمس سنوات على انتصار الثورة الإسلاميّة، فرض البرلمان قانوناً يُلزِم الإيرانيّات بارتداء الحجاب. ما رأى فيه البعض، وقتذاك، إجراءً يتنافى مع مبادئ الثورة التي قادها الإمام الخميني، والذي وعد بمنح الشعب الإيراني حريّته باختيار مصيره. لم تكن المرأة الإيرانيّة مشمولة، كما تبيّن، بـ”حريّة اختيار المصير” تلك!

مع تحويل الحجاب من شأنٍ خاصّ (يستند إلى الإرادة الحرّة لصاحبته)، إلى شأنٍ عامّ، ارتبط الحجاب بالتحكّم والسلطويّة. سواء أكان ذلك من قِبَل السلطة السياسيّة، أو من أيّ سلطةٍ أخرى. وباتت “معركة الحجاب”، مذّاك، صراعاً سياسيّاً بامتياز. يتلبّس بلبوسٍ ديني أو باستخدام ديباجاتٍ دينيّة. بعبارةٍ أوضح، اخترق “السياسي” “الديني”. ليعيد إنتاجه تعبيراً عن مصالح مَن يقف وراءه. وما شهدناه ونشهده اليوم بخصوص الحجاب، ليس سوى أزماتٍ وصراعاتٍ سياسيّة (ذات أبعاد دينيّة وثقافيّة). تختبر فيها الأطراف المشاركة، في هذه الأزمات والصراعات، توازنات القوى والمصالح، في ما بينها. بظلّ تداخلٍ شديد، بين المصالح وبين المشاعر الدينيّة. أليس هذا ما يحصل في إيران هذه الأيّام؟

عوامل عديدة ومختلفة حوَّلت مسألة الحجاب إلى مسألةٍ هويّاتيّة. وجعلتها، غالباً، محلّ تجاذبٍ ديني وسياسي. بحيث خرجت من الأسوار الحَوْزَويّة والفقه المدرسي، إلى فضاءات المجتمع وصراعات المشهد الثقافي. وحرصت السلطة دوماً على إبقائها، وبزخم كبير، كجزءٍ من معاركها السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة. المعركة الجديدة على الحجاب في إيران فرضها الرئيس الإيراني. وعلى الرغم من كلّ التحدّيات التي يواجهها النظام الإيراني، في الداخل والخارج. فلقد أحيا رئيسي قانون “الحجاب والعفّة” الذي ظلّ حبيس الأدراج، لسنواتٍ طويلة. وأكثر. لقد هدّد المواطنات الإيرانيّات بأنّ مخالفته ستكون وخيمة عليهنّ!

إقرأ على موقع 180  من إدلب إلى شرق الفرات .. نهاية سياسة الفصل!

ترافق بثّ الروح في قانون “الحجاب والعفّة”، مع نشاطٍ ملحوظ لفرق التفتيش التابعة لوزارة الداخليّة. صارت هذه الفرق تتنقّل في مقرّات العمل ودوائر الدولة الإيرانيّة. بينما تجوب دوريّات “شرطة الإرشاد” شوارع البلاد، بالطول والعرض. يوقِف عناصرُها النساء ويتفحّصون ملابسهنّ. و”يقيّمون” عدد خصلات الشعر الظاهرة للعيان. خصلةً خصلة. وطول البنطلون الذي ترتديه المرأة ومعطفها. وكميّة مساحيق التجميل التي تضعها على وجهها. “نذهب في الدوريّة كما لو كنّا ذاهبين إلى الصيد”، يقول أحد عناصر “شرطة الإرشاد” لهيئة الإذاعة البريطانيّة. ووعد الرئيس بأنّ هذه الشرطة ستُخضِع، قريباً، جميع نساء البلاد للمراقبة. أي ما يقرب من 40 مليون امرأة وفتاة في الجمهوريّة الإيرانيّة. وذلك من خلال استخدام تكنولوجيا لمراقبتهنّ (على طريقة “الأخ الأكبر يراقبك” لجورج أورويل في روايته “1984”). إلى أين يمكن أن تفضي الاحتجاجات الحاليّة؟

بطبيعة الحال، لن تفضي إلى إسقاط النظام. لكنّها ستساهم في إضعافه، بكلّ تأكيد. ستُخمِد السلطات هذه الاحتجاجات، كما فعلت في كلّ مرّة. وستوسّع نطاق حملة التضييق على قوى المعارضة، بمزيدٍ من القمع. وبتمرير قوانين غير ديموقراطيّة رادعة للمخالفين (على غرار قانون “الحجاب والعفّة”). وهي ستُمعِن، أكثر فأكثر، في النفخ في جمر الثورة لتثبيت شرعيّتها، أمام أنظار الداخل والخارج. فالنظام بحاجة للإثبات بأنّه قادر على بسط سيطرته على الشارع. وبأنّه قادر، في الوقت عينه، على اتخاذ القرارات الصعبة في الأوقات الصعبة والحسّاسة.

كلمة أخيرة. يصعب لمتتبّع الوضع في إيران التصديق، بأنّ الشابّات والشبّان الذين انفجروا غضباً وتحدّياً في الشوارع الإيرانيّة إنّما تحرّكوا بإيعازٍ من “الشيطان الأكبر” أو أيّ شيطانٍ آخر! ويصعب، كذلك، توقّع استسلامهم تحت الضغط والقمع. هم سينكفئون إلى حين، بلا ريب. إنّما ستبقى “ثورتهم” ناراً تحت الرماد. تكفي نفخة صغيرة لتعاود اشتعالها. “ففي بيت النملة تصبح قطرة الماء طوفاناً”، كما يقول المثل الشعبي الإيراني. إقتضى التنويه.

(*) راجع الجزء الأول بعنوان: “ثورة الحجاب”.. إسقاط التكفير الديني

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  هل أخطأ السنوار.. ونصرالله؟