سكّان الحافة الأمامية في جنوب لبنان.. صدمة الاقتلاع ودينامية العلاقة بالمكان

لطالما شكّل الشريط الحدوديّ الجنوبيّ في لبنان أكثر من مجرّد خطٍّ فاصلٍ على الخريطة؛ فقد كان عبر عقودٍ طويلةٍ فضاءً اجتماعياً واقتصادياً غنياً، حيث تتشابك حياة السكان مع تفاصيل المكان بشكلٍ عضويٍّ. هذه القرى والبلدات لم تكن مجرّد مواقع سكنية، بل كانت مساحاتً يوميةً تُمارَسُ فيها الزراعة، وتُبنى فيها روابط القرابة، وتُحيَى فيها الطقوس الاجتماعية والدينية.

كان “المكان” بالنسبة لأهل الجنوب هو البيت والحقل، والساحة وبيت العيلة؛ كان هو الفضاء الذي يتشكّل فيه معنى الانتماء ذاته، وتُنْسَجُ فيه الذاكرة الفرديّة والجماعيّة. هذه العلاقة الحميمة لم تكن علاقة امتلاكٍ ماديٍّ فحسب، بل هي علاقةٌ وجوديّةٌ عميقةٌ.

لكنّ هذه الرابطة تعرّضت لاهتزازاتٍ عنيفةٍ ومتكرّرةٍ بفعل الاعتداءات الإسرائيلية المتعاقبة منذ ستينيّات القرن الماضي. فكلّ موجة نزوحٍ قسريٍّ لم تقتصر على ترك الناس بيوتهم وحقولهم، بل فرضت عليهم مواجهة أسئلةٍ وجوديّةٍ معقّدةٍ. إذ، كيف يمكن للمرء أن يُدْرِكَ وجوده المكانيّ بعد أن يُقْتَلَعُ منه؟ كيف يُعادُ تشكيل المكان في الذاكرة والمخيال الجماعيّ؟ وهل تتحوَل الأرض المفقودة إلى مجرّد ذكرى عابرة، أم تبقى جزءاً فاعلاً من الهويّة والمقاومة؟

يتناول هذا النصّ هذه الإشكالية عبر تحليلٍ أنثروبولوجيٍّ يدمج الأطر النظرية المعمّقة مع البيانات الميدانيّة والشهادات الحيّة. ويعتمد على منظورات مفكّرين مثل مارتن هايدغر، غاستون باشلار، هنري لوفيفر، مارك أوجيه، وبيير بورديو، مع ربطها بواقع النزوح في الجنوب اللبناني. ويخلص إلى أنّ النزوح، رغم كونه قطعاً ماديّاً قاسياً، لم ينهِ العلاقة بالمكان، بل أعاد إنتاجها في مستوياتٍ رمزيةٍ جديدةٍ، حيث تحوّل المكان المدمّر إلى ذاكرةٍ حيّةٍ، وهويّةٍ جماعيّةٍ صامدةٍ، وموقعٍ للمقاومة ولو بمعناها غير المسلّح.

تفكّك النّسيج الاجتماعيّ

إن فهم صدمة النزوح يتطلّب تجاوز المنظور الماديّ الصّرف. فكما يؤكد الفيلسوف مارتن هايدغر (Heidegger, 1971)، “السكن” ليس مجرّد إقامةٍ في حيّزٍ جغرافيٍّ، بل هو فعلٌ وجوديٌّ يحدّد علاقة الإنسان بالعالم. وفق هذا المنظور، فإن نزوح سكّان القرى الجنوبية لا يمثل مجرّد فقدانٍ ماديّ للبيوت، بل انهيار أساس وجودهم. البيت بالنسبة لهم هو إطار “أن يكونوا في العالم”، والاقتلاع منه يخلق فراغاً وجودياًّ عميقاً. تجسّد هذه الفكرة قصة يوسف عباس من قرية عيترون، الذي بنى منزله على مدى خمسة عشر عاماً من الجهد والتّعب، ليجد نفسه بعد النزوح يشعر بـ”الضياع وعدم الأمان” (الجزيرة، 2024). إنّ دمار منزله لم يكن خسارةً عقاريّةً فقط، بل كان بترًا لتسلسل حياته وزمنه، حيث انقطعت صلته بجهود الماضي وبآمال المستقبل.

يأتي تحليل غاستون باشلار (Bachelard, 1994) ليُعمّق هذا الفهم، حين يعتبر أنّ البيت هو “خزّان للذاكرة والخيال”. فالمنازل ليست مجرّد جدرانٍ وأسقفٍ، بل هي روايةٌ شخصيةٌ وعائليةٌ تُحْفَظُ في تفاصيلها الصغيرة: في القبو الذي احتمى فيه الأجداد أثناء القصف، وفي العلّية التي احتضنت ذكريات الطفولة، وفي شجرة الزيتون التي غرسها الأب. عندما تُهْدَمُ هذه البيوت، لا ينهار الحجر فقط، بل تُهْدَمُ طبقاتٌ من الذاكرة، ويفقد الناس جذورهم الرمزيّة. يظهر هذا في شهادة مصطفى السيّد من بلدة بيت ليف، الذي لجأ إلى مركز إيواءٍ بعد أن دمرت الغارات منزل ابنته وشقيقه (الجزيرة، 2024). إنّ شكواه من “مرارة النزوح وعائلته بلا أغراضهم وثيابهم ومكانهم” (الجزيرة، 2024) لا تعكس فقط الحاجة الماديّة، بل الإحساس بفقدان الهوية التي كانت تتجسّد في كلّ تفصيلٍ من تفاصيل حياته.

تفكّك الفضاء الاجتماعيّ

يقدّم هنري لوفيفر (Lefebvre, 1991) منظورًا آخر، حين يعتبر أنّ الفضاء هو نتاجٌ اجتماعيٌّ. فالقرى الجنوبية لم تكن مجرّد تضاريس طبيعيّة، بل كانت فضاءاتً منسوجةً عبر العمل اليوميّ المشترك، وأنماط العيش الجماعيّة، وشبكات التضامن الأهليّ. هذا ما تعكسه الشهادة الصادقة لأحد النازحين: “بيتنا تهدّم، بس الجيران والضيعة بعدهم بذاكرتنا. نحن مش ساكنين بالحجر، نحن ساكنين ببعضنا”.

يُبْرِزُ النزوح حقيقة أنّ المكان لا يتكوّن من الحجر وحده، بل من شبكة العلاقات التي تنهار بفعل التهجير. ورغم أن العائلات النازحة تُظْهِرُ تضامناً مذهلاً، حيث يقيم أكثر من 80% من النازحين لدى الأقارب والأصدقاء (المنظمة الدولية للهجرة، 2025)، إلا أنّ هذا التكافل يؤكّد في الوقت نفسه غياب البنى التحتية الحكومية التي تستطيع استيعابهم. إن هذا التشتيت لم يكن مجرّد تباعد جغرافي، بل كان انهياراً للبنية الاجتماعيّة التي كانت قائمة على التضامن اليوميّ المباشر.

الإقامة في “اللا-أمكنة”

يصف مارك أوجيه (Augé, 1995) “اللا-أمكنة” بأنّها فضاءاتٌ عابرةٌ لا تترك أثراً في هوية الأفراد، مثل المطارات أو المخيّمات المؤقتة. سكان الجنوب الذين لجؤوا إلى مدارس مهجورةٍ أو قاعاتٍ عامّةٍ تحوّلت إلى ملاجئ، أو حتى لجأوا إلى النّوم في السيارات وعلى الشاطئ، يعيشون تجربة “اللا-المكان”. هذه الفضاءات لا تمنحهم إحساساً بالانتماء، بل تكرّس غربتهم وتجعلهم يعيشون “على هامش الزمن” (الجزيرة، 2024).

وتتفاقم أزمة “اللا-مكان” في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان (جسر، 2023)، حيث يواجه النازحون صعوباتٍ مضاعفةً، من غلاء الإيجارات إلى “الاستغلال المنتشر” (المنظمة الدولية للهجرة، 2025). هذا الوضع يحوّل النزوح من حالةٍ عابرةٍ إلى أزمةٍ معيشيّةٍ مستدامةٍ، مما يجعلهم لا يعيشون فقط في “لا-مكان” بل في حالة من “الوجود المعلّق”. إن غياب الدعم الحكومي (المنظمة الدولية للهجرة، 2025) يترك النازحين عرضة لهذه الصدمات، مما يضعف قدرتهم على استعادة حياتهم ويجعل العودة حلماً بعيد المنال.

أيّ مقاربة لإعادة الإعمار أو دعم صمود الجنوب يجب أن تُدْرِكَ أنّ استرجاع المكان لا يعني مجرّد إعادة بناء البنية التحتية، بل يتطلب إعادة وصل الإنسان بأرضه وذاكرته، وإعادة الحياة للفضاء كنسيجٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ. إنّ المكان المدمّر يظل جزءاً حياً من هوية الجنوبيين، ومصدر إصرارهم على العودة وإعادة الحياة، حتى وإن كانت الطريق محفوفةً بالمخاطر وتتطلب جهوداً غير عادية في غياب دورٍ مركزيٍّ وفاعلٍ للدولة

المكان كقوة رمزية للحياة

يُظهر النزوح بوضوحٍ كيف أنّ المكان ليس مجرّد بيئةٍ خارجيةٍ، بل يتجسّد في الجسد والعادات، كما يوضح بيير بورديو (Bourdieu, 1977) من خلال مفهوم “الهابيتوس” (وهو الأنظمة المكتسبة والمستدامة من الميول والتصرفات التي تشكل كيفية إدراك الأفراد للعالم، وشعورهم به، وتصرفهم فيه). فالفلاحون الذين اعتادوا على العمل في الأرض وإيقاع المواسم الزراعية يجدون أنفسهم فجأةً في فضاءاتٍ لا تستوعب هذه الممارسات، مما يفرض عليهم أنماط حياةٍ مغايرةً تمامًا. هذا يولّد صراعاً بين “الهابيتوس القروي” المتجذّر في أجسادهم وبين “الفضاء الجديد”.

إقرأ على موقع 180  جمهورية إيران التاسعة.. هل يُعين الله بزشكيان؟

إنّ فقدان الرابط العضويّ مع الأرض يتجاوز فقدان مصدر الرّزق ليتحوّل إلى أزمةٍ وجوديةٍ-جسديةٍ، وهو ما لخّصته إحدى النساء النازحات من بنت جبيل: “إيدي تعوّدت تمسك المعول، مش قادرة أتعوّد إني أقعد بلا شغل بالأرض”. لكن في المقابل، يصبح الحفاظ على العادات والتقاليد وسيلةً للمقاومة الثقافيّة. فعادة “المونة” (تخزين المؤن الشتوية)، على سبيل المثال، هي أكثر من مجرّد إعداد للطعام؛ إنها طقسٌ متوارثٌ يعزّز الانتماء (صليعي، 2019)، ويصبح الحفاظ عليه في النزوح شكلاً من أشكال إعادة إنتاج “القرية” في الفضاء المؤقّت.

ذاكرة المكان كموقع للمقاومة

يشكّل المكان، من منظور ديفيد هارفي (Harvey, 2001)، موقعاً للمقاومة والذاكرة الجمعيّة في مواجهة قوى الاقتلاع. وهذا ما يتجلّى في إصرار سكّان الجنوب على العودة وإعادة البناء برغم الدمار الهائل. الأرض بالنسبة إليهم ليست مجرّد ملكيةٍ أو مصدر رزقٍ، بل هي رمزٌ للكرامة والهوية. إن ما نلاحظه هو أنّ المكان المفقود يصبح أكثر حضوراً في المخيال الجمعيّ بعد النزوح، حيث تتحوّل القرية إلى رمزٍ، والبيت المدمّر إلى شاهدٍ، والحقل المحترق إلى ذاكرةٍ حيّة.

هذا الارتباط يُفسّر الإصرار على العودة، كما في شهادة سيدة تقول: “ضيعتنا حلوة… وطبعاً سنعود، وسنحرّرها، فهذه الأرض لنا، إمّا نحن أو نحن” (العربي الجديد، 2025). إنّ العودة إلى الأنقاض هي بحدّ ذاتها فعلٌ سياسيٌّ وعاطفيٌّ، وتحدٍّ للعدو الذي حاول محو هذه الأماكن. وجود “شهداء ما زالوا تحت الردم والتراب” (العربي الجديد، 2025) يحوّل المكان إلى موقعٍ مقدّسٍ يجب استعادته وتطهيره، مما يزيد من دافع العودة. يعمل الفن والمحتوى البصري على ترسيخ هذه الرموز في الذاكرة الجماعية (عليان، 2024)، مثل استخدام “رمز البطيخ” الذي يربط بين المقاومة اللبنانية والقضية الفلسطينية. إن هذه الأفعال الثقافية والفنية تضمن أن المكان لن يُنسى حتى وإن غاب مادياً.

تحدّيات العودة 

يواجه العائدون إلى قراهم تحديّاتٍ هائلةٍ تتجاوز مجرّد إعادة بناء المنازل. فالواقع يفرض عليهم أزمة ثلاثيّة الأبعاد: ماديّة، أمنيّة، واجتماعيّة. الدمار هائلٌ، حيث تصل نسبة المنازل المدمرة في بلدة حولا إلى حوالي 75% (الجزيرة، 2025). كما أن البنية التحتية الأساسية شبه منهارة، من شبكات المياه التي تعرّضت لأضرارٍ في أكثر من حيٍّ (أيوب، 2025)، إلى المدارس المدمّرة في معظم البلدات (الجزيرة، 2025).

كما أن الخروقات الأمنية المستمرّة تزيد الوضع تعقيداً، حيث يمنع جنود الاحتلال المزارعين من الوصول إلى نحو 50% من أراضيهم الزراعية، ويطلقون النار عليهم لترهيبهم ومنعهم من زراعة أراضيهم أو زيارة بيوتهم (الجزيرة، 2025). هذه التحديات المتداخلة تجعل العودة عمليّةً محفوفة بالمخاطر، وتتطلب جهوداً أكبر بكثير من مجرّد إعادة بناء الحجر، وتكشف عن الفجوة الهائلة بين الإرادة الشعبية وغياب الدّعم الرسميّ.

من إعادة الإعمار إلى إعادة الحياة

في ظلّ هذا الواقع المرير، تظهر مبادراتٌ شعبيةٌ ومجتمعيّةٌ تعكس الإرادة في إعادة بناء المكان. فمبادرة “تجمّع أبناء البلدات الجنوبية الحدودية” تسعى للضغط من أجل العودة الآمنة ودفع التعويضات، معلنةً أنّها “تجمّع مستقلّ ليس له أيّ علاقة بالأحزاب” (الشرق الأوسط، 2025). كذلك، قام طلابٌ في كلّية الهندسة المعماريّة في الجامعة اللبنانية بوضع تصورٍ شاملٍ لإعادة إعمار بلدة ميس الجبل، مع الأخذ في الاعتبار مبادئ الاستدامة (ونوس، 2025). وبرغم أنّ هذا المشروع لا يزال “على الورق” (ونوس، 2025)، فإنّه دليلٌ على وعيٍ مجتمعيٍّ عميقٍ بأنّ إعادة الإعمار تتجاوز الهندسة إلى استعادة الحياة.

تُدْرِكُ المنظمات الإنسانيّة أهمية الجانب النفسيّ والاجتماعيّ في عمليّة العودة. فقد أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعيّة بالتعاون مع منظماتٍ غير حكوميّة مشروعاً لتقديم الدّعم النفسيّ والاجتماعيّ للنازحين والصّامدين في المناطق الحدوديّة عبر عيادات متنقلة (وزارة الشؤون الاجتماعية، 2024). هذه الجهود، وإن كانت محدودةً، تؤكّد أنّ إعادة الإعمار الحقيقيّة هي عمليةٌ شاملةٌ تتطلّب ترميم الحجر والبشر.

في الختام، يتّضح من هذا التحليل أن العلاقة بين سكان الشريط الحدوديّ الجنوبيّ وأمكنتهم تتجاوز الجغرافيا الماديّة لتلامس الهويّة والذاكرة والوجود. لم يقطع النزوح هذه العلاقة، بل أعاد إنتاجها في مستويات رمزية أعمق وأكثر تعقيداً. فالبيت المدمّر لم يتحوّل إلى مجرّد أنقاض، بل أصبح ذاكرةً حيةً، والأرض لم تعد مجرّد ملكيةً، بل تحوّلت إلى رمزٍ للهويّة والمقاومة.

إنّ أماكن النزوح المؤقتة، سواءٌ كانت ملاجئ أو شققاً مستأجرةً، تبقى “لا-أمكنة” تعمّق الاغتراب ولا تعوض الفقد، وهو ما يجعل العودة إلى الأرض حلماً جماعياً، ليس فقط لاستعادة البيوت المهدّمة، بل لترميم الهويّة وإعادة بناء النسيج الاجتماعيّ. أيّ مقاربة لإعادة الإعمار أو دعم صمود الجنوب يجب أن تُدْرِكَ أنّ استرجاع المكان لا يعني مجرّد إعادة بناء البنية التحتية، بل يتطلب إعادة وصل الإنسان بأرضه وذاكرته، وإعادة الحياة للفضاء كنسيجٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ. إنّ المكان المدمّر يظل جزءاً حياً من هوية الجنوبيين، ومصدر إصرارهم على العودة وإعادة الحياة، حتى وإن كانت الطريق محفوفةً بالمخاطر وتتطلب جهوداً غير عادية في غياب دورٍ مركزيٍّ وفاعلٍ للدولة. (المصادر: الجزيرة، العربي الجديد، وزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان، الشرق الأوسط، المنظمة الدولية للهجرة ومجموعة مؤلفين).

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الفاتيكان للراعي: قبل تحييد لبنان.. نريد حياد المسيحيين!