خطر المفاهيم العنصرية للهوية اليهودية في العقيدة الصهيونية (1)

برغم محاولة "إسرائيل" نفي صفة العنصرية والأبارتهايد عنها، ورغم أن وثيقة الاستقلال التي تلاها بن غوريون يوم إعلان قيام الدولة الإسرائيلية تقرّ مبدأ المساواة وترفض أي تمييز على أساس الدين، أو القومية، أو الجنس، أو العرق، إلا أن "إسرائيل" قامت كي تكون دولة لليهود دون غيرهم.

للعنصرية الإسرائيلية جذور متأصلة في الصهيونية، العقيدة التي كانت الأساس في إنشاء “دولة إسرائيل”، وفي طرد السكان العرب من أرض فلسطين، وهي نابعة من نظريتهم الأيدولوجية الزاعمة بأنهم “شعب الله المختار” وأن ما تبقى هم من الجوييم الأغيار بناء على على ما جاءت به التوراة وتعاليم أنبياء إسرائيل. هذه الصهيونية التي نشأت جذورها داخل بعض فروع البروتستانتية المسيحية، استندت إلى الكتاب المقدس في العهد القديم للقول بأن الله اختار شعب إسرائيل وفضّلهم ووعدهم بأرض صهيون (فلسطين)، وبالتالي فهم يملكون بحكم هذا الوعد الإلهي الحق في طرد السكان الأصليين، أي العرب بكافة الوسائل مهما اتصفت بالوحشية وباللاإنسانية.

لم تنظر الصهيونية إلى اليهودية على أنها مجرد دين، بل اعتبرت اليهود “شعباً” و”أمة” و”عرقاً”. وفي أواخر القرن التاسع عشر، سعى بعض أنصار الصهيونية إلى إعادة صياغة مفاهيم اليهودية من حيث الهوية العرقية و”علم العرق” واعتقدوا أن علم الأحياء قد يوفر “دليلاً” على “الأسطورة العرقية القومية للأصل المشترك” من أرض إسرائيل التوراتية. وبرغم عدم ثبوت هذه النظرية حتى اليوم إلا أنها ما زالت أحد العناصر التي يستند إليها الصهاينة لتبرير استخدام الدين أساساً لقوميتهم.

هذه النظرة العرقية كان لا بدّ أن تؤدي إلى تمييز عنصري وعرقي يبرّر سياسات التطهير العرقي التي اتبعتها الدولة الصهيونية بدءاً من طرد السكان الأصليين، ثم إقرار القومية اليهودية أساساً لدولة “اسرائيل”، وصولاً إلى ارتكاب الإبادة الوحشية في غزة دون اعتراض من الرأي العام الإسرائيلي. هذه السياسات المتبعة أدّت في عام 1975، إلى اتّخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3379، الذي وصف الصهيونية بأنها “شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”. صحيح أن هذا القرار ألغي في العام 1991 بعد أن اشترطت إسرائيل مشاركتها في محادثات السلام في مدريد على هذا الإلغاء إلا أن هذا لا ينفي النظرة الدولية للصهيونية في ذلك الحين.

العامل السياسي كان هو المحرك الرئيس للصهيونية. أما الروايات الدينية التوراتية وغيرها، كذلك محاولة دعم سردية نقاء عرقي وشعب واحد، فما هي إلا حجج حاولت وتحاول دائماً الصهيونية التذرع بها لتبرير الاستيلاء على فلسطين وطرد أهل الأرض الأصليين وتوطين اليهود مكانهم

العنصرية من أين تأتي؟

لقد توّجت “إسرائيل” تاريخها العنصري بإصدار قانون القومية اليهودية الذي يعدّ من أخطر القوانين التي أقرها الاحتلال لأنه يؤسس لنظام فصل عنصري، ولأنه يُشرع التمييز ضد العرب أصحاب الأرض. وهذا القانون هو الأول من نوعه منذ بداية التشريع في تاريخ دولة الاحتلال الذي يذكر صراحة لفظة “أرض إسرائيل”، في دلالة وكناية بأن “إسرائيل” أصبحت رسمياً البيت القومي لليهود في جميع أرجاء العالم، مما يعكس أثاراً سلبية على الوجود العربي في الداخل المحتل الذي يعاني أصلاً من التمييز العنصري منذ عقود.

الإشكالية المطروحة تتعلق بدراسة جذور النزعة العنصرية في العقيدة الصهيونية وفيما بعد في “دولة إسرائيل”. هل لهذه العنصرية ما يبرّرها في التوراة أو العهد القديم؟ هل يشكّل اليهود فعلاً عرقاً مميزاً عن بقية الشعوب؟ هل في ذلك ما يعطيهم الحق في الاستيلاء على فلسطين وطرد سكانها منها، وممارسة التمييز ضد من بقي منهم ضمن الكيان الصيهوني؟

الفرضية التي نأمل الوصول إليها هي أن هذه السردية استغلّها الغربيون واليهود لتبرير مآرب سياسية لا علاقة لها لا بالعرق ولا بالدين. الفئة الأولى أي الدول الغربية التي اضطهدت اليهود طيلة قرون عديدة وصولاً إلى الهولوكوست، أرادت التخلص من هذا الوجود اليهودي وإنشاء دولة لهم، تكفيراً عن ذنوبها وخلاصاً لها منهم. اليهود من جهتهم، اعتبروا أن إنشاء دولة لهم سيمنع استضعافهم وسيؤمن الحماية لهم. هذه الغاية كانت لتكون محقة لولا تحقيقها على حساب شعب آخر، بادّعاء تفوّق أعطي لهم إلهياً، ولولا التنكيل الذي مارسوه وما زالوا، دون قيود، ضدّ هذا الشعب.

لقد كانت الصهيونية نتيجة لتاريخ يهودي بني على المعاناة من التمييز الذي مارسته أوروبا ضدّهم. فكان لا بدّ من العمل لايجاد حلّ يجمع اليهود في دولة تحميهم وتتمتع بحماية الدول الكبرى. لكن هذا الأمر حصل بناء على سردية دينية عرقية عنصرية، عملت على احتلال أرض هي فلسطين وطرد سكانها منها وممارسة أبشع أنواع التمييز العنصري والقتل والتنكيل والتهجير ضدّهم.

 في بدايات الحركة الصهيونية، كان لدى القادة الصهاينة بما في ذلك ثيودور هرتزل، قناعة بأن الحلّ لحماية اليهود من موجات الاضطهاد ومعاداة السامية، هو في إقامة دولة يهودية في مكان ما من العالم

نشأة الصهيونية

نشأت الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا الوسطى والشرقية كحركة إحياء وطنية، رداً على موجات جديدة من معاداة السامية ونتيجة لحركة هاسكالا، أو التنوير اليهودي[1]. لكنها تأسست بوصفها منظمة سياسية في عام 1897 تحت قيادة ثيودور هرتزل. ومصطلح “الصهيونية” مشتق من كلمة صهيون، وهي تلة في القدس ترمز، حسب ادّعائهم، إلى أرض إسرائيل. وقد بدأت بعض الجماعات في أنحاء أوروبا الشرقية في أواخر القرن التاسع عشر، بالترويج لإعادة توطين اليهود، بالإضافة إلى إحياء اللغة العبرية وتطويرها.

 في بدايات الحركة الصهيونية، كان لدى القادة الصهاينة بما في ذلك ثيودور هرتزل، قناعة بأن الحلّ لحماية اليهود من موجات الاضطهاد ومعاداة السامية، هو في إقامة دولة يهودية في مكان ما من العالم، وقد رأت الحركة الصهيونية الناشئة هذه العملية على أنها “جمع للمنفيين” (kibbutz galuyot)، وهي محاولة لوقف الهجرات والاضطهادات التي ميزت التاريخ اليهودي. خلال العقد الأول من الحركة الصهيونية، دعمت بعض الشخصيات الصهيونية، بما في ذلك هرتزل، دولة يهودية في أماكن خارج فلسطين، مثل أوغندا، والأرجنتين، وقبرص، وبلاد ما بين النهرين، وموزمبيق، وشبه جزيرة سيناء[2]. كان هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية، راضيًا في البداية عن أي دولة يهودية تتمتع بالحكم الذاتي. وكان الاستيطان اليهودي في الأرجنتين مشروع موريس دي هيرش[3]. كما جرى اقتراح إنشاء مستوطنات يهودية في منطقة المسيسيبي العليا من قبل دبليو دي روبنسون[4] في عام 1819.

لكن اليهود المتدينين، بالتوافق مع صهاينة مسيحيين أصرّوا على أن تكون هذه الدولة في فلسطين التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية العثمانية[5]. وقد وافق الصهاينة العلمانيون مثل تيودور هرتزل على هذا الخيار، نظراً لما تشكّله فلسطين من رمزية دينية جاذبة ليهود العالم، كونها تتوافق تقريباً مع أرض إسرائيل في التقاليد اليهودية. وهي تعطي حجة لليهود بأنهم لا يستولون على هذه الأرض بل “يستعيدونها”.

من الفكرة الى الوعد!

لمدة 1700 عام تقريبًا، بعد العهد الروماني، عاش اليهود في بلدان مختلفة بدون دولة وطنية بما سمّي الشتات اليهودي. وقد عانى اليهود الأشكناز من معاداة السامية في أوروبا، ومن الاضطهاد الديني بما في ذلك طرد اليهود من إنجلترا (1290)، وفرنسا (1391)، والنمسا (1421) ، وإسبانيا (مرسوم الحمراء عام 1492). إلا أن أشهرها قضية دريفوس في فرنسا والمذابح المعادية لليهود في الإمبراطورية الروسية وصولاً إلى الهولوكوست في ألمانيا.

في القرن التاسع عشر، تزايدت شعبية التيار في اليهودية المؤيد للعودة إلى صهيون، وبخاصة في أوروبا، حيث كانت معاداة السامية والعداء تجاه اليهود تنمو. لكن اليهود الإصلاحيين رفضوا فكرة العودة إلى صهيون. وحذف مؤتمر الحاخامات الذي عقد في فرانكفورت في الفترة من 15 إلى 28 تموز/يوليو 1845 من الطقوس جميع الصلوات من أجل العودة إلى صهيون واستعادة الدولة اليهودية. وتبع مؤتمر فيلادلفيا عام 1869 قيادة الحاخامات الألمان وقرر أن الأمل المسيحاني لإسرائيل هو “اتحاد جميع أبناء الله في الاعتراف بوحدة الله”. في عام 1885 كرر مؤتمر بيتسبرغ هذا التفسير للفكرة المسيحانية لليهودية الإصلاحية، معبرًا في قراره عن أننا “لم نعد نعتبر أنفسنا أمة، بل مجتمعًا دينيًا؛ وبالتالي فإننا لا نتوقع العودة إلى فلسطين، ولا العبادة التضحية تحت حكم أبناء هارون، ولا استعادة أي من القوانين المتعلقة بالدولة اليهودية”[6].

كان اليهود في الشتات يجلّون أرض إسرائيل ثقافيًا ووطنيًا وإثنيًا وتاريخيًا ودينيًا. وظلت العودة إلى صهيون موضوعًا متكررًا بين الأجيال، وخاصة في صلوات عيد الفصح ويوم الغفران، والتي كانت تنتهي تقليديًا بعبارة “العام المقبل في القدس”، وفي صلاة العميدة (الصلاة الدائمة) ثلاث مرات يوميًا

في المقابل، نشطت الحركة السياسية الصهيونية رسمياً مع ثيودور هرتزل بعد نشر كتابه Der Judenstaat (الدولة اليهودية) الذي عبّر فيه عن آرائه حول “استعادة الدولة اليهودية”[7]. اعتبر هرتزل أن معاداة السامية سمة أبدية لكل المجتمعات التي يعيش فيها اليهود كأقليات، وأن السيادة وحدها هي التي يمكنها أن تسمح لليهود بالهروب من الاضطهاد الأبدي. وكان هرتزل صريحاً في الإشارة إلى أن “دولة اليهود” لا يمكن إنشاؤها إلا بدعم من قوة أوروبية. ووصف الدولة اليهودية بأنها “بؤرة حضارية ضد البربرية”. وفي كتاب منفصل، قارن هرتزل نفسه بسيسيل رودس، الذي كان مؤيداً قويًا للإيديولوجيات الاستعمارية والإمبريالية البريطانية[8] في جنوب إفريقيا.

وقد ادّعت الصهيونية أنها حركة قومية تهدف لإنشاء وطن للشعب اليهودي، ثم أصبحت أيديولوجية تدعم تطوير وحماية إسرائيل باعتبارها دولة يهودية، أي أصبحت أيديولوجية الدولة لإسرائيل. فمن عام 1897 إلى عام 1948، كان الهدف الأساسي للحركة الصهيونية هو إرساء الأساس لوطن يهودي في فلسطين، ومن ثم تعزيزه. وانطلقت الدعوات لتشجيع اليهود للهجرة إلى فلسطين العثمانية واستمرّ الأمر في عهد الانتداب. وراحت الصهيونية تكتسب تدريجياً اعترافاً ودعماً دوليين، ولا سيما في إعلان بلفور عام 1917 من قبل المملكة المتحدة.

إقرأ على موقع 180  الدين، العلمانية، الشعبوية، الديمقراطية والرأسمالية في السياسة الدولية

تجميع المنفيين فكرة مركزية

إن الجوانب الرئيسية للفكرة الصهيونية ممثلة في إعلان الاستقلال الإسرائيلي:

“كانت أرض إسرائيل مهد الشعب اليهودي. وهنا تشكلت هويتهم الروحية والدينية والسياسية. وهنا بلغوا الدولة لأول مرة، وأنشأوا قيماً ثقافية ذات أهمية وطنية وعالمية، وأعطوا العالم كتاب الكتب الأبدي.

بعد أن نفوا قسراً من أرضهم، ظل الشعب مؤمناً بها طوال فترة شتاتهم ولم يكفوا عن الصلاة والأمل في عودتهم إليها واستعادة حريتهم السياسية فيها.

وبدافع من هذا الارتباط التاريخي والتقاليدي، سعى اليهود في كل جيل متعاقب إلى إعادة تأسيس أنفسهم في وطنهم القديم. وفي العقود الأخيرة عادوا بأعداد كبيرة”.

ويزعم اليهود الصهاينة أن أرض إسرائيل هي ميراث من الله لأبناء إسرائيل استنادًا إلى التوراة، وبخاصة سفر التكوين والخروج، وكذلك إلى الأنبياء اللاحقين. وفقًا لسفر التكوين، وُعِد أحفاد إبراهيم أولاً بأرض كنعان؛ النص صريح في أن هذا عهد بين الله وإبراهيم لأحفاده.

لقد كان اليهود في الشتات يجلّون أرض إسرائيل ثقافيًا ووطنيًا وإثنيًا وتاريخيًا ودينيًا. وظلت العودة إلى صهيون موضوعًا متكررًا بين الأجيال، وخاصة في صلوات عيد الفصح ويوم الغفران، والتي كانت تنتهي تقليديًا بعبارة “العام المقبل في القدس”، وفي صلاة العميدة (الصلاة الدائمة) ثلاث مرات يوميًا. أصبحت النبوءة التوراتية عن كيبوتس جالويوت، تجميع المنفيين في أرض إسرائيل كما تنبأ الأنبياء، فكرة مركزية في الصهيونية.

اعادة بناء الهيكل

تمسّكت الحركة الصهيونية بقوة بما فسّرته بأنه الحق الحصري لليهود في فلسطين والموجود في التوراة وفي غيرها من الأدبيات الدينية اليهودية. وحتى الصهاينة الذين ليسوا متدينين بمعنى اتباع الممارسات الطقسية اليهودية تمسّكوا بهذه السردية للتوراة وغيرها من كتب العهد القديم. ويمكن تلخيص هذه الادّعاءات على النحو التالي:

1. اليهود شعب منفصل وحصري اختاره الله لتحقيق مصير معيّن. لقد ورث يهود القرن العشرين عهد الانتخاب الإلهي والمصير التاريخي من القبائل العبرية التي كانت موجودة منذ أكثر من 3000 عام.

2. تضمن العهد ملكية محددة لأرض كنعان (فلسطين) باعتبارها تراثًا لبني إسرائيل وذريتهم إلى الأبد.

3. إن احتلال هذه الأرض والاستيطان فيها واجب جماعي على اليهود لإقامة دولة لهم.

إن نقاء يهودية الأرض مستمد من أمر إلهي، وبالتالي فهو مهمة مقدسة. وعلى هذا فإن الاستيطان في فلسطين، بالإضافة إلى دوافعه الاقتصادية والسياسية، يكتسب طابعاً رومانسياً وأسطورياً. إن الصهاينة المتدينين والعلمانيين وغير المتدينين واللاأدريين يرون أن الكتاب المقدس هو أساس الصهيونية. هذا الكتاب الذي لا يشكك المسيحيون واليهود في مبادئه الأساسية ومحتوياته التاريخية، يُشار إليه عادة باسم السجل الوطني اليهودي باعتباره “سند ملكية مقدس لفلسطين”. فاليهود المعاصرون هم من نسل بني إسرائيل القدماء، وبالتالي فإنهم المواطنون الوحيدون المحتملون لأرض فلسطين”[9].

“هتانايا” لحركة “حاباد” التي تُعدّ أشهر فروع “الحسيدية”. بحسب كتاب “هتانايا” لحركة “حاباد” التي تعد اشهر فروع “الحسيدية”، فإن “كلّ غير اليهود هم مخلوقات شيطانية، ولا يوجد فيهم أيّ شيء طيّب على الإطلاق، وحتى الجنين غير اليهودي يختلف نوعياً عن الجنين اليهودي. ومجرّد وجود غير اليهود ليس أمراً هامّاً، لأن جميع المخلوقات الأخرى وجدت من أجل اليهود”

لكن بالمقابل، كانت الغالبية العظمى من اليهود الحريديين تعارض الصهيونية. كان ذلك يعود في المقام الأول إلى المخاوف من أن تعيد القومية العلمانية تعريف الأمة اليهودية من مجتمع ديني قائم على اتحادهم مع الله الذي تمثل قوانين الالتزام بالدين بالنسبة له “جوهر مهمة الأمة، وغايتها وحقها في الوجود”، إلى مجموعة عرقية مثل أي مجموعة أخرى، بالإضافة إلى اعتقادهم بأنه كان ممنوعاً على اليهود إعادة تأسيس الحكم اليهودي في أرض إسرائيل قبل ظهور المسيح. لذلك، اعتبروا الصهيونية تدنيساً لمعتقداتهم المقدسة ومؤامرة شيطانية. بالنسبة لهم، الصهيونية هي محاولة لتحدي الأمر الإلهي بانتظار مجيء المسيح، ولا يزال العديد منهم يؤمنون بقدوم المسيح قريباً. على سبيل المثال، كان الحاخام إسرائيل مائير كاهان “مقتنعاً جدًا بوصول المسيح الوشيك لدرجة أنه حث طلابه على دراسة قوانين الكهنوت حتى يكون الكهنة مستعدين للقيام بواجباتهم عندما يُعاد بناء الهيكل في القدس”[10].

العامل السياسي محرك الصهيونية

استقت الصهيونية أساس عنصريتها من مبادئ متجذرة في الديانة اليهودية حاول اليهود إخفاءها لكنها موجودة بالفعل. ففي كتابه: “الديانة اليهودية والتاريخ اليهودي: مسيرة 3 آلاف عام”[11]، يقرّ الباحث في التاريخ اليهودي يسرائيل شاحاك بأن للتلمود والأدب التلمودي خطّاً معادياً عموماً لكلّ الشعوب، وللمسيحيين بشكل خاص. وهو يعترف بأن المجتمع اليهودي الشمولي لا يزال – منذ قرون عديدة – يستخدم عادات بربرية لا إنسانية، وتقاليد لا يمكن تبريرها على الإطلاق باعتبارها مجرّد ردّ فعل على اللاسامية واضطهاد اليهود، لأنها تصرّفات موجّهة ضدّ كلّ غير اليهود. كذلك أن “كتاب المعرفة” المنشور في القدس منذ عام 1962، والذي يُعدّ جزءاً من القانون الميموني، ينصّ مثلاً على ضرورة إبادة اليهود الكفرة أي المسيحيين. إضافة إلى ما تَقدّم، فإن بن ميمون، الذي يُعدّ أعظم فلاسفة اليهود، يحدّد في الكتاب الثالث من “دليل المحتار”، مَن هم البشر القادرون على “الاقتراب من القيم الدينية العليا والعبادة الحقيقية لله”، مستثنياً منهم “بعض الأتراك (مثل المنغول)، والبدو إلى الشمال، والسود والبدو إلى الجنوب ومن يشابهونهم في أقاليمنا، والذين تشبه طبيعتهم طبيعة الحيوانات البكماء، وهم في رأيي لم يبلغوا مستوى الكائنات البشرية”. علماً أن كلّ الكلمات العنصرية لا تَظهر في النسخ الإنكليزية المنتشرة في العالم، في تضليل واضح للرأي العام العالمي. أمّا الكتاب الأفظع في هذا السياق، فهو “هتانايا” لحركة “حاباد” التي تُعدّ أشهر فروع “الحسيدية”. وبحسب هذا الكتاب، فإن “كلّ غير اليهود هم مخلوقات شيطانية، ولا يوجد فيهم أيّ شيء طيّب على الإطلاق، وحتى الجنين غير اليهودي يختلف نوعياً عن الجنين اليهودي. ومجرّد وجود غير اليهود ليس أمراً هامّاً، لأن جميع المخلوقات الأخرى وجدت من أجل اليهود[12]. وبالنسبة إلى “الهلاخاه” أو النظام القانوني لليهودية الكلاسيكية، فهي تَعتمد على التلمود البابلي، وتُعدّ أقدمُ مجموعة قوانين خاصة بها، لا تزال ذات أهمية بالغة إلى اليوم، هي “ميشناه توراة” (موسى بن ميمون)، و”شولحان عروخ” التي ألّفها الحاخام يوسي كارو. بحسب هذه القوانين، يُعتبر قتل اليهودي جريمة كبرى عقوبتها الإعدام، فيما اليهودي قاتل غير اليهودي “مذنب فقط وفق قانون السماء، والله يحاسبه على ذلك[13].

يمكن الاستخلاص بسهولة أن العامل السياسي كان هو المحرك الرئيس للصهيونية. أما الروايات الدينية التوراتية وغيرها، كذلك محاولة دعم سردية نقاء عرقي وشعب واحد، فما هي إلا حجج حاولت وتحاول دائماً الصهيونية التذرع بها لتبرير الاستيلاء على فلسطين وطرد أهل الأرض الأصليين وتوطين اليهود مكانهم.

(*) في المقالة المقبلة (الأربعاء) سنقوم بدراسة الصهيونية المسيحية وأثرها على العقيدة الصهيونية بشكل عام.

مصادر ومراجع:

[1] – LeVine, Mark; Mossberg, Mathias, “One Land, Two States: Israel and Palestine as Parallel States”, University of California Press, 2014.

[2] – Adam Rovner, “In the Shadow of Zion: Promised Lands Before Israel”, NYU Press, 2014, p. 45.

[3] – Hazony, Yoram, “The Jewish State: The Struggle for Israel’s Soul”, New York: Basic Books, 2000, p. 150.

[4] – American Jewish Historical Society, Vol. 8, p. 80

[5] – Ilan Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, 2006, pp. 10–11.

[6]ZIONISM – JewishEncyclopedia.com

[7] – Laqueur, W., “A History of Zionism: From the French Revolution to the Establishment of the State of Israel”, 2009, p. 84

[8] – Masalha, Nur, “Chapter 1: Zionism and European Settler-Colonialism”, “The Palestine Nakba”, Zed Books, 2012, p. 327.

[9]Haddad, Hassan S. , “The Biblical Bases of Zionist Colonialism”Journal of Palestine Studies3 (4), 1974, University of California Press, Institute for Palestine Studies: 98–99.

[10] – Waxman, Chaim I, “Messianism, Zionism, and the State of Israel”Modern Judaism7 (2), May 1987: 175–192

[11] – يسرائيل شاحاك، “الديانة اليهودية والتاريخ اليهودي: مسيرة 3 آلاف عام”، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1994.

[12] – بيروت حمود، “الفاشيون لا يقدحون من رأسهم: هذا ما يأمرهم به التلمود” جريدة الأخبار اللبنانية، 5 تشرين الأول 2023.

[13] – نفس المصدر.

Print Friendly, PDF & Email
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  التعبئة الاجتماعية.. وشروطها في زمن الحرب الوجودية المفتوحة