انطلقت فكرة “الشرق الأوسط الجديد” أولًا من رؤية اقتصادية تقنية عبّر عنها شيمون بيريز في كتابه عام 1993، لكنها سرعان ما انتقلت إلى مستويات أكثر تعقيدًا بعد العام 2001، حين تبنت الولايات المتحدة والكيان مقاربة تقوم على إعادة هندسة الشرق الأوسط عبر أدوات القوة الصلبة، وتغيير الأنظمة، وبناء تحالفات جديدة. من هنا، يتحول المشروع من مجرّد رؤية اقتصادية إلى سيرورة سياسية–أمنية متواصلة، تتراكم عبرها المبادرات والحروب والضغوط لإعادة ترتيب المنطقة تدريجيًا، وصولًا إلى المرحلة الراهنة التي تشهد اندفاعًا غير مسبوق نحو فرض “صيرورة نهائية” تتأسس على انتقال المنطقة من نظام صراع عربي–إسرائيلي إلى نظام قائم على الاصطفاف إلى جانب الكيان المؤقت.
من بيريز إلى “الانفصال النظيف”
بدأت أولى مراحل المشروع مع شيمون بيريز، عندما قدّم تصوّرًا “سلاميًا اقتصاديًا” لدور الكيان عبر دمجه في مشاريع إقليمية مشتركة، وتحويل العلاقات العربية–الإسرائيلية إلى علاقات تعاون اقتصادي. جاء هذا الطرح في سياق الالتفاف على دينامية الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) وما مثّلته من استعادة روحية مقاومة أربكت منظومة الأمن الإسرائيلي. واعتبر بيريز أن التطبيع الاقتصادي قادر على إعادة تشكيل البيئة الإقليمية بما يضمن أمن الكيان وتفوقه، مستفيدًا من اللحظة السياسية بعد انتهاء الحرب الباردة (1991)، ومن مسار التسوية الذي افتتحته اتفاقية أوسلو (1993). إلا أن هذا الطرح لم يلبث أن انتقل إلى بُعد أشدّ حدّة مع تقرير “الانفصال النظيف” الذي أعدّه فريق بنيامين نتنياهو عام 1996، طارحًا استراتيجية جديدة قوامها “السلام عبر القوة”، وضرورة التخلي عن مبدأ “الأرض مقابل السلام” واستبداله بمبدأ يحمي أمن الكيان عبر الاستباق والردع واستخدام القوة. أعادت الوثيقة تشكيل الرؤية عبر تعاون ثلاثي مع الأردن وتركيا لاحتواء سوريا والعراق وإيران، وفرض ترتيبات أمنية وسياسية جديدة تُضعف القوى الداعمة للمقاومة، مع إعادة صياغة العلاقة مع الفلسطينيين بما يجعل السيطرة الأمنية الشاملة أساس التعامل معهم.
المعارك التأسيسية وانتكاسات المشروع
مع بداية الألفية الجديدة، تحوّل المشروع إلى حيّز التنفيذ العسكري عبر غزو العراق عام 2003، الذي شكّل نقطة الانطلاق الفعلية لإعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة. جاء الغزو كترجمة مباشرة لفكرة “إعادة تشكيل الشرق الأوسط”، من خلال تفكيك الدولة العراقية، وإحداث تبدّل جذري في توازنات القوى في المنطقة من جهة، وافساح المجال أمام الفوضى والصراع داخل العراق من جهة ثانية. تلا ذلك خروج سوريا من لبنان عام 2005، في سياق دينامية ولّدها حدث استشهاد الرئيس رفيق الحريري، ثم شكّلت حرب تموز (يوليو) 2006 على لبنان اختبارًا حاسمًا للمشروع، حين أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أن ما يجري هو “مخاض ولادة شرق أوسط جديد”. كان الهدف المعلن إعادة تشكيل الإقليم بما يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية، عبر ضرب حزب الله، وإضعاف “محور” سوريا–إيران، واستغلال الانقسام السياسي الداخلي في لبنان. ثم جاء “الربيع العربي” في العامين بدءاً من تونس (نهاية 2010) ليشكّل فرصة إضافية للمشروع عبر انهيار أنظمة عربية وتفكك بنى سياسية، في ظل اندفاع الإسلام السياسي واستقطابات الحرب الأهلية، وهو ما أدى عمليًا إلى فراغات كبيرة في موازين القوى، تحولت إلى بيئة مثالية لإعادة ترتيب المنطقة على أسس جديدة.
بيد أن المشروع واجه انتكاسات كبيرة بدأت مع فشل مسارات التسوية الفلسطينية–الإسرائيلية وانهيار اتفاقيات أوسلو وتجدد الانتفاضات بدءًا من العام 2000، ثم مع صمود المقاومة في حرب تموز 2006، وصعود محور المقاومة بعد 2013، وظهور قوى جديدة كالحشد الشعبي وأنصار الله. كما أدت نتائج الربيع العربي إلى فوضى خارج السيطرة الأميركية، وتراجع فعالية فكرة “الهندسة بالقوة” بعد أن تحولت ساحات الصراع إلى بيئات متعددة الفاعلين، يصعب ضبطها وفق الرؤية الأميركية-الإسرائيلية.
من التطبيع إلى هندسة التحالفات فالقوة والنار
أمام هذا التعثر، انتقل المشروع إلى مرحلة جديدة عبر مقاربة “الهندسة الهادئة”، التي تمثلت في اتفاقيات التطبيع بدءاً من العام 2020. أعادت هذه “الاتفاقيات الإبراهيمية” إدماج الكيان سياسيًا واقتصاديًا في المنطقة من خلال مشاريع مشتركة، وتحالف أمني ضد إيران، وشبكات دفاع جوي وتعاون استخباراتي، واتفاقيات ربط لوجستي وطيران وطاقة. وبذلك خرج المشروع من دائرة القطيعة العسكرية المباشرة إلى توظيف أدوات الاقتصاد والتحالفات الناعمة، من دون اشتراط حل القضية الفلسطينية كمسار للتطبيع، وذلك بهدف شطب القضية الفلسطينية وجعل الكيان في صلب منظومة العلاقات والتحالفات في المنطقة.
ومع اندلاع حرب غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ثم توسعها نحو لبنان وسوريا واليمن وإيران، عادت المنطقة مجددًا إلى مرحلة إعادة هندسة أكثر جذرية. سارعت واشنطن إلى قيادة مشهد دبلوماسي-عسكري معقّد يهدف إلى إعادة ترتيب التوازنات، ومنع محور المقاومة من تعديل موازين القوى. وخلال العامين 2023–2025 عبّرت الإدارة الأميركية بوضوح عن توجهها لإعادة ترتيب المنطقة، وطرحت ما يشبه نسخة محدّثة من المشروع، تُعلي من شأن “السلام من خلال القوة”. وقد عبّر عن هذا التوجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قمة شرم الشيخ (2025) بقوله إن “الشرق الأوسط دخل عصرًا جديدًا”، مؤكدًا أنّ ما جرى ليس مجرد نهاية حرب بل “بداية عصر”. تزامن ذلك مع خطاب نتنياهو الذي قدّم رؤية مشتركة تقوم على اعتبار قوة الكيان “الأساس الذي لا غنى عنه للسلام”، وعلى المضي قدمًا في توسيع اتفاقيات أبراهام ومسار الاصطفاف العربي مع إسرائيل. وبلغ الأمر ذروته مع إعلان إدارة ترامب “الإستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأميركي”، ليل الجمعة السبت الماضي، والتي تقوم على ما أسمته “ملحق ترامب لمبدأ مونرو” (The Trump Corollary to the Monroe Doctrine) الذي ينصّ على اتّباع مبدأ “السلام من خلال القوة”، أي المبدأ الذي أعلنه الرئيس الأميركي الأسبق جيمس مونرو ما بين ولايتيه الرئاسيتين قبل 200 سنة (1817-1825).
صيرورة ممتدّة نحو إعادة تشكيل الإقليم
تكشف هذه المسارات أن مشروع الشرق الأوسط الجديد لم يكن طرحًا نظريًا عابرًا، بل مشروعًا متدرّجًا يتطور عبر مراحل متلاحقة تتكيّف مع المتغيرات، من الاقتصاد إلى الأمن، ومن القوة إلى الدبلوماسية، ومن الفشل إلى إعادة الإحياء. وقد استطاع المشروع استثمار اللحظات المفصلية، مثل الغزو الأميركي للعراق، حرب تموز، الربيع العربي، اتفاقيات التطبيع، ثم حرب غزة ولبنان، لإعادة صياغة بنية الإقليم. وفي نسخته الراهنة، يبدو المشروع أكثر تقدّمًا وخطورة، إذ يقوم على إعادة هندسة عميقة لبنية التحالفات الإقليمية، وإعادة إنتاج مركزية الكيان المؤقت في الأمن الإقليمي، وتحويل المنطقة نحو نموذج جديد تتراجع فيه القضية الفلسطينية، ويتعزّز فيه منطق “السلام بالقوة”.
في المقابل، يبدو أنّ الأطراف المناهضة لمشروع الشرق الأوسط الجديد أمام اختبار تاريخي يتطلب إعادة صياغة استراتيجياتها السياسية والأمنية والفكرية. فالقوى التي واجهت المشروع خلال العقود الماضي؛ سواء عبر المقاومة المسلحة أو البنى الشعبية أو التحالفات الإقليمية؛ نجحت في تعطيل عدد من محطاته، لكنها تجد نفسها اليوم أمام مرحلة مختلفة من حيث شراسة الأدوات المستخدمة ووضوح الأهداف المعلنة.
إنّ لحظة إعادة الهندسة الحالية تفرض على هذه القوى تجاوز ردود الفعل الظرفية نحو بلورة مشروع مضادّ واضح، يقوم على تعزيز عناصر القوة الذاتية، وتحصين الجبهات الداخلية، سياسيًا واجتماعيًا، وإعادة بناء التحالفات الإقليمية على أسس أكثر صلابة واستدامة. ومع تحوّل الصراع من ساحات عسكرية محدودة إلى معركة رسم مستقبل الإقليم بأسره، تصبح الحاجة ملحّة لإنتاج رؤية استراتيجية قادرة على مواكبة التعقيد المتسارع، وتوفير بديل واقعي للنماذج التي تسعى واشنطن والكيان إلى فرضها.
إنّ ما ينتظر المنطقة ليس مجرد جولة جديدة من الاشتباك، بل إعادة تعريف موقع كل طرف في الخريطة الإقليمية لعقود مقبلة، ما يستدعي استعدادًا طويل النفس ورؤية بعيدة المدى، تتجاوز الدفاع إلى القدرة على المبادرة، وصوغ نظام إقليمي بديل لا يُعاد تشكيله من الخارج وحده، بل يُبادر أهل المنطقة إلى صياغته وتحديد أولوياته.
