

منذ عقودٍ طويلة يُشكّل السلاح الفلسطيني في المخيمات داخل لبنان، إلى جانب سلاح المقاومة اللبنانية، محوراً حساساً في المعادلتين الداخلية والإقليمية. هذا السلاح هو انعكاس لمسار تاريخي معقّد: سلاح الفلسطينيين ارتبط بنكبتهم واستمرار الاحتلال وغياب أي حلّ عادل لقضيتهم، وسلاح المقاومة اللبنانية الذي ولد من رحم الاجتياحات الإسرائيلية للبنان وضعف الدولة المركزية وتحوّل لاحقاً إلى عنصر توازن وردع أمام الاعتداءات المتكررة. من هنا، فإن أي نقاش حول مصير هذا السلاح لا يمكن أن يُختزل بقرارات تقنية أو بخطوات إجرائية أو فولكلورية، بل هو نقاش سياسي واستراتيجي بامتياز، يمسّ الأمن القومي اللبناني والإقليمي على حد سواء.
الخطوات التي شهدها لبنان في الأسابيع الماضية تحت عنوان «التسليم المرحلي للسلاح داخل المخيمات الفلسطينية» لم تأتِ من الفراغ، بل جاءت في سياقٍ ارتبط مباشرة بزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) إلى بيروت وما تلاها من ضغوط دولية وخليجية واضحة. فقد جرى تسليم دفعات من الأسلحة والذخائر الفلسطينية تباعاً للجيش اللبناني، وصولاً إلى المرحلة الرابعة التي شملت مخيمَي عين الحلوة والبداوي. ظاهرياً، بدت العملية وكأنها تسير وفق خطة تدريجية منظمة، لكن الأسئلة الجوهرية بقيت من دون إجابة: هل نحن أمام مشروع نزع شامل ودائم للسلاح الفلسطيني؟ أم أن الأمر يقتصر على إخراج أنواع محددة تُعتبر «خطراً استراتيجياً» بالنسبة لإسرائيل والمجتمع الدولي، بينما تبقى الأسلحة الخفيفة والمتوسطة داخل المخيمات؟ وهل التوجه نحو نزع السلاح الفلسطيني وظيفته محصورة بمحاصرة سلاح المقاومة اللبنانية؟

بالنسبة للفصائل الفلسطينية، لا يُنظر إلى السلاح على أنه عبء، بل على أنه الضمانة الوحيدة في وجه تهديد دائم. فمن دون هذا السلاح، لا ضمانة لردع الاعتداءات الإسرائيلية، ولا قدرة على حماية المخيمات من احتمالات الفوضى الداخلية أو الصراعات العابرة للطوائف ولا ضمانة من خسارة العودة كحق معترف به دولياً. لذلك، أي محاولة لانتزاع السلاح من دون تقديم ضمانات فعلية بالحماية والعودة ستبقى حبراً على ورق، وستُواجَه إما برفض صريح أو بمماطلة تُفرغ العملية من مضمونها.
يقف لبنان على مفترق طرق خطير: إما أن يستعيد زمام المبادرة عبر خطة وطنية شاملة تجمع بين الأمن والاقتصاد والسياسة، وإما أن يبقى عالقاً بين ضغوط الخارج وانقسام الداخل، فيتحول ملف السلاح إلى أداة إضافية لتفجير أزماته بدل أن يكون مدخلاً لحلها
أما الجيش اللبناني، فقد وجد نفسه في موقع المستلم للسلاح من دون أن يُمنح في المقابل الأدوات الكفيلة بتحويل هذه العملية إلى رافعة حقيقية لهيبته ولدوره في حماية الحدود. فبمجرّد تخزين الشحنات لا يعالج الخلل البنيوي الذي تعاني منه المؤسسة العسكرية، ولا يوفّر لها منظومة ردع تتيح فرض كلفة على المعتدي. هنا يطلّ السؤال الأخطر: إذا كانت الغاية المعلنة هي تعزيز سيادة الدولة وهيبتها، فلماذا يُحرَم الجيش من امتلاك القدرات الدفاعية الضرورية في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة؟
هذا النقاش لا ينفصل بطبيعة الحال عن مطلب «حصرية السلاح» الذي يطرحه المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية والمحلية، والذي يستهدف بشكل أساسي سلاح حزب الله. الخطورة أن هذه الدعوة تأتي في لحظة إقليمية مشحونة، حيث تكثّفت الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وامتدت حتى إلى ساحات بعيدة مثل قطر، الدولة الحليفة لواشنطن والتي تستضيف قاعدة عسكرية أميركية ضخمة. إذا كانت إسرائيل تجرؤ على استهداف دول محسوبة على الإدارة الأميركية نفسها ومنخرطة في التطبيع، فكيف يُطلب من لبنان أن يُسلّم عناصر قوته الدفاعية في مثل هذا المناخ؟ إن المطالبة بحصرية السلاح في ظل هذا الواقع تبدو وصفة جاهزة لتجريد لبنان من أدوات الردع، وفتح الباب واسعاً أمام المزيد من الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية.
المفارقة الأخطر أن الانشغال بهذا الملف الأمني يأتي في وقت يعاني فيه لبنان من انهيار اقتصادي واجتماعي غير مسبوق: عملته منهارة، مؤسساته شبه مشلولة، الهجرة في أوجها، والفقر يفتك بمجتمعه. الأولوية المنطقية يجب أن تكون في إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وفي إطلاق خطة إنمائية شاملة تعيد للمواطن الثقة بدولته وتوفر له مقومات الحياة الكريمة. أما تحويل النقاش الداخلي إلى جدل حول ملف السلاح، فهذا لا يفضي سوى إلى إلهاء اللبنانيين عن أزماتهم الحقيقية، وإلى تغذية الانقسامات الطائفية والسياسية التي تُهدّد بتفجير الداخل.
الخلاصة أن الحديث عن تسليم السلاح داخل المخيمات أو عن حصرية السلاح عموماً، سيبقى بلا جدوى إذا لم يُقترن برؤية استراتيجية شاملة تعالج جذور القضية الفلسطينية، وتضع حداً للاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وتعيد الاعتبار لدور الدولة في حماية مواطنيها. أي مقاربة مبتورة لهذا الملف لن تؤدي سوى إلى مزيد من الضعف والهشاشة. أما الرهان على أن صور شاحنات عسكرية محمّلة بصناديق ذخائر وأسلحة متهالكة ستقنع الداخل والخارج بأن لبنان بات دولة قوية، فهو رهان قصير النظر. القوة الحقيقية للبنان لا تُبنى عبر إملاءات خارجية ولا عبر صفقات جزئية، بل عبر إعادة بناء الدولة على أسس سياسية واقتصادية صلبة، وعبر صياغة تفاهمات إقليمية كبرى تحمي الوقائع اللبنانية.
لبنان اليوم يقف على مفترق طرق خطير: إما أن يستعيد زمام المبادرة عبر خطة وطنية شاملة تجمع بين الأمن والاقتصاد والسياسة، وإما أن يبقى عالقاً بين ضغوط الخارج وانقسام الداخل، فيتحول ملف السلاح إلى أداة إضافية لتفجير أزماته بدل أن يكون مدخلاً لحلها.