عام على جريمة “البيجرز”.. وكيف لنا أن ننسى؟

كنتُ يومها خارج المنزل ولفت انتباهي زحمة سيارات الإسعاف بأبواقها وأضوائها وأعدادها وكلها تُنذر بحدث كبير. عدتُ إلى المنزل لأُصعق بخبر تفجير أجهزة "البيجرز" التي يستخدمها آلاف العاملين في قطاعات حزب الله المدنية والعسكرية بما فيها الطبية والتمريضية والإنقاذية.

بدأتُ اتصالاتي للإطمئنان على أقرب المقربين، ووجدت صعوبة كبيرة في ذلك الأمر نظراً للضغط الكبير الذي تعرّضت له شبكة الاتصالات الخلوية. ومع الوقت تمكنت من الإطمئنان على العديد من الأقارب وعندما سألتُ عن السيد (ر) كان الجواب أنه ليس بخير ونقل الى المستشفى. بعد لحظات جاءني اتصال بأن لا أمكنة في مستشفيات الضاحية الجنوبية، لذلك تم نقله إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت حيث تجد عائلته صعوبة في الوصول إليه نظراً لقطع معظم الطرقات وجعلها مفتوحة حصراً أمام سيارات الإسعاف.

سارعتُ سيراً على الأقدام إلى المستشفى المذكور، وهو أقرب المستشفيات إلى مكان سكني، وكان المشهد في الطرقات المؤدية إليه مرعباً: سيارات اسعاف وسيارات مدنية مسرعة. الأيادي والرؤوس تُطل من نوافذ تلك السيارات طالبة افساح الطريق لنقل الجرحى الذين أقل بعضهم على متن دراجات نارية أو حُملوا من نقاط قريبة على أكتاف من تبرع بالإسعاف والانقاذ.

أما المنظر الأكثر دموية فكان في غرف وممرات طوارىء المستشفى: جرحى على أسرة الطوارىء أو على أسرة نقل المرضى من سيارات الإسعاف أو على الكراسي النقّالة أو كراسي العاملين في المستشفى.. والقاسم المشترك في ذلك المشهد وجوه مغطاة بالدماء وصراخ مصابين ونداءات للأهل لحث الطاقم الطبي والتمريضي على انقاذ ما يُمكن انقاذه من الأجساد والعيون والأطراف.. وكيف أنسى صُراخ مسؤولة في طوارىء المستشفى تطلب من الممرضين والممرضات الإسراع في ادخال المورفين في أمصال الجرحى للحد من آلامهم وعذاباتهم.

حاولتُ جاهدة ولأكثر من ساعة الوصول إلى الجريح الذي أبحث عنه لكن دون جدوى ولم تنفع أسئلتي للجرحى ومرافقيهم أو للطاقم الطبي أو التمريضي، وكان الجواب شبه الموحد ليس من لوائح بأسماء من وصل من جرحى أو شهداء إلى المستشفى بل مجرد أرقام..

ولأكثر من مرة تنقلتُ في قاعات وممرات الطوارىء ذهاباً وإياباً، من دون أن أصل إلى الجريح الذي أبحث عنه والذي كان أهله يؤكدون أن سيارة اسعاف نقلته إلى ذلك المستشفى وهم متأكدون أنه هناك وأنهم بسبب زحمة السير يتعذر وصولهم إلى حيث كنت سبقتهم.

أخيراً لمحتُ عن بعد أحد أبناء الجريح الذي أبحث عنه، وعندما سألته أن يدلني على مكان وجود والده تمنى عليّ عدم الدخول إليه حتى لا يتأثر لمشاهدته في تلك الحالة والدماء تغطي وجهه ويديه وقدميه، لكنني لم أبالِ ودخلتُ إليه ولكن يا لهول ما رأت عيناي.

توزع الجرحى على عدد كبير من مستشفيات لبنان، وأظهر القطاع الاستشفائي في لبنان قدرة على التأقلم مع المستجدات التي تواجه لبنان وبفعالية استثنائية جداً، برغم أنه كان منهكاً نتيجة الأزمات العديدة التي مرّ بها من الإنهيار الاقتصادي والمالي عام 2019 إلى وباء كورونا وانفجار مرفأ بيروت في العام 2020 وصولاً إلى ضحايا العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ الثامن من تشرين الأول/اكتوبر 2023.

خضع الجرحى الذين لم تحدد أعدادهم بدقة، للكثير من العمليات الجراحية لا سيما في العيون واليدين والقدمين وفي أنحاء متعددة من أجسامهم، وقد سمعتُ أن عدداً من الجرحى حملوا معهم إلى أماكن اسعافهم أصابعهم التي بترت بفعل انفجار أجهزة “البيجرز” التي كانوا يحملونها أو التي كانت إلى جانبهم.

لاحقاً نقل الكثير من جرحى ذلك النهار والنهار الذي تلاه بعد تفجير أجهزة اللاسلكي إلى الخارج (ولا سيما إلى إيران) للمعالجة والتأهيل وما زال قسمٌ لا بأس به منهم يتابع ذلك في المؤسسات المعنية في لبنان حتى يومنا هذا.

وما يحز في النفس، أنه بعد فترة من تفجير أجهزة “البيجرز”، بدأنا نرى في الشوارع شُباناً بنظاراتهم السود وبجانبهم من يساعدهم على المشي أو التنقل، كما لم تثنِ تلك الإعاقات معظم المصابين عن متابعة حياتهم الإجتماعية، وقد أكدت لي ذلك صديقة تعمل في إحدى المحاكم الشرعية الجعفرية، إذ أن عدداً لا بأس به من هؤلاء الرجال أو الفتيات المصابين قاموا بتثبيت الزواج مع من اختاروهم/هن شركاء/شريكات لكل العمر برغم كل الصعوبات والإعاقات.

أوصافٌ كثيرةٌ أعطيت لذلك الإجرام الإسرائيلي الذي يضاف إلى تاريخ الدولة العبرية المتوحش، وقد وصفه مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر نورك في حينه بأنه “انتهاك للقانون الدولي”، لكن ماذا بعد ذلك الوصف، هل من إجراءات يُمكن أن تردع إسرائيل؟ هذا هو السؤال الذي لا يبدو في الأفق المنظور أي جواب عليه.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  كتابة غير شعبوية في بلد تائه بين.. خطابين!
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  المستقبل الملغم.. ثلاث حروب متزامنة!