

بعد عقودٍ من العولمة التي عزّزت التّكامل الاقتصاديّ والاعتماد المتبادل، تشهد القوى الغربيّة الكبرى عودةً إلى سياساتٍ تركّز على المصالح الوطنيّة أولاً، ممّا يُهدّد النّماذج التّنمويّة التي اعتمدتها الدول النّاميّة. ولا يقتصر تأثير هذا التحوّل على الجوانب الاقتصاديّة فحسب، بل يمتدّ ليشمل العلاقات الدّبلوماسيّة، والتّمويل، والتّعاون الإقليميّ والدوليّ. إن مستقبل دول الجنوب في هذا السّياق غير مؤكدٍ، إذ يتطلّب منها إعادة تقييم استراتيجيّاتها لتتلاءم مع واقعٍ عالميٍ جديد.
إعادة رسم خرائط الاقتصاد العالمي عبر الحمائية
يُمثّل صعود الحمائيّة التّجاريّة التّحدّي الاقتصاديّ الأبرز الذي تواجهه دول الجنوب في ظلّ عودة النزعات القوميّة الغربيّة. فبعد عقودٍ من الازدهار الذي أُسِّسَ على مبادئ العولمة وحرّيّة التّجارة، بدأت القوى الغربيّة تُعيد النّظر في استراتيجيّاتها الاقتصاديّة. تهدف هذه الاستراتيجيّات الجديدة إلى تقليل الاعتماد على سلاسل التّوريد العالميّة المعقّدة، والتي انكشفت هشاشتها خلال أزماتٍ مثل جائحة كوفيد-19.
التّركيز على سياسة “إعادة التّوطين”، أو نقل المصانع والشّركات من دول الجنوب إلى الأراضي الغربيّة، يمثل تحوّلاً جذرياً في ديناميكيّات الاستثمار. فالدّول النّامية التي بنت اقتصاداتها على جذب الاستثمار الأجنبيّ المباشر (FDI) لتوفير فرص العمل وتطوير قطاعاتها الصّناعيّة، تواجه الآن خطر تراجع هذا التّدفّق. على سبيل المثال لا الحصر، إذا قررت الشّركات الأوروبيّة نقل مصانع المنسوجات من بنغلاديش إلى أوروبا، فإن ذلك لن يؤثر فقط على الاقتصاد البنغلاديشيّ فحسب، بل سيشكّل تحدّياً اجتماعيّاً كبيراً بسبب فقدان آلاف الوظائف، وقسّ على ذلك في باقي دول الجنوب. هذا التوجّه ليس مجرّد قرارٍ اقتصاديٍّ، بل هو جزءٌ من استراتيجيّةٍ أوسع للأمن القوميّ، حيث تعتبر الدّول الغربيّة أنّ تأمين سلاسل الإمداد للسّلع الحيويّة أمرًا أساسيّاً لضمان استقرارها في الأزمات المستقبليّة.
إضافةً إلى ما تقدّم، فإنّ التّعريفات الجمركيّة المتزايدة تشكّل عائقاً أمام صادرات دول الجنوب. فمع تزايد الرّغبة في حماية الصّناعات المحلّيّة، قد تُفْرَضُ ضرائب إضافيةٌ على المنتجات المستوردة. هذه الضّرائب تُقَلّل من القدرة التّنافسية لمنتجات الدّول النامية، وتجعل من الصعب عليها دخول الأسواق الغربيّة. على سبيل المثال، قد تجد الشّركات الأفريقية المصدّرة للسّلع الزّراعية صعوبةً أكبر في منافسة المنتجات المدعومة محليّاً في أوروبا أو أميركا الشّمالية، مّا يؤدّي إلى تراجع الإيرادات وانخفاض النموّ الاقتصادي في تلك الدول، وما يستتبع ذلك من تراجع النمو والتنمية وزيادة الفقر وغير ذلك من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة.
صعود الحمائيّة التّجاريّة هو التّحدّي الاقتصاديّ الأبرز الذي تواجهه دول الجنوب في ظلّ عودة النزعات القوميّة الغربيّة
في هذا السّياق، تواجه دول الجنوب معضلةً حقيقيّةً. فمن جهةٍ، هي بحاجةٌ إلى الأسواق الغربيّة لتصريف منتجاتها، ومن جهةٍ أخرى، تُفْرَضُ عليها قيودٌ متزايدةٌ للوصول إلى هذه الأسواق. هذا الوضع يجبرها على البحث عن بدائل، سواءٌ عبر تطوير أسواقها الدّاخلية أو تعزيز التّجارة مع دول الجنوب الأخرى، ولكن هذه البدائل ليست سهلة التّحقيق على المدى القصير.
التّمويل التّنمويّ والمساعدات الخارجيّة
لطالما اعتمدت العديد من دول الجنوب على المساعدات التّنمويّة الرّسميّة (ODA) كشريانٍ حيويٍّ لتمويل المشاريع الكبرى في البنية التّحتيّة، والتّعليم، والصّحة. هذه المساعدات، التي تقدّمها الدّول الغربيّة عادةً، كانت بمثابة دعامةٍ أساسيٍّة لجهود التّنمية في الدّول الأكثر فقرًا. ومع ذلك، في ظلّ صعود القوميّة الغربيّة والسّياسات التي تتبنّى شعار “الوطن أولاً”، قد تشهد هذه المساعدات تراجعًا كبيرًا. فالدّول المانحة قد تعيد توجيه مواردها الماليّة نحو حلّ مشاكلها الدّاخليّة، مثل تعزيز الرّعاية الاجتماعيّة، أو دعم القطاعات المحلّيّة المتعثّرة، أو حتى الاستثمار في مشروعات بنيةٍ تحتيّةٍ داخليّة.
يشكّل هذا التّحوّل تحدّيًا كبيرًا للدّول النّامية، خاصةً تلك التي تعاني من ضعفٍ اقتصاديٍّ أو عدم استقرارٍ سياسيٍّ. فبينما كانت هذه الدّول تتوقّع استمرار تدفّق المساعدات، فإنّها قد تجد نفسها فجأةً أمام فجوةٍ تمويليّةٍ كبيرة. هذا الوضع قد يجبرها على البحث عن مصادر تمويلٍ بديلة، سواء كانت قروضًا من مؤسّساتٍ ماليّةٍ دوليّةٍ بشروطٍ صارمة، أو استثماراتٍ من قوى صاعدة مثل الصّين، التي غالبًا ما تأتي بشروطٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ مختلفة.
وفي هذا السّياق، يمكن أن يكون هذا التّحدي فرصةً لإعادة التفكير في نماذج التّنمية. فقد تدفع دول الجنوب إلى تعزيز الاعتماد على الذّات، وتطوير آليات التّمويل المحلّيّة، مثل الضرائب الفعّالة، والتّشجيع على الادخار، وتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات المنتجة داخليًا. كما يمكنها أن تُعزّز من التّعاون جنوب-جنوب في مجال التّمويل، عبر تأسيس صناديق استثمارٍ مشتركةٍ أو بنوكٍ تنمويّةٍ إقليميّةٍ تقدّم قروضًا بشروطٍ أكثر مرونةً وتوافقًا مع أولويّات التّنمية في المنطقة.
إنّ هذا التحوّل في التمويل التنمويّ ليس مجرّد تغييرٍ في أرقام الميزانيّات، بل هو تغييرٌ في فلسفة التّنمية نفسها، حيث يتطلّب من دول الجنوب أن تكون أكثر مرونةً وابتكارًا في إيجاد حلولٍ لمشاكلها، بدلاً من الاعتماد بشكلٍ كلّيٍّ على الدّعم الخارجيّ.
التحوّلات في الميزان الجيوسياسيّ
لطالما لعبت المؤسّسات الدّوليّة، التي أنشأت بعد الحرب العالميّة الثانية، دورًا مركزيًّا في إدارة العلاقات الدّوليّة. فمؤسّساتٌ مثل منظمة التّجارة العالميّة (WTO)، وصندوق النّقد الدّوليّ، والأمم المتّحدة كانت بمثابة منصاتٍ يمكن لدول الجنوب من خلالها المشاركة في صياغة القواعد الاقتصاديّة والسياسيّة العالميّة. لكن مع صعود النزعات القوميّة الغربيّة، تراجعت ثقة بعض القوى الكبرى في هذه المؤسّسات، مما أضعف من فاعليّتها وقدرتها على حلّ النزاعات أو فرض قواعد عادلة.
يُظْهِر ُهذا التراجع تحوّلاً في ميزان القوى العالميّ. فالدّول الغربيّة، بدلاً من العمل من خلال المؤسّسات المتعدّدة الأطراف، قد تفضّل الآن التّفاوض بشكلٍ مباشرٍ وثنائيّ مع الدّول الأخرى، مما يمنحها نفوذًا أكبر. هذا الوضع يضعف موقف دول الجنوب التي غالبًا ما تفتقر إلى القوّة الاقتصاديّة والسّياسيّة اللّازمة للتّفاوض بمفردها. ففي غياب مظلّةٍ مؤسّسيّةٍ قويّة، قد تجد الدّول النّامية نفسها أمام خياراتٍ محدودةٍ وشروطٍ غير عادلة.
لكن، من ناحيةٍ أخرى، يمكن أن يشجّع هذا الوضع دول الجنوب على تعزيز التّعاون جنوب-جنوب وتشكيل تحالفاتٍ جديدة. ففي ظلّ ضعف المؤسّسات التقليديّة، أصبح هناك دافعٌ أكبر للدّول النّامية للعمل معًا. يمكن لهذه الدّول أن تشكّل كتلًا اقتصاديّةً وتجاريّةً قويّةً، مما يمنحها قوّةً تفاوضيةًّ أكبر في مواجهة القوى الكبرى. تُعَدّ مجموعة “بريكس”، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصّين وجنوب أفريقيا، مثالاً على هذا النّوع من التّحالفات، حيث تسعى إلى بناء نظامٍ اقتصاديٍّ وماليٍّ عالميٍّ أكثر تعدّديّةً وبعيدٍ عن هيمنة الغرب.
يمكن لدول الجنوب أن تُعزّز من التّعاون جنوب-جنوب في مجال التّمويل، عبر تأسيس صناديق استثمارٍ مشتركةٍ أو بنوكٍ تنمويّةٍ إقليميّةٍ تقدّم قروضًا بشروطٍ أكثر مرونةً وتوافقًا مع أولويّات التّنمية في المنطقة
باختصار، يفرض هذا التّحوّل الجيوسياسيّ على دول الجنوب تحديين أساسيين: الأوّل هو التّكيّف مع تراجع دور المؤسّسات الدّوليّة، والثاني هو استغلال الفرصة لتعزيز التّعاون فيما بينها. إنّ قدرة هذه الدول على بناء تحالفاتٍ قويّةٍ وفاعلةٍ ستحدّد مدى تأثيرها في صياغة مستقبل النّظام العالميّ.
مستقبلٌ مرنٌ.. محفوفٌ بالمخاطر
لا يُعَدُّ مستقبل دول الجنوب في ظلّ صعود القوميّة الغربيّة محكوماً بالفشل، بل هو محفوفٌ بالمخاطر والفرص في آنٍ واحد. فبينما تواجه هذه الدّول تحدّياتٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ كبيرة، يمكنها أيضاً أن تستغلّ هذه المرحلة لإعادة تشكيل مسارها التنمويّ. تتطلّب هذه المرحلة الانتقاليّة قدراً كبيراً من المرونة والذكاء الاستراتيجيّ.
من جهةٍ، تُعَدُّ المخاطر حقيقيةً وملموسة. فالانكفاء الغربيّ على الذات قد يقلّل من تدفقات الاستثمار والمساعدات، ممّا قد يؤدّي إلى تفاقم الأوضاع الاقتصاديّة في الدّول الأكثر ضعفاً. كما أنّ تراجع دور المؤسّسات الدّوليّة قد يعرّض هذه الدّول لضغوطٍ أكبر من القوى الكبرى. هذه المخاطر لا تقتصر على الجانب الاقتصاديّ فقط، بل تمتدّ لتشمل الأمن الغذائيّ والبيئيّ، حيث قد تصبح قضايا عالميّة مثل تغيّر المناخ أقلّ أولويةً على الأجندات الوطنيّة.
ومن جهةٍ أخرى، تُعْتَبَرُ هذه التحديّات فرصةً لإعادة التّفكير في النّماذج التّنمويّة القائمة على الاعتماد على الخارج. يمكن لدول الجنوب أن تستغلّ هذه المرحلة لتعزيز الاعتماد على الذّات، وتطوير أسواقها الدّاخلية، والاستثمار في قطاعات الابتكار المحلّيّة. كما أنّ تراجع هيمنة الغرب قد يفسح المجال أمام قوىً صاعدةٍ مثل الصّين والهند وروسيا لزيادة نفوذها، مما يقدّم لدول الجنوب خياراتٍ وشراكاتٍ جديدةٍ قد تكون أكثر توازناً.
إنّ الطّريق إلى الأمام ليس سهلاً، ولكنّه يتطلّب من دول الجنوب أن تكون أكثر اتّحاداً ومرونة. إن قدرتها على بناء تحالفاتٍ قويّة، وتعزيز التّعاون جنوب-جنوب، وتطوير استراتيجياتٍ تنمويةٍ مستقلّة، هي ما سيحدّد قدرتها على مواجهة التّحديات واستغلال الفرص في هذا العصر الجديد من العولمة المتغيّرة.
راجع المقالة السابقة للكاتب بعنوان: مستقبل النظام العالميّ.. بين صراع النماذج والتّعايش التّنافسيّ