الحرب الروسية الأوكرانية.. تغذية الانفصال!

خطر تفتت دول العالم قائم. جذوره متعددة يتداخل فيها السياسي والديني والإقتصادي والإجتماعي والتاريخي. النماذج الحية في ذاكرتنا تلك التي تلت إنهيار دول الاتحاد السوفياتي السابق ويوغسلافيا السابقة.

في الحقيقة ولدت معظم دول العالم جراء حروب ونزاعات. لقد انخفض عدد الكيانات السياسية الدولتية في أوروبا من 500 كيان عام 1500م الى 23 كيان عام 1923م (ثم 50 عام 1998م) اذ تم امتصاص معظمها من قبل الكيانات الكبرى، بالقوة. أما اليوم فالظاهرة صارت عكسية: الحروب المعاصرة لا تهدف الى توحيد الكيانات بل الى تفتيتها ولا تسعى الى بناء الامبراطوريات الكبرى بل الى بلقنة العالم. وهكذا فالنزعة الانفصالية هي احدى المخاطر الجدية التي تواجه مستقبل العلاقات الدولية ([1]).

يقصد بالانفصال خروج جزء من إقليم الدولة على هذه الدولة بقصد الاستقلال عنها وتأسيس دولة جديدة أو الإنضمام إلى دولة أخرى، متى نجحوا في تحقيق هذه الغاية بالتخلص نهائياً من سيادة الدولة الأصلية وتأسيس دولة جديدة، أو الإنضمام إلى أخرى، مستجمعة كافة عناصر القانونية، تعجز الدولة الأولى عن اخضاعها ([2]).

إن العلاقات الدولية تقوم على المصالح وموازين القوى وعلى أساسها يتقرر مصير المحاولات الانفصالية إذ أن الاعتراف بها يُولّد آثاراً سلبية على كثير من الدول وخاصة تلك التي تتألف من عناصر قومية أو دينية أو اثنية ذات نزعات انفصالية ([3]). وعادة ما يتخذ المجتمع الدولي موقفا معارضا ازاء هذا الانفصال لأنه يمكن أن يتسبب في توتير العلاقات الدولية، لا بل يمكن أن يؤدي الأخذ به إلى تدمير الهيكل الكلي ليس للدول وإنما لقارة بأكملها مثل قارة إفريقيا التي تحوي العديد من المجموعات العرقية والدينية والمحلية وهذا ما يمكن تصور خطورته عندما حاولت قبائل (الايبو) الاستقلال عن نيجيريا وكان في داخل هذه القبائل محاولة لتقسيمها إلى عشرين دويلة على أساس الاختلاف في اللهجات المحلية([4]).

وتشي تطورات الحرب الروسية الأوكرانية بسلوك ذلك المسار نفسه دون أن يكون هنالك أي موقف للمؤسسات الدولية المعنية في تطبيق القانون الدولي أو أنها تقف عاجزة.

ربما يكون الاستفتاء في إقليم الدونباس تغطية هشة لعجز كبير للمجتمع الدولي عن تطبيق القوانين الدولية، وإعتماده كمخرج للازمة وحصول روسيا على الإقليم عملاً بالسياسة الواقعية التي درج “الكبار” على استخدامها في حل الازمات الدولية على حساب القانون الدولي

كيف سيطرت روسيا على أوسيتيا والقرم؟

روسيا التي تخوض حرباً في أوكرانيا الآن دعمت إجراء إستفتاء شعبي حول إنفصال خيرسون وزابوريجيا ودونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا أفضى إلى إنضمامها إلى روسيا، كما فعلت سابقاً في أوسيتيا وجزيرة القرم، لكن معضلتها أنها هي نفسها تحمل بذور التفتيت والانفصال ولو أن ذلك قد تراجع أو خفت لكن تبقى النار تحت الرماد. إذ لا تقتصر الرغبات الانفصالية على الشيشان وداغستان، فالخصوصيات الاثنية والدينية وغيرها لا تشكل السبب الحقيقي والوحيد للرغبة في الانفصال والاستقلال اذ يكمن أيضاً السبب الاقتصادي في العمق (وجود مواد أولية بوفرة مثلاً) ليختبئ خلف هذه الخصوصيات أو غيرها.

الآن وفي ظل الحرب الروسية الأوكرانية، أجرى إقليم الدونباس ومنطقتا زابوريجيا وخيرسون إستفتاء تمحور حول السؤال الآتي: “هل تؤيد الانفصال عن أوكرانيا وتحويل المقاطعة إلى دولة مستقلة والانضمام إلى روسيا؟” وجاءت النتائج كما تشتهيها موسكو، في ظل رقابة دولية كانت لافتة للإنتباه، وهذا ما كان قد حصل في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جورجيا وكذلك في جزيرة القرم، مع الإشارة إلى الأهمية الحيوية للمناطق الأربع التي ستضمها روسيا إلى أراضيها كونها تشكل ممراً حيوياً للوصول إلى شبه جزيرة القرم.

هنا لا بد من التذكير بالأحداث التي تتصل بالاجراءات الروسية إزاء ما تعتبره موسكو تهديدا لأمنها القومي وفق التسلسل الزمني الآتي:

-في العام 2008، أعلنت جورجيا رغبتها بالانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. على الأثر اندلعت في آب/أغسطس من ذلك العام اشتباكات بين القوات الجورجية والقوات الانفصالية الموالية لروسيا في إقليم أوسيتيا الجنوبية الذي يتمتع بحكم ذاتي، تبعها تدخل عسكري روسي في الإقليم كانت نتيجته سيطرة روسية على اقليم أوسيتيا الجنوبية. تدخلت فرنسا في مفاوضات لوقف اطلاق النار وأعلنت روسيا اعترافها باستقلال أوسيتيا الجنوبية ومنطقة أبخازيا. وفي العام 2014 وقعت جورجيا إتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي ولم تتقدم رسمياً بطلب للعضوية فيه، كما لم تنضم رسمياً حتى الآن إلى حلف الناتو.

-في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، في عهد فيكتور إيانوكوفيتش، أعلنت الحكومة الأوكرانية رفضها الانضمام للاتحاد الأوروبي. فاندلعت مظاهرات شعبية حاشدة رفضا لقرار الحكومة وللمطالبة بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي. استمرت التظاهرات حتى شباط/فبراير 2014 عندما قام البرلمان الاوكراني بتنحية الرئيس الأوكراني، فيما قامت القوات الروسية في الشهر نفسه بالسيطرة على جزيرة القرم التي كان الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف قد ألحقها عام 1954 بأوكرانيا، وجرى استفتاء في 16 آذار/مارس 2014 أظهرت نتائجه أن غالبية واسعة من سكان القرم يؤيدون الانضمام الى روسيا.

إقرأ على موقع 180  جولة الترسيم الثالثة… لبنان يتسلح بالقانون الدولي

-بالتزامن، قام مناصرو روسيا في منطقة الدونباس بإعلان قيام جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك من جانب واحد. وفي 25 أيار/مايو 2014، اختير بترو بوروشنكو رئيساً جديداً لأوكرانيا، وراحت تدور معارك بين الانفصاليين الموالين لروسيا (في الدونباس) والجيش الأوكراني، إلى أن تم توقيع اتفاقية مينسك الثانية في 12 شباط/فبراير 2015، والتي أوصت بقيام نظام لامركزي في دونيتسك ولوغانسك، وهو ما رفضته الحكومة المركزية في كييف.

الاستفتاء كغطاء.. للإنفصال!

ولإضفاء صفة الشرعية، إعتمدت روسيا في تحقيق مصالحها والسيطرة على الأقاليم الآنفة الذكر على اجراء استفتاءات شعبية تحت ظلال القذائف والحروب، وتحت مرأى العالم والمؤسسات الدولية، لكأن المطلوب من الاستفتاء تشريع ما هو مخالف للميثاق الدولي، حيث أن الميثاق لم يؤسس بأي حال من الاحوال لأي حق في الانفصال عن الدول القائمة ذات السيادة خارج إطار إنهاء الاستعمار. وأمّن الميثاق حماية للدولة القائمة المستوفية للشرعية من خلال إقراره مبدأين أساسيين: مبدأ سلامة الوحدة الترابية للدول المستقلة ومبدأ حماية هذه الدول من التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية.

جاء مبدأ سلامة الوحدة الترابية متصلاً بمبدأ منع إستعمال القوة الوارد في الفقرة (4) من المادة (3) من الميثاق: “يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”.

وهذه القاعدة تنطبق على التدخل العسكري التركي في قبرص بتاريخ 20 تموز/يوليو 1974 الذي أنشأ عملية إنفصال لجزء من الإقليم لم تنتج عنه نتائج قانونية، خصوصاً عدم الاعتراف الدولي به، وصدور القرار 541 عن مجلس الأمن بتاريخ 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1983 ([5]) بإعتباره وليد تدخل عسكري ممنوع دولياً. وبناءً على ذلك يمكن القول إن ميثاق الأمم المتحدة لا يُشرّع الإنفصال الناتج عن اللجوء إلى القوة.

ربما يكون الاستفتاء في إقليم الدونباس تغطية هشة لعجز كبير للمجتمع الدولي عن تطبيق القوانين الدولية، وإعتماده كمخرج للازمة وحصول روسيا على الإقليم عملاً بالسياسة الواقعية التي درج “الكبار” على استخدامها في حل الازمات الدولية على حساب القانون الدولي. فقد دأبت روسيا على صناعة شرعية لانفصال الاقاليم التي ضمّتها، وهذا ما سيشجع النزعات الانفصالية داخل روسيا نفسها ويُعزّز حضور القوى اليمينية في أوروبا كلها، وهذا ما يُشكل تهديداً إستراتيجياً لوحدة أوروبا حيث يتنامى حضور الأحزاب اليمينية وتتعزز النزعات الإثنية والقومية على حساب نموذج أوروبا موحدة ديمقراطية تراعي حكم القانون والمساواة في السيادة بين جميع الدول.

المصادر والمراجع:

([1]) غسان العزي، سياسة القوة: مستقبل النظام الدولي والقوى العظمى، مركزالدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، الطبعه الاولى، بيروت، 2000، ص 70.

([2]) محمد سامي عبد الحميد، محمد السعيد الدقاق، التنظيم الدولي، دار المطبوعات الجامعية، الاسكندرية، 2002، ص146.

([3]) See: Lea Brilmayer, Secession and self-Determination, Yale Law School ,1991, p183.

([4]) جورج أندرسون، مقدمة عن الفيدرالية، ترجمه من الانجليزية مها تكلا، منتدى الاتحادات الفيدرالية، كندا، 2007، ص 71.

([5]) قرار مجلس الأمن 541 بتاريخ 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1983. https://documents-dds-ny.un.org/doc/RESOLUTION/GEN/NR0/453/65/IMG/NR045365.pdf?OpenElement

Print Friendly, PDF & Email
زياد فواز ضاهر

كاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "أبو الحسن" اردوغان... سلطان ليوم واحد!