دول الجنوب في مواجهة تحدي تصاعد الدولة القوميّة في الغرب

تواجه دول الجنوب العالميّ منظومةً معقّدةً من التّحدّيات الاقتصاديّة الهيكليّة والجيوسياسيّة التي تفاقمت بشكلّ حادٍّ في ظلّ صعود نزعة الدّولة القوميّة في الغرب، والتي تجلّت عبر سياسات ٍحمائيّةٍ مثل "أمريكا أولّاً" وارتفاع الرّسوم الجمركيّة وتقليص المساعدات التّنمويّة، ما أدّى إلى تعميق أزمات هذه الدّول المتمثلّة في اختناق الدّيون الخارجيّة التي تجاوزت 8.8 تريليون دولار، وارتفاع التضخّم لمستوياتٍ قياسيّةٍ بلغت 135% في بعض الدول، وتآكل القوّة الشّرائيّة، إضافةً إلى تقدم الأولويات الداخلية الغربيّة على ما عداها، ما يُهدّد جهود دول الجنوب لتحقيق النموّ المستدام والعدالة الاجتماعيّة.

ما هي أبرز الأزمات التي تُهدّد دول الجنوب حاليًّا ومستقبلًا؟

أعباء الديون المتزايدة

تُعَدُّ أعباء الدّيون المتزايدة من أخطر التّحدّيات التي تواجه دول الجنوب، حيث وصلت إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ منذ بداية القرن الحادي والعشرين. هذه الأزمة لا تقتصر على مجرّد أرقامٍ في الميزانيّات، بل تمثّل قيدًا حقيقيًا على قدرة هذه الدول على تحقيق طموحاتها التّنموية والاستقرار الاقتصاديّ.

لقد شهد الدّين الخارجيّ للدّول النّامية ارتفاعًا هائلاً، حيث تضخم بأكثر من 19 ضعفًا بين عامي 1980 و2023، ليرتفع من 450 مليار دولار إلى 8,837 مليار دولار وفقًا لتقرير البنك الدوليّ حول أزمة الدّيون. هذا الارتفاع ليس مجرّد نموّ، بل هو تفاقمٌ يعكس اعتمادًا متزايدًا على الاقتراض. في عام 2023 وحده، دفعت الحكومات والقطاع الخاص في الجنوب العالميّ (باستثناء الصّين) أكثر من 971 مليار دولار كفوائد للدّائنين الأجانب. هذه المبالغ الضّخمة تستنزف جزءًا كبيرًا من الميزانيّات الوطنيّة، ما يقلّل بشكلٍ حادٍّ من المساحة المالية المتاحة للحكومات للاستثمار في القطاعات الحيويّة مثل الصّحة والتّعليم والبنية التّحتيّة. على سبيل المثال لا الحصر، في كينيا، تجاوزت تكلفة خدمة الدين العام ميزانيّة الصّحّة بخمسة أضعافٍ في عام 2023، وفي تونس كانت مدفوعات الدَّيْن تعادل أربعة أضعاف الميزانيّة الصّحيّة. هذه الوضعيّة تعني أنّ الدّول تضطر إلى التّضحية بالاستثمارات المستقبليّة لسداد ديون الماضي، ما يخلق حلقةً مفرغةً من التّبعيّة والبطء التّنمويّ كما هو موضّح في تحليل تحدّيات ما بعد الجائحة.

تغيّر هيكل الدّائنين وتحدّيات إعادة الهيكلة

لم يقتصر التّحدي على حجم الدّيون فحسب، بل امتدّ ليشمل تغيّرًا في هيكل الدّائنين. أصبح الدائنون الخاصّون يمتلكون ما يقرب من نصف الدّيون الخارجيّة العامة (48%)، وهو تحوّل له تداعياتٌ خطيرةٌ على عمليّات إعادة الهيكلة وفقًا لنظرةٍ عامّةٍ على حالة الدّيون الخارجيّة. فبخلاف المؤسّسات الدّوليّة أو الحكومات، غالبًا ما يرفض الدائنون الخاصّون المشاركة في عمليات تخفيض أو إعادة هيكلة الدّيون، ما يزيد من تعقيد الجهود الرّامية إلى إيجاد حلولٍ مستدامةٍ لأزمات الدّيون. هذه الصّلابة من جانب الدّائنين الخاصّين تترك الدّول المدينة أمام خياراتٍ محدودةٍ وتفاقم من الضغوط المالية عليها. على سبيل المثال، استغرق الأمر أربع سنواتٍ للوصول إلى اتّفاقٍ لإعادة هيكلة ديون زامبيا مع الدّائنين الخاصّين بعد تخلّفها عن السّداد في عام 2020. كما أنّ ارتفاع أسعار الفائدة العالميّة يزيد من تكلفة الاقتراض الجديد وإعادة تمويل الديون القائمة، ما يدفع العديد من الدّول إلى السعي للحصول على المزيد من القروض لسداد الدّيون السّابقة، وهو ما يُعْرَفُ بـ”عجز الموازنات العامّة”.

تتطلب مواجهة هذه التحدّيات استراتيجياتٍ شاملةٍ ومتكاملة تتجاوز الحلول قصيرة الأجل. يجب على دول الجنوب تعزيز آليات التّعاون فيما بينها، ومكافحة الفساد، وتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجيّة، والعمل على بناء اقتصاداتٍ أكثر تنوّعًا ومرونةً. كما يتطلّب الأمر الضغط من أجل إصلاحاتٍ في النّظام الماليّ العالميّ لجعله أكثر عدالةً وإنصافًا، بما يضمن لدول الجنوب مسارًا مستدامًا نحو التنمية والازدهار

التّضخّم وارتفاع تكاليف المعيشة

التّضخّم وارتفاع تكاليف المعيشة من القضايا الاقتصاديّة الأكثر إلحاحًا التي تؤثّر بشكلٍ مباشر ٍعلى حياة المواطنين في دول الجنوب، لا سيما الفئات ذات الدّخل المنخفض ما يساهم في تفاقم مشكلة الفقر في هذه الدول.

والزيادة المستمرّة في أسعار السلع والخدمات الأساسيّة، مثل الغذاء والوقود والإسكان، تقلّل بشكلٍ كبيرٍ من القوّة الشّرائيّة للأفراد. هذا يعني أن الأسر، خاصة تلك التي تعتمد على دخلٍ محدودٍ، تجد صعوبةً متزايدةً في توفير احتياجاتها الأساسيّة. في لبنان، على سبيل المثال، ارتفع مؤشّر أسعار الاستهلاك من 115.54% في نهاية عام 2019 إلى 5978.13% في نهاية عام 2023، ما أدّى إلى ارتفاعٍ غير مسبوقٍ في أسعار السّلع الأساسيّة وفقًا لبيانات التضخّم في لبنان. هذه الزّيادات تدفع بالملايين نحو الفقر المدقع، وتزيد من المعاناة الاجتماعيّة.

التّضخّم في دول أفريقيا جنوب الصحراء

تُعْتَبَرُ دول أفريقيا جنوب الصّحراء من بين المناطق الأكثر تضررًا من ارتفاع التّضخّم. في جنوب السودان، بلغ معدّل تضخّم أسعار الغذاء 105.8% في تشرين الأول/أكتوبر 2024، بعد أن كان 100.8% في أيلول/سبتمبر 2024. ومن المتوقع أن يصل المعدّل العام للتّضخّم في البلاد إلى 135% بنهاية الربع الحالي وفقًا لتقارير صندوق النّقد الدّولي وتوقّعات التّضخّم. هذه الأرقام تعكس واقعًا اقتصاديًّا صعبًا حيث تتآكل مدّخرات الأفراد وتزداد صعوبة الحياة.

وتتعدّد العوامل التي تساهم في تفاقم التّضخّم، منها التّوتّرات الجيوسياسيّة التي تؤدّي إلى اضطراباتٍ في سلاسل الإمداد وارتفاع أسعار الطّاقة والغذاء عالميًّا. كما أنّ الضّغوط الماليّة وارتفاع أسعار الفائدة في الدّول المتقدمة يؤدّي إلى هروب رؤوس الأموال من دول الجنوب، ما يضعف العملات المحلّيّة ويزيد من تكلفة الواردات، وبالتالي يرفع الأسعار محليًّا. هذا الوضع يجبر دول الجنوب على تقديم معدّلات فائدةٍ أعلى لجذب الاستثمار أو لتغطية عجزها، ما يزيد من مستويات مديونيّتها وتكاليف خدمتها.

إقرأ على موقع 180  طلال سلمان.. صياغة وعينا السياسي المبكر

الصّراعات والنّزاعات

تؤثّر الحروب والنّزاعات المسّلحة بشكلٍ متسارعٍ على النموّ الاقتصاديّ الدّوليّ، خاصةً في ظلّ تصاعد حدّة المخاطر الجيوسياسيّة العالميّة. تتسبّب هذه الصّراعات في تدمير البنية التّحتيّة، وتشريد السّكان، وتعطيل الأنشطة الاقتصاديّة، ما يؤدي إلى خسائر فادحة. في المنطقة العربيّة، على سبيل المثال، أدّت الأزمات المتتالية منذ تسعينيّات القرن الماضي إلى إضعاف الاقتصادات وزيادة التبعيّة. وفي لبنان، تسببت المواجهات العسكريّة في الجنوب في خسائر اقتصاديّة تقدر بحوالي 1.5 مليار دولار، منها 1.2 مليار دولار خسائر مباشرة في البنى التحتية و300 مليون دولار خسائر غير مباشرةٍ نتيجة توقّف الأعمال وفقًا لتقارير الخسائر الاقتصاديّة. هذه الخسائر ليست مجرّد أرقام، بل هي انعكاس لتدهور الظّروف المعيشيّة وفرص العمل.

السياسات الحمائيّة والحروب التّجاريّة

تُمَثِّلُ السّياسات الحمائيّة، مثل فرض الرسوم الجمركيّة، سلاحًا اقتصاديًا يُسْتَخْدَمُ من قبل القوى الكبرى، ويُشْهَرُ في وجه الشركاء الأضعف في دول الجنوب. هذه الرسوم تفرض قيودًا على صادرات دول الجنوب وتزيد من تكلفة انخراطها في السّوق العالميّة، ما يقلّل من تنافسيّتها ويحدّ من قدرتها على تحقيق النموّ القائم على التّجارة. على سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية باهظة على دولٍ آسيويّةٍ ناميةٍ مثل كمبوديا (49%) وبنغلاديش (37%) ولاوس (48%) وفقًا لبيانات الرّسوم الجمركيّة الأميركيّة وتحليل تبعاتها على التّجارة العالميّة. هذه السّياسات لا تقتصر على إلحاق الضّرر بالصّادرات، بل يمكن أن تفتح أبوابًا جديدة لأزماتٍ مركّبةٍ في اقتصاداتٍ أنهكتها الأعباء الماليّة وقلّة الموارد وتراكم الدّيون.

انخفاض أسعار النفط والمعادن

تعتمد العديد من دول الجنوب بشكلٍ كبيرس على تصدير المواد الأوّلية ومصادر الطّاقة، والتي غالبًا ما تتراجع أسعارها في أوقات الرّكود الاقتصاديّ أو التّوتّرات الجيوسياسيّة. أدّت جائحة كوفيد-19، على سبيل المثال، إلى تراجعٍ كبيرٍ في الأسعار العالميّة والطّلب على النّفط والمعادن، ما أثّر سلبًا على إيرادات دولٍ مثل أنغولا والجابون ونيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. هذه التقلّبات في الأسعار تضع ضغطًا هائلاً على الموازنات العامة لهذه الدول، ما يزيد من حاجتها للاقتراض.

 التحدّيات الهيكليّة والنموّ المحدود

إلى جانب التحدّيات الخارجيّة، تواجه دول الجنوب تحدّياتٍ هيكليّةً عميقة الجذور تحدّ من قدرتها على تحقيق نموٍّ اقتصاديٍّ شاملٍ ومستدام. وتعاني معظم دول أفريقيا جنوب الصّحراء من تراجع حجم إيراداتها العامّة وتضخّم نفقاتها، التي يذهب معظمها لتغطية تكلفة الاستيراد من الخارج، ما يؤدي إلى عجزٍ هيكليٍّ في الموازنات العامّة. هذا العجز يتفاقم بشكلٍ كبيرٍ مع اندلاع الصّدمات والأزمات الاقتصاديّة الدّاخليّة والخارجيّة. فجائحة كورونا، على سبيل المثال، أدّت إلى خسارة ما يقرب من 30% من الإيرادات العامّة للموازنات الأفريقيّة بسبب تراجع أسعار النفط والغاز والمعادن والكساد الاقتصاديّ، بينما زادت الحاجة إلى الإنفاق الحكوميّ لإنقاذ الاقتصاد.

ضعف القدرات الإنتاجيّة والتبعيّة الاقتصاديّة

لم تؤدِّ برامج الإصلاح الاقتصاديّ في دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى الحدّ من الدّيون الخارجيّة، بل تزايدت مع مرور الزّمن، خاصةً في أوقات الأزمات. يعزى ذلك إلى عدم توجيه الأموال المقترضة نحو الأنشطة الإنتاجيّة الصّحيحة، وضياع حصيلة القروض في مجالاتٍ ليست ذات عوائد اقتصاديّة. هذا يرسّخ حالةّ من التبعيّة الاقتصاديّة والسّياسيّة للخارج، ويضعف قدرات الدّول على استغلال مواردها بشكل كفء. كما يؤدّي إلى استنزاف معظم إيرادات الدّول في دفع فوائد وأقساط الدّيون، ما يؤثّر سلبًا على خطط التّنمية الاقتصاديّة ويزيد من هشاشة الاقتصادات خاصةً في مجال البنية التّحتيّة والنموّ الاقتصادي.

في الختام، تتطلب مواجهة هذه التحدّيات استراتيجياتٍ شاملةٍ ومتكاملة تتجاوز الحلول قصيرة الأجل. يجب على دول الجنوب تعزيز آليات التّعاون فيما بينها، ومكافحة الفساد، وتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجيّة، والعمل على بناء اقتصاداتٍ أكثر تنوّعًا ومرونةً. كما يتطلّب الأمر الضغط من أجل إصلاحاتٍ في النّظام الماليّ العالميّ لجعله أكثر عدالةً وإنصافًا، بما يضمن لدول الجنوب مسارًا مستدامًا نحو التنمية والازدهار.

(*) راجع المقالة السابقة للكاتب: مستقبل دول الجنوب في ظلّ صعود الدّولة القوميّة في الغرب

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  طلال سلمان.. صياغة وعينا السياسي المبكر