Gen Z.. جيلٌ رقميٌّ على مفترق طرق التّاريخ

تؤكّد الأحداث التي يشهدها كلٌ من النّيبال والمغرب أنّ جيل Z ليس مجرّد مستهلكٍ للتّكنولوجيا؛ بل هو دينامو الحراكات الاجتماعيّة والسياسيّة، ويمتلك القدرة على تضخيم القضايا المحلّيّة وتحويلها إلى قضايا وطنيّة باستخدام قوّة وسرعة الاتّصال الرّقميّ، رفضاً للواقع البراغماتي الذي فرضه عليه عالم الأزمات المتراكمة من فساد وفقر وبطالة وغيرها من الأزمات الإجتماعية.

لم يشهد العالم ظهور جيلٍ بهذه الدّرجة من التّعقيد والتّناقض والجمع بين الأضداد مثل جيل Z (هو الجيل المولود بين سنوات 1997-2012). إنّه ليس مجرّد تصنيفٍ ديموغرافيٍّ؛ بل هو ظاهرةٌ ثقافيّةٌ – تكنولوجيّةٌ – اجتماعيّةٌ أعادت تشكيل مفاهيم الهويّة، والمواطنة، والاحتجاج، والاستهلاك. وُلِد هؤلاء في عالمٍ حيث الحدود بين الواقعين الماديّ والرقميّ قد طُمِسَتْ، فنشأوا “مواطنين رقميين أصليين” (Digital Natives) بامتياز، لا يتذكّرون عالماً بلا إنترنت وهواتف ذكيّة.

ويقول عالم الاجتماع المجريّ – الألمانيّ كارل مانهايم (Karl Mannheim)، في مقالته الرّائدة مشكلة الأجيال إنّ كلّ جيلٍ جديدٍ يتشكّل وعيه ومساره الفكريّ كردّ فعلٍ على النّظم والأفكار التي ورثها من الجيل الذي سبقه.

على هذا النّسق، جيل Z هو رد فعلٍ على التّفاؤل المثاليّ لـ جيل الألفيّة (Millennials). لقد تحوّلوا إلى جيلٍ براغماتيٍّ، واقعيٍّ، وساخرٍ في كثيرٍ من الأحيان، يواجه عالماً تتراكم فوقه الأزمات.

لم يعد هذا الجيل يرى الأزمات كأحداثٍ معزولةٍ؛ بل أصبح يراها سلسلةً متّصلةً من الإخفاقات السّياسيّة والاقتصاديّة المترابطة، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ هي قناة البثّ المباشر لهذا الوعي الجمعيّ.

***

في النيبال، التي شهدت الشّهر الماضي اضطراباتٍ سياسيّةٍ غير مسبوقةٍ، برز جيل Z كقوةٍ دافعةٍ رئيسيّةٍ. فبعد محاولة الحكومة فرض حظرٍ شاملٍ على عددٍ من منصات التّواصل الاجتماعيّ بحجّة “تنظيم المحتوى”، انفجر الغضب الشّبابيّ. لم تقتصر الاحتجاجات على المطالبة بحرّيّة الإنترنت، بل تحوّلت إلى رفضٍ واسعٍ للفساد والإهمال السّياسيّ، ما أدّى إلى أعمال عنفٍ في العاصمة كاتماندو، واستقالة رئيس الوزراء. لقد استغلّ المحتجون من شبان وشابات المنصّات التي حاولت السّلطة حجبها لتنظيم تحرّكاتهم، والتّوثيق المباشر للأحداث، ونقل الاحتجاج من العالم الافتراضيّ إلى شوارع العاصمة، مجسّدين أنّ قمع الاتّصال الرّقميّ أصبح سبباً مباشراً للاحتجاج الماديّ.

***

في المغرب، نشهد حالياً صدًى لتلك الموجة مع ظهور حراكٍ شبابيٍّ منظّمٍ رقميّاً تحت شعار جيل زِد 212. هذا الحراك، الذي يتولّى تنظيمه شبابٌ ولدوا وترعرعوا في العصر الرّقميّ، يركّز على الفوارق الاجتماعيّة، الفساد، أزمة التّعليم والصّحة. لقد قاموا باستخدام تطبيقاتٍ متخصّصةٍ في غرف المحادثة والتّنسيق مثل ديسكورد” (Discord) لتنظيم وقفاتٍ واحتجاجاتّ سلميّةٍ في عددٍ من المدن. إنهم يُثْبِتونَ أنّ أدوات التّواصل التي كانت تُسْتَخْدَمُ للتّرفيه والألعاب يمكن تحويلها إلى غرف عمليّاتٍ لتنظيم العمل السّياسيّ والاجتماعيّ، مما يعكس قدرتهم الفريدة على توظيف التّكنولوجيا لإطلاق صرخاتٍ احتجاجيّةٍ موحّدةٍ تطالب بالعدالة الاجتماعيّة ومكافحة الفساد.

***

يتميّز جيل Z بمجموعةٍ من السّمات المتشابكة والمتناقضة أحياناً، لعلّ أبرزها هي البراغماتيّة الواقعيّة (The Pragmatic Realists) التي تشكّلت جرّاء وعيهم على عالمٍ مليء بالأزمات ويفتقد للقضايا والعقائد. فبخلاف الأجيال السابقة، لم يشهد هذا الجيل ازدهار التّسعينيّات من القرن الماضي، بل وُلِدَ وعيه على أزماتٍ كبرى مثل أزمة 2008 الماليّة، وجائحة كوفيد-19، والتحدّيات الوجوديّة لتغيّر المناخ. هذا الواقع القاسي جعلهم أقلّ تفاؤلاً وأكثر تركيزاً على البقاء والاستقرار الماديّ. ووفقاً لدراسة مركز بيو للأبحاث (2020)، يُظْهِرُ جيل Z قلقاً كبيراً بشأن المستقبل الماليّ والوظيفيّ، مما يدفعهم لتبنّي ريادة الأعمال كمسارٍ آمنٍ لمواجهة عالم الوظائف غير المستقرّ.

إضافة إلى ذلك، هذا الجيل، الذي يُعْتَبَرُ الأكثر تنوّعاً عرقيّاً وثقافيّاً في التّاريخ، ينظر إلى التّنوّع والشّموليّة كمسلّماتٍ (Diversity & Inclusion as Default). بالنسبة لهم، لم يَعُدِ التّنوّع مجرّد شعارٍ يطالبون به، بل هو واقعٌ يعيشونه يوميّاً، ولذلك فإن قيم التّمثيل والمساواة أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من نسيج وعيهم الأخلاقيّ؛ فـ %75 من جيل Z يفضّلون العمل في شركاتٍ تتبنّى سياساتٍ واضحةٍ للتّنوّع والشّمول، كما استشهد بذلك التّقرير العالميّ لمؤسّسة ديلويت (2024).

وكما كسر هذا الجيل حاجز الصّمت حول الصّحة النّفسيّة، محوّلين إياها من وصمةٍ إلى أولويّةٍ (From Stigma to Priority). فبالنسبة لجيل Z، لم يَعُدِ الحديث عن القلق والاكتئاب عيباً، بل أصبح جزءاً من خطابهم اليوميّ، ومطلبهم بتعزيز دعم النّظام الصّحيّ لها. وتأكيداً لهذا التّحوّل، أظهرت دراسة منصّة “اليوتيوب” نفسها أنّ معدّلات البحث عن محتوًى يتعلّق بـالعناية بالذّات” و”الصّحّة النّفسيّة قد قفزت بنسبة 150% بين فئة الشّباب منذ عام 2021.

***

لعل أهمّ ما يُميّز جيل Z هو الأدوات التّكنولوجيّة التي شكّلت وعيه وطريقة تفاعله مع العالم، وفي مقدمتها ظاهرة التعلّم الذّاتيّ والسلطة المزعزعة (Self-Learning & Disrupted Authority). لم يعد المعلّم أو الأستاذ الجامعيّ هو المصدر الوحيد للمعرفة، فمع توفّر منصاتٍ مثل “يوتيوب (YouTube)” و”ويكيهو (wikiHow)” في جيب كلّ فردٍ، أصبحت هناك مكتبةٌ عالميّةٌ ضخمةٌ لا مركزية. وقد أدّت هذه اللامركزيّة في المعرفة إلى زعزعة مفهوم السلطة التّقليديّة بشكلٍ جذريٍّ، جاعلةً الجيل يشكّك في كلّ شيءٍ، بدءاً من الخطاب الإعلاميّ وصولاً إلى الخطاب السّياسيّ. وكما يقول الفيلسوف السّلوفيني سلافوي جيجك، فإنّ “الفضاء الإلكترونيّ هو أكبر آلةٍ لتفكيك السّلطة في التّاريخ“، وهو ما يجسّده هذا الجيل في ممارساته اليوميّة.

بالإضافة إلى ذلك، غيّر هذا الجيل شكل التّواصل نفسه من خلال اعتماده على التّواصل البصريّ واللّغة الجديدة (Visual Communication & The New Lingua Franca). فمنصّاتٌ مثل تيك توك، وإنستغرام، وسناب شات، والتي تعتمد كلّيّاً على الصّورة والفيديو القصير، حوّلت لغة الخطاب الأساسيّة من النّصّ (المكتوب) إلى المرئيّ. وقد خلقت هذه المنصّات شكلاً جديداً من اللّغة قائماً على الإيماءة، والمقطع الصّوتي أو الصّورة الساخرة (meme)، والفيديو السّريع؛ وهذه “اللّغة” السّريعة والكونيّة هي بالتحديد ما سمح لحركاتٍ عالميّةٍ، مثل “الجمعة من أجل المستقبل” (Fridays For Future)، بالانتشار بشكلٍ عضويٍّ وعابرٍ للحدود، متحدّيةً بذلك بطء وبيروقراطيّة الإعلام التّقليديّ.

إقرأ على موقع 180  المغرب.. مملكة مرتبكة بالتجسس والفساد وتراجع الهيبة!

وفي العمق، أتاحت هذه الأدوات ظهور ظاهرة الهُوِيّة الافتراضيّة والمتعدّدة (The Virtual & Multiple Self). فبالنسبة لجيل Z، لم يعد الفرد ملزماً بهويّةٍ واحدةٍ ثابتةٍ؛ إذ قد تختلف هويّته في “الواقع” عن هويته على “تيك توك”، أو الشّخصية التي يتقمصّها في ألعاب الميتافيرس (Metaverse). هذا الفصل النسبيّ سمح بمرونةٍ غير مسبوقةٍ في تجريب الهويّات الجندريّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ما عزّز لديهم قبول التّعدّدية والاختلاف بشكلٍ فطريٍّ، ولكنّه خلق في الوقت ذاته تحدّياً جديداً يتمثّل في أزمة الهويّة والبحث عن الذّات المستقرّة في خضم هذا الفيض من الاحتمالات الافتراضيّة.

***

يبرز الدّور الأكثر تأثيراً لجيل Z في قدرته على تحويل خصائصه المتفرّدة إلى أدواتٍ قويّةٍ للتّغيير الاجتماعيّ والسّياسيّ، حيث انتقلت بؤرة اهتمامه من الأيديولوجيا إلى الأخلاقيّات (From Ideology to Ethics). لم يعد جيل Z مهتمّاً بالانخراط في الشّعارات الأيديولوجيّة الكبرى التّقليديّة، سواءٌ كانت يمينيّةً أو يساريّةً؛ بل أصبح يحشد حول قيمٍ أخلاقيّةٍ واضحةٍ وملموسةٍ. فعلى سبيل المثال، لا تدعو حركة “الجمعة من أجل المستقبل” إلى برنامجٍ اقتصاديٍّ معقّد، بل إلى “العدالة بين الأجيال”، كما أنّ احتجاجات “حياة السود مهمّة” ترفع شعار “لا للعنصريّة” كقيمةٍ أخلاقيّةٍ عالميّةٍ وليس كبرنامجٍ حزبيٍّ ضيّقٍ. هذا التّركيز على الأخلاقيّات والقيم المشتركة هو ما يفسّر قدرة هذا الجيل على حشد تضامنٍ عالميٍّ يتجاوز الحدود والقوميّات.

وقد اعتمد هذا الحشد على النّموذج الشّبكيّ اللاقياديّ (The Leaderless Network Model)، وكما رأينا في النيبال، حيث أسقط شبابها الحكومة عبر احتجاجاتٍ عضويّةٍ قادتها منصّات التّواصل، وفي المغرب حيث يمارس الشباب “المقاومة الذكيّة” عبر التحقيقات الجماعيّة والفضح الرّقميّ، فإنّ هذا النّموذج الاحتجاجيّ يتميّز بكونه مرناً وسريعاً، ويصعب قمعه لأنّه لا يملك رأساً واضحاً يمكن للسلطات قطعه. إنه أشبه بـسربٍ” (Swarm) من المنسّقين الأفراد الذين يتوزّعون على الشبكة أكثر من كونه جيشاً منظّماً بخططٍ مركزيّةٍ.

وبالفعل، حوّل جيل Z السّياسة إلى مساءلةٍ مستمرةٍ (Politics as Constant Accountability)، حيث لم يعد ولاؤهم للأنظمة أو الأحزاب مضموناً أو ثابتاً. إنّ سياساتهم هي سياسات المساءلة اليوميّة، يستخدمون فيها أدواتهم الرّقمية لمراقبة الحكومات، وكشف الفساد على الفور، ومقاطعة الشّركات التي لا تتوافق قيمها المعلنة مع قيمهم الأخلاقيّة. وبهذا، يكون جيل Z قد حوّل كل مواطن إلى صحفيٍّ، محقّقٍ، وناشطٍ محتملٍ، ليجعل الحَوْكَمَة والقرار العام تحت مجهرٍ رقميٍّ لا يغفل.

***

برغم القوّة الهائلة التي يتمتع بها هذا الجيل في إحداث التّغيير والمساءلة، فإنّه يواجه في المقابل تحديّاتٍ وجوديةً عميقةً، لعلّ أبرزها هي مفارقة الاتصال (The Connection Paradox)؛ فبشكلٍ متناقضٍ ومدهشٍ، يُعَدُّ جيل Z أكثر الأجيال اتّصالاً رقميّاً في التاريخ، وفي الوقت ذاته هو أكثرها شعوراً بالوحدة والعزلة الاجتماعيّة، وهو ما أكّده تقرير منظّمة الصّحة العالميّة حول صحّة المراهقين (2023). هذا الاتّصال المفرط يخلق أيضاً حالةً من الإجهاد الدّائم تسمّى الإرهاق النضاليّ (Activism Burnout)، حيث أنّ العيش في حالة تأهّبٍ دائمةٍ لمتابعة الأزمات العالميّة وقضايا العدالة، والاشتباك الرّقميّ المستمر ّمعها، يمكن أن يؤدّي إلى إرهاقٍ نفسيٍّ عميقٍ وقلقٍ وجوديٍّ مزمن. ويُضاف إلى ذلك التّحدي الأكبر المتعلّق بـ فجوة التّرجمة (The Translation Gap)؛ إذ أنّ القدرة على خلق زخمٍ رقميٍّ هائلٍ، وحشد الملايين عبر شبكة الإنترنت، لا تعني بالضّرورة القدرة على تحويل هذا الزّخم إلى تغييرٍ مؤسّسيٍّ دائمٍ وملموسٍ. ويبقى التّحدّي الأكثر إلحاحاً هو تحويل هذه “الضّجة” (Noise) الرّقميّة إلى “تأثيرٍ” (Impact) فعليٍّ في قاعات البرلمانات ومجالس إدارات الشّركات.

***

ليس جيل Z هو مستقبل العالم فحسب، بل هو حاضره الأكثر إلحاحاً. إنّه جيلٌ يحمل مطرقةً رقميّةً يهدم بها صروح الفساد والجمود القديم، ولكن في يده الأخرى مرآةٌ يعكس فيها تناقضات عصرنا بكل وضوحٍ. جيلٌ يعاني من قلق المناخ، لكنّه يملك الشّجاعة لمواجهة الحكومات والشّركات العملاقة. جيلٌ يشكّك في كلّ شيءٍ، لكنّه يلتزم بقيم العدالة الأسّاسية غير القابلة للتّفاوض.

خلاصة القول، جيل Z هو نتاج لقاءٍ غير مسبوقٍ بين التّقنيّة الرّقميّة والأزمات الوجوديّة. هذا اللقاء أنتج كائناً جديداً، براغماتيّاً مثاليّاً، فردانيّاً جماعيّاً، محليّاً عالميّاً. إنّ فهم هذا الجيل ليس خياراً، بل هو ضرورةٌ قصوى لفكّ شيفرة التحوّلات الكبرى التي تشهدها مجتمعاتنا، من أسواق العمل إلى السّاحات السّياسيّة. إنّهم ليسوا مجرّد “شبابٍ عاديين”، بل هم القوّة الأكثر اضطراباً وضياعاً وإبداعاً في القرن الحادي والعشرين.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  المغرب: التطبيع "يفضح" المعلوم.. و"الإخوان" أبرز "المُطبّلين"!