في هذه المقالة الموجزة محاولة متواضعة لفهم تموضعات جمهور حزب الله خلال تعامله مع هذه الوسائط، وما إذا كان لحزب الله رهانات في السيطرة على جمهوره وتحديد ماهية الثقافة التي يجب أن تصل إليه، أو هي مجرد تدّخل لرؤية القضايا بطريقة أفضل، وصياغة المشاكل والتحديات الماثلة أمام المنضوين إليه ومناصريه بالتقييم الواعي؟
تشهد بيئة المقاومة تحولات ثقافية واجتماعية لا تترك مجالاً للشك في مدى ارتباطها بنتائج العولمة ومعطياتها السيّالة وارتفاع نسبة التفاعل والتنافس والصراع بين أطرافها الكثر، لا سيما في حقل الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي التي تركت أثراً في الأفكار والتصورات والقيم والأخلاق. بيئة المقاومة مثلها مثل أي بيئة أخرى اختبرت تأثيرات العولمة السلبية منها والإيجابية، تلك التي تحمل شحنة من التدّخلية والعدوانية على الثقافات والتقاليد والعادات المحلية، والأخرى التي تحمل شحنة من الرسولية والتواصلية والانفتاح على سياقات جديدة من المعرفة والعلاقات الإنسانية.
لا يتصل هذا الكلام بما منحته منتجات العولمة من توسيع في أفق الثقافة أو ما يتعلق منها بتطوير الارتباطات الوشائجية، بل في تجاوز وتهشيم القيم الدينية أو الشرقية المحلية بما تختزنه من فضائل ومكارم وطريقة عيش وطيبة وألفة وتعاون وتفهّم وحميّة ومشاعر مستقرة نسبياً، والتحوّل عنها إلى أفكار متزلزلة وقيم متبدّلة ومشاعر متقلّبة وتشعبات لا حدّ لها في الأراء.
ما صنعته تقنيات التواصل في بيئات العالم ومنها بيئة المقاومة أنّها مكّنت كل فرد أن ييني ثقافته بنفسه، ومنحته حرية أن يحدد اختياراته ويعبّر عن مواقفه ويُصدر أحكامه بعيداً عن ذلك الخوف التقليدي النوعي من مجتمعه وحزبه وعائلته. لذلك، باتت مواقع التواصل الاجتماعي، على وجه الخصوص، موطناً لطاقة وجرأة واستقلالية وانفصالية متزايدة. هذا الدفق الهائل من الكلام على صفحاتها الذي لا تشمله قواعد الضبط والتوجيه الصارم، يفرّخ تعقيدات وتناقضات تهدد الإطار الثقافي للهوية الشخصية والعامة بالتشوّه والتفسّخ، ويبسط الخصومات بين الأفراد والمجموعات حتى تلك التي تنتمي إلى أيديولوجيا وعقيدة واحدة. قبل التكنولوجيا الحديثة التي بات يستعملها كل فرد ينتمي إلى هذه البيئة ما كان أحد يشعر بتضخم الأنا كحالة عامة ولا الحدّة في المواقف والتشبث في الرأي والتبرّم من ما يكتبه الآخر باعتباره تافهاً وكريهاً وسطحياً أو عميقاً نخبوياً غرضه إلفات النظر والتشوّف الفكري، أو تلك المقاربات المختلفة لقضايا دينية وسياسية تحفر في النوايا والخلفيات والميول والغايات المستترة لأصحابها وتستجلب أحكاماً وتدابير مختلفة.
إنّ نفس حصول الفرد على فرصة الحصول على حساب عبر تطبيق من التطبيقات المعروفة بات امتيازاً دعائياً وإعلامياً له جاذبيته النفسية والاجتماعية، ومن جانب آخر، فإنّ نفس هذا الامتياز، أعاد توزيع الموارد بحيث يتساوى الغني والفقير في حق التعبير وتسويق الوعي والدعوة والتبشير وتجميع الأنصار والمعجبين، تماماً كما صوّر الأمريكي صموئيل كولت الحالة التي عاشها لحظة اختراعه المسدس إذ هتف قائلاً: “الآن يتساوى القوي والجبان”!
تتحول منصات التواصل إلى أراضٍ للهجوم وسحق الآخر، أو أراضٍ حدودية تكثر فيها المناوشات وتؤكد مساحات التعازل ونقصان الثقة وسوء الظن
من الواضح أنّ شبكات التواصل الالكترونية أحدثت تغيّراً في السلوك المدني والديني داخل هذه البيئة وتقلبّاً في الشعور العام والخاص ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى انقطاعات كبيرة في “وعي النوع”، إذ سرعان ما يبادر الأمين العام لحزب الله إلى تصويب الرؤية وتثبيت الهوية الثقافية والدينية والاجتماعية، وخطبه في (عاشوراء) وفي المجالس الداخلية الخاصة كثيراً ما يربط بين القضايا السياسية المصيرية والنظام السلوكي للأفراد، ولكن، برغم ذلك، فإنّ المشكلات والنزاعات والتناقضات أكبر من أن تحصى وتضبط، ما يجعلها عسيرة التحكّم والسيطرة من قبل الأمين العام نفسه أو أي جهاز حزبي مهما بلغت قدرته.
وما يُشعر بعدم الاطمئنان أنّ هذه الشبكات يستحيل تحوّلها إلى أراضٍ آمنة لأنها موصولة بأخلاق الأفراد وأهوائهم وميولهم وطبائعهم ومصالحهم المضطربة، وهي متحركة ومتغيرة باستمرار، إضافة إلى التحولات والمؤثرات والتطلعات التي تنطوي عليها البنية الاجتماعية للحزب التي تولّد أسئلة لا توفّر قيادة الحزب كل أجوبتها لاعتبارات لا يجري في العادة الإفصاح عنها علناً. إنّ الضغوط التي يتعرض لها أبناء هذه البيئة بسياقاتها المتشعبة زادت من نسبة ووتيرة التساؤل والنقد والاعتراض، فبرزت تباينات داخلية تعكس بشكل وآخر التغيّر في الشروط الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، فقلّت التحفظّات وحلّت محلها مواقف الإدانة والاتهام التي يجري التعبير عنها بشيء من المبالغة والقسوة، وبنحوٍ ما متهورة ومفتقرة إلى الرقابة الداخلية الكافية.
إنّ بعض الأفراد وبسبب حاجتهم إلى إشباع طموحهم واستقلاليتهم أو تفاعلهم مع عالم الأفكار والأشياء، من الزاوية التي ينظرون منها، لا يتبقّى لهم أحياناً إلا مجال صغير للشعور بالواجب والمسؤولية والرصانة في تصرّفاتهم، وهؤلاء الأفراد بمقدورهم وحدهم صنع المعارك وإثارة التوترات، فتتحول منصات التواصل إلى أراضٍ للهجوم وسحق الآخر، أو أراضٍ حدودية تكثر فيها المناوشات وتؤكد مساحات التعازل ونقصان الثقة وسوء الظن.
ويمكن الاستنتاج أنّ التوافق الراسخ حول قضية المقاومة كقضية جامعة لا يحمل بالضرورة توافقات كاملة حول قضايا ثقافية واجتماعية ودينية، لكن المفارقة أنّ الاختلاف حولها قد لا يكون منشأه نظرية علمية ومبدأً أخلاقياً، بل الاستكبار عن الحق والغلبة والإفحام وطلب الجاه والمباهاة، تماماً كما ورد في كتاب “منية المريد” الشهير حول آفات المناظرة. ولا شك أنّ الإفراط في التفاعل على هذه الشبكات وّلد حساسية مرهفة تجاه الأصدقاء الافتراضيين، فحين يكتب أحد الناشطين تغريدة أو منشوراً أو يضع ملصقاً يحاول بذلك لفت انتباه هؤلاء الأصدقاء أو الاستحواذ على إعجابهم وكسب إطرائهم بالتعليق بجملة أو صورة مناسِبة، وفي المقابل، ينبري البعض إلى التباري من باب توكيد الذات، وهذا الأمر يفترض مواجهة وحضوراً وإنكاراً لكلام الخصم “وردّ الحق على قائله بعد ظهوره له”، والطعن به، ذلك أنّ المنطق الداخلي لهذه التواجد على وسائل التواصل يعمّق سمات التعالي والتكبر والتفوّق، وأي تلكؤ وصمت للفاعلين والمؤثرين على صفحاتها يمكن أن يُعتبر انهزاماً وتراجعاً ونقصاً في المكانة الفكرية وقوة الشخصية، ما يعني ضمناً أنّ التفاعل عند هذه الفئة لا يحدث بناء لاستجابة موضوعية للأفكار المطروحة ولا بناء لشروط واقعية في الحوار والنقاش، بل بما هو سلاح هجومي للنيل من موقع الآخر المعترض.
ارتفاع نسبة “الخيانات الافتراضية” بسبب التباينات حول قضايا وموضوعات سياسية ودينية واجتماعية. فتتجه العلاقات (رقمياً) نحو المزيد من الهشاشة، لتنعكس لاحقاً على العلاقات والصداقات والشراكات الحقيقية
ما يمكن رصده من تحوّلات بالقياس على ما سبق من تأثير لفضاءات الميديا والإعلام داخل بيئة الحزب:
أولاً، بروز اتجاهات لفئات تشترك في تبني اعتقادات وممارسات دينية وفق فهمها الخاص بعيداً عن الأطر المرجعية التقليدية. وإذا كان هذا الأمر ليس جديداً داخل المجتمعات الشيعية في العالم، المتفاعلة مع سياقات الاجتهاد والبحث العلمي، إلا أنّه اليوم بات أكثر تفلّتاً من قيوده وشروطه الأخلاقية والعلمية وأكثر علانية وحركة وحرية في التعبير عن نفسه.
ثانياً، ارتفاع نسبة “الخيانات الافتراضية” بسبب التباينات حول قضايا وموضوعات سياسية ودينية واجتماعية. فتتجه العلاقات (رقمياً) نحو المزيد من الهشاشة، لتنعكس لاحقاً على العلاقات والصداقات والشراكات الحقيقية الواقعية فتهدد بنيانها وأساساتها بسبب ضياع خطوطها الفاصلة بين ما هو افتراضي وما هو واقعي.
ثالثاً، ارتفاع نسبة الظنون والشكوك والمخاوف بين المتفاعلين، وتفاقم حالات العجز عن فهم الآخر وتقدير نواياه. ويكاد، مع هذه الوضعيات النفسية والفكرية، يكون أمر التعبير عن الخلافات عادياً، وأمر التفاهم والتفهّم غير ضروري، فالناشط بإمكانه تعويض خسارة صديق بآخرين سريعاً من دون الشعور بالانزعاج وتأنيب الضمير.
رابعاً، الإمكانية المتاحة للانفتاح على كل ثقافة أدّت إلى حفر ثغرات داخل جسم البيئة انعكست في طريقة العيش والمأكل، والمظهر، خصوصاً عند فئة النساء. كما أنّ شعور البعض بالضيق الثقافي وتطلعه إلى حياة اجتماعية مخفّفة قليلاً من القيود الفقهية دفعه إلى مقاربة موضوعات دينية حرجة وحسّاسة كالحجاب والموسيقى والزينة والاختلاط بين الجنسين وقضايا أخرى مرتبطة بنوعية العمل والتجارات بالقفز على الشروط الشرعية والعرفية المعهودة، أو من خلال الفهم الخاص الذي يبحث عن تسويات وحلول تساير ثقافات وعادات مجتمعات أخرى، وتتماهى مع مركزية الذات في تعيين ما هو حسن وما هو قبيح، وما هو مقبول وما هو مرفوض، الأمر الذي جعل الفجوة الثقافية داخل هذه البيئة متنامية وسائلة باستمرار.
خامساً، تفاقم المعضلات الأخلاقية التي تسببها هذه الأدوات وتؤدي إلى خلافات قاسية بين الأزواج يتوّلد منها شعور ممضّ بعدم الأمان، فما كان مستحيلاً وصعباً في الماضي صار ممكناً وسهلاً الآن، فكل الكون بات في متناول اليد، وبإمكان أحد الأزواج أو كليهما الاطلاع على أي مجهول وممنوع والتواصل مع أي إنسان بلا حدود، والتفاعل مع أفكار وقيم آخرين ينتمون إلى بيئات بعيدة كل البعد عن بيئة المقاومة.
بالإجمال، إنّ شبكة المؤثرات التي تتعرض لها بيئة المقاومة، تتطلب، بحسب مسؤولين في الحزب، بصيرة نافذة ويقظة عالية ليس بسبب التحديات الراهنة بما تحمله من خطر تهشيم القيم التي تختزنها هذه البيئة فحسب، ولكن بسبب الرهانات القادمة (تلك الرهانات التي لم تُولد وتحدث بعد). بلغة المخاطر والعواقب لا بدّ من أسوار حماية تحول دون الإضرار الجسيم بإمكانات هذه البيئة ومكتسباتها القيمية وفرصها الاجتماعية وأحلامها الإنسانية. ربما تكون عبارة الفنان الأسباني بابلو بيكاسو “كل ما تستطيع أن تتخيله هو حقيقي” تشير بأمانة إلى هذا المعنى وهذا الخطر!
العلاقة بين الإعلام والحياة الاجتماعية والسياسية تحفل بسجالات حارّة ليس في بيئة محددة كبيئة المقاومة، وإنما في بيئات العالم كله، ولكن عندما تصبح الميديا متلاعبة بالعقول وتصنّع الأكاذيب وتحرّك الأزمات ويصبح هذا الحقل ميداناً لامبريالية في الصورة والكلمة والصوت وهيمنة في عالم التصورات، فهذا يستلزم إعادة تقييم ثقافة الجمهور ووعيه وامتلاك السلاح المناسب لمواجهة أمراض المعرفة والتكنولوجيا.
(*) أستاذ جامعي، لبنان