مع ترامب تتحول السياسة إلى علامة تجارية.. وصفقات!

في خضم تحولات سياسية واجتماعية متسارعة، يظهر الرئيس دونالد ترامب كوجه غير مسبوق في الحياة السياسية الأميركية. يومًا يُفعّل الحرس الوطني في الولايات، ويومًا يُهدّد جماعة «حماس» بالإبادة، وفي لحظة يطلق ضربات نحو إيران تُعد من أكثر العمليات العسكرية جرأة منذ عقود. هذا التداخل بين الداخل والخارج، بين الخطاب الاستعراضي والقرار التنفيذي، يشكّل ملامح «الأسلوب الترامبي» الذي يستحق قراءة تحليلية جادة.

الحرس الوطني يُمثّل قوة احتياطية تابعة للولايات الأميركية، تُستدعى في حالات الطوارئ أو الاضطرابات الكبرى تحت إشراف الحاكم المحلي، وتتحول إلى الخدمة الفيدرالية بأمر من الرئيس أو الكونغرس. منذ منتصف 2025 بدأ ترامب يستخدم هذه القوة بشكل متكرر، حين أعلن عن نشر نحو ألفي جندي من الحرس الوطني في لوس أنجلوس لدعم عمليات الهجرة، ثم أضاف سبعمئة من مشاة البحرية لرفع مستوى التدخل العسكري الداخلي. بعد أسابيع، أرسل ثمانمئة من الحرس إلى العاصمة واشنطن وفرض عليها سيطرة فيدرالية معلنًا «حالة طوارئ الجريمة». كما طلب من عشرين ولاية تجهيز نحو ألف وسبعمئة جندي إضافي لدعم مهام لوجستية مرتبطة بإدارة المهاجرين. في الوقت نفسه، رفعت ولايات عدة دعاوى قضائية ضد قراراته، معتبرة أن نشر الحرس الوطني من دون موافقة محلية يُشكّل تعديًا على سلطاتها الدستورية. قاضٍ فدرالي في أوريغن أصدر أمرًا مؤقتًا بتجميد النشر في بورتلاند، مستندًا إلى التعديل العاشر الذي يحفظ صلاحيات الولايات، بينما واصلت الإدارة الدفاع عن قراراتها بوصفها تطبيقًا لسلطة الطوارئ الوطنية.

عالم ترامب يعيد تعريف معنى الحكم والقيادة. التاريخ يكتب نفسه بأدوات غير مألوفة، وبخطاب يخلط بين السوق والسلطة، بين الدبلوماسية والإعلان التجاري. القوة هنا ليست وسيلة دفاع بل أسلوب تواصل. والنتائج الملموسة التي يحققها الرئيس الأميركي تحمل سؤالًا يتجاوز شخصه: أي مستقبل ينتظر نظامًا عالميًا يُدار بذهنية الصفقة؟ ومن سيدفع الكلفة النهائية حين تصبح السياسة سلسلة عقود قصيرة الأجل على حساب المدى الإنساني الطويل؟

على الساحة الدولية يتحرك ترامب بذهنية رجل الأعمال الذي يقيس النجاح بسرعة الإنجاز. في حزيران/يونيو 2025 أمر ترامب بقصف مواقع نووية في إيران ضمن عملية جوية استمرت 42 ساعة، شملت التزود بالوقود في الجو وضرب أهداف محصّنة في الجبال. في الوقت ذاته، أعلن أن الأزمة الأوكرانية ستُحسم خلال أيام، وأن سلام الشرق الأوسط ممكن خلال أسابيع. هذه الذهنية التنفيذية تُقصي التعقيد الدبلوماسي وتحوّل السياسة الخارجية إلى سباق مع الزمن.

لغة ترامب العسكرية تمتد إلى ملف «حماس»، إذ هدّدها بالقوة القصوى، معتبراً أن الردع وحده طريق التفاوض. كل خصم بالنسبة له شركة تُدار بالضغط، وكل أزمة صفقة تنتظر من يقفلها. في المقابل، يبدّل موقفه من الصين بين العناق والتهديد، ويواصل سباقه المفتوح على جميع الجبهات.

الأسلوب الترامبي يجمع بين المفاجأة والاستعراض. الأفعال الصادمة تفرض حضورًا دائمًا في النقاش العام وتمنحه هيمنة على الفضاء الإعلامي. خصومه يتحولون إلى متلقين لقراراته، وهو يدمج العنف بالرمزية ليبدو قائدًا سياسيًا وعسكريًا في آن. هذا الأسلوب يولّد مكاسب آنية لكنه يخلق أيضًا هشاشة مؤسساتية، ويزيد من احتمالات سوء الفهم الدولي، ويعزز مناخًا من اللايقين داخل أميركا وخارجها.

التوازن بين الشرعية والفعالية يتراجع مع كل خطوة جديدة. النظام الفيدرالي يواجه اختبارًا في قدرته على احتواء قرارات تتركز في يد رئيس يُمسك بقرار المحكمة العليا، أما المؤسسات التقليدية فتجد نفسها في موقع المتفرّج. حلفاؤه الأوروبيون يراقبون التغيّر في قواعد اللعبة، بينما تحاول الدول العربية استيعاب منطق القوة الفظة التي تتحوّل إلى أداة تفاوض.

المشهد القادم مفتوح على احتمالات متعددة. شيكاغو ونيويورك مرشحتان لتجارب جديدة من استخدام الحرس الوطني، والملفات الخارجية تترقب مزيدًا من التصعيد أو الصفقات المفاجئة. في الموازاة، تتصاعد المعارك القانونية داخل المحاكم الأميركية حول حدود السلطة التنفيذية، ما قد يرسم ملامح جديدة للعلاقة بين المركز والولايات، ناهيك باطلاق معركة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي بعنوان إعادة رسم الدوائر الانتخابية سعياً إلى تعزيز فرص هذا الحزب أو ذاك في الانتخابات النصفية المقررة في خريف العام 2026 والرئاسية المقررة في العام 2028.

ترامب يصوغ عصره كمن يصوغ علامة تجارية عالمية. السياسة تتحول إلى عرض مباشر، والقوة العسكرية إلى وسيلة تسويقية، والنتائج إلى مؤشرات أداء. في زمنه تُدار الدولة بمنطق السرعة والإنجاز الفوري، ويتحوّل المكتب البيضاوي إلى غرفة عمليات إعلامية تعمل على مدار الساعة.

عالم ترامب يعيد تعريف معنى الحكم والقيادة. التاريخ يكتب نفسه بأدوات غير مألوفة، وبخطاب يخلط بين السوق والسلطة، بين الدبلوماسية والإعلان التجاري. القوة هنا ليست وسيلة دفاع بل أسلوب تواصل. والنتائج الملموسة التي يحققها الرئيس الأميركي تحمل سؤالًا يتجاوز شخصه: أي مستقبل ينتظر نظامًا عالميًا يُدار بذهنية الصفقة؟ ومن سيدفع الكلفة النهائية حين تصبح السياسة سلسلة عقود قصيرة الأجل على حساب المدى الإنساني الطويل؟

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ١٧ تشرين.. تنذكر وتنعاد
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  تسوية حل الدولتين.. صعبة ولكنها غير مستحيلة