الروشة.. محاكمة صورة أم محاكمة الحرية؟

مرافعة أمام محكمة الشعب اللبناني

أيها اللبنانيون، أيها القضاة في محكمة الضمير والوجدان،

نقف اليوم أمام قضية تجاوزت حدود صورة أُضيئت على صخرة الروشة، لتتحول إلى امتحان حقيقي لمدى احترام الدولة اللبنانية لسيادة القانون وحرية التعبير وحق الجمعيات في الوجود.

فبعد أن استخدمت جمعية “رسالات” جهاز عرض (Projector) لإضاءة صورة على صخرة الروشة، قرّرت الحكومة اللبنانية تعليق العلم والخبر العائد للجمعية بصورة مؤقتة إلى حين انتهاء التحقيقات.

لكن هل يملك مجلس الوزراء أو رئاسة الحكومة قانونًا صلاحية “تعليق العلم والخبر”؟ وهل هذا الإجراء مؤقت أم هو عقوبة مقنّعة تمسّ بالحريات العامة؟

أولًا؛ في مبدأ الشرعية الدستورية:

ينص الدستور في مادته الثامنة، وقانون العقوبات في مادته الأولى، على القاعدة الصريحة:

“لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”.

وما لم يُجرّمه القانون صراحة، لا يمكن أن يكون جريمة أو ذريعة لتوقيف أشخاص أو معاقبة جمعية على عملٍ تعبيري.

الفعل الذي قامت به الجمعية، إسقاط صورة ضوئية على معلم طبيعي، لا يندرج في أي نص جزائي لبناني. وبالتالي فإن أي تدبير عقابي أو شبه عقابي (كالتعليق أو الحلّ) هو مخالف لمبدأ الشرعية ومفتقر إلى الأساس القانوني.

ثانيًا؛ في حدود السلطة الإدارية:

قانون الجمعيات العثماني لعام 1909 (النافذ في لبنان) لا يمنح الحكومة صلاحية “تعليق العلم والخبر”.

فهو يجيز فقط:

  1. رفض إعطاء العلم والخبر عند التأسيس إذا كانت الجمعية غير قانونية.
  2. حل الجمعية قضائيًا بعد صدور حكم يثبت ارتكابها مخالفة جسيمة.

أما “التعليق المؤقت”، فهو تدبير غير وارد في أي نص تشريعي، ما يجعل القرار الحكومي الأخير تجاوزًا لحدود السلطة الإدارية وتدخلاً في صلاحيات القضاء.

ثالثًا؛ في اجتهادات مجلس شورى الدولة:

كرّس مجلس شورى الدولة مبدأً ثابتًا في اجتهاداته مفاده أن:

“الحرية هي الأصل، والتقييد هو الاستثناء، والاستثناء لا يُفترض ولا يُستنتج بالتأويل”.

ومن أبرز قراراته:

  • قرار رقم 92 عام 2000: أبطل قرارًا إداريًا لوزارة الداخلية لكونه قيّد نشاط جمعية دون مسوّغ قانوني، مؤكدًا أن “السلطة الإدارية لا تملك فرض عقوبات مقنّعة تحت غطاء التنظيم”.
  • قرار رقم 521 عام 2014: شدد على أن سحب أو تعليق الترخيص يجب أن يكون مستندًا إلى نص قانوني صريح، وإلا اعتُبر القرار مشوبًا بـ عيب تجاوز حدّ السلطة والانحراف في استعمالها.
  • قرار رقم 874 عام 2018: كرّس أن المسّ بحرية الجمعيات لا يجوز إلا بقانون، وأن التدابير الإدارية التي تهدف إلى الحدّ من نشاطها تُعدّ قابلة للإبطال لمخالفتها مبدأ التناسب.

وعليه، فإن تعليق علم وخبر جمعية “رسالات” هو إجراء يفتقر إلى المشروعية، ويُعتبر في فقه مجلس شورى الدولة تعسفًا في استعمال السلطة يستوجب الإبطال.

رابعًا؛ في المقاربة الدولية:

  1. المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR):
  • في Handyside v. United Kingdom (1976): حرية التعبير تشمل أيضًا الآراء التي “تصدم أو تزعج”، لأنها شرط من شروط المجتمع الديمقراطي.
  • في Müller v. Switzerland (1988): رأت المحكمة أن الأعمال الفنية العامة تدخل في نطاق حرية التعبير، ولا يجوز تقييدها إلا بموجب قانون واضح وضروري.
  1. الاجتهاد الفرنسي:
  • كرّست محكمة التمييز الفرنسية مبدأ أن التعبير الرمزي جزء لا يتجزأ من حرية التعبير.
  • شددت على أن تدخل السلطة يجب أن يكون متناسبًا مع الهدف المشروع وألا يتحول إلى وسيلة لإسكات الرأي.
  1. الالتزام اللبناني الدولي:

لبنان ملتزم بـ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) الذي تنص مادته 22 على حرية الجمعيات وعدم جواز تقييدها إلا بموجب قانون ولأسباب ضرورية في مجتمع ديمقراطي.

قرار التعليق، إذًا، يناقض المادة 22 من العهد ويُعتبر إخلالًا بالالتزامات الدولية التي تعهّد بها لبنان.

خامسًا؛ توصيات قانونية عملية:

  1. مراجعة مجلس شورى الدولة فورًا:

يمكن للجمعية، أو أي جهة متضررة، أن تتقدم بطلب إبطال ووقف تنفيذ قرار التعليق، استنادًا إلى المواد 77 وما يليها من نظام مجلس شورى الدولة، على أساس أن القرار مشوب بعيب تجاوز حدّ السلطة وعيب الانحراف بالسلطة.

  1. طلب وقف تنفيذ عاجل:

لأن القرار يسبب ضررًا فوريًا وغير قابل للتعويض (تجميد النشاطات، تشويه السمعة، وتعطيل العمل)، يمكن التقدم بطلب وقف تنفيذ فوري استنادًا إلى مبدأ “الضرر البالغ” الذي أقرّه المجلس في العديد من قراراته.

  1. إمكانية الطعن الدستوري (مبدئيًا):

في حال تحوّل القرار المؤقت إلى نهائي أو ترتّبت عليه مفاعيل دائمة، يمكن الدفع أمام الجهات المختصة بأنه يشكل انتهاكًا للمادة 13 من الدستور وللمادة 8، بما يمسّ حرية التعبير وحرية العمل الأهلي.

يجدر التنويه أن قرارات مجلس الوزراء، من حيث المبدأ، لا تُعتبر قرارات إدارية قابلة للطعن أمام مجلس شورى الدولة،

إقرأ على موقع 180  الجيش اللبناني إمّا مفوضاً بالترسيم.. أو فليسحبوا تفويضهم

كونها من أعمال الحكومة ذات الطابع السياسي.

غير أن تنفيذ هذا القرار عبر وزارة الداخلية أو أي إدارة مختصة يُنشئ عملاً إداريًا صرفًا يمكن مراجعته أمام المجلس بعد ربط نزاع خطي مع الإدارة.

فبذلك، يصبح القرار التنفيذي اللاحق هو محل المراجعة القانونية، ويُصار إلى الدفع بتجاوز حدّ السلطة والانحراف بالسلطة استنادًا إلى أحكام الاجتهاد الإداري اللبناني الراسخة.

سادسًا؛ في انعدام الحياد الإداري:

من اللافت للانتباه أن بعض المسؤولين صرّحوا، قبل انعقاد جلسة مجلس الوزراء، برغبتهم في سحب العلم والخبر من جمعية “رسالات”، أي قبل إجراء أي تحقيق أو صدور أي تقرير رسمي.

وهذا يعني أن النية العقابية كانت سابقة للتحقيقات، وأن القرار اتُّخذ فعليًا قبل التثبت من أي مخالفة، في خرقٍ واضح لمبدأ التحقيق المحايد الذي تُلزِم به القواعد العامة في القانون الإداري.

العمل الإداري، بحسب فقه مجلس شورى الدولة، يجب أن يكون مبنيًا على الوقائع الثابتة والمبرّرات القانونية، لا على المواقف السياسية أو الرغبات الشخصية.

وفي عدة قرارات، منها القرار رقم 136/2005، شدّد المجلس على أن:

“الإدارة التي تُصدر قرارًا قبل انتهاء التحقيق تفقد قرينتها في الحياد، ويصبح قرارها مشوبًا بعيب الانحراف في استعمال السلطة”.

وبالتالي، فإن إعلان النية بسحب العلم والخبر قبل التحقق من الوقائع، ثم صدور القرار اللاحق بتعليقه، يشكّلان معًا قرينة على أن الهدف لم يكن التحقيق بل العقاب المسبق، وهو ما يُبطل القرار شكلاً ومضمونًا لمخالفته مبدأ الحياد والشرعية.

إن هذا التصرف لا يُسمّى إدارة… بل تجاوزًا صريحًا لحدود السلطة.

إنه انحراف بالسلطة عن غايتها، لأن الهدف من التحقيق هو معرفة الحقيقة، لا إيجاد مبرّرٍ لقرارٍ اتُّخذ سلفًا.

الخاتمة؛ محكمة الشعب:

أيها اللبنانيون،

إن القضية لم تعد عن صورةٍ على صخرة، بل عن صخرة الحرية نفسها التي تتعرض اليوم للتعليق.

  • لا نصّ يجيز التوقيف.
  • لا قانون يجيز التعليق.
  • ولا دستور يجيز تقييد الحرية بمزاج السلطة.

إن قرار تعليق علم وخبر جمعية “رسالات” ينتهك الدستور، ويتعارض مع القانون، ويقوّض مبدأ الفصل بين السلطات.

والردّ القانوني عليه يجب أن يكون باللجوء إلى مجلس شورى الدولة، دفاعًا عن سيادة القانون وكرامة الحريات.

محكمة الشعب تُصدر حكمها المعنوي اليوم:

الحرية لا تُعلّق، والقانون لا يُفسَّر على هوى السياسة.

والعدل أساس الملك.

Print Friendly, PDF & Email
جوسلين معلوف

مستشارة قانونية حائزة على إجازة في الحقوق، إلى جانب دبلوم دراسات عليا في القانون العام، وماجستير في الدبلوماسية والمفاوضات الاستراتيجية؛ لبنان.

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  هل يكون رد "المحور" مُشتركاً على الإغتيالات الإسرائيلية في بيروت وطهران؟