عاداتُ وممارساتُ عفا عليها زمني

مثلُ كثيرين أحنُ إلى بعض، وليس كل، الماضي. أخشى إن تمنيت عودتي إليه وتحقق التمني أن أجد فيه تفاصيل لم أحبها. أخشى أيضا أن أعود وأنا في هذا العمر وهذا الشكل فينفر من لقائي أصحاب وصاحبات الزمن الذي عدت إليه. أو أعود فلا أجد شجرة الجميز التي غفوت كثيراً من "قيلولاتي" في ظلها، ولا أجد على حافة النهر النخلتين اللتين شدني إليهما عناقهما الصريح والمكشوف، ولا أجد الشاب بائع المثلجات ليحمل لي النبأ السعيد "لقد غيروا العسكري الذي كان يزعج عشاق وعاشقات النخلتين المنحنتين قليلاً في خشوع وجمال". سعيد الصبي البائع بغياب السلطة الجائرة وعودة الخشوع والهدوء الممتع والعشاق إلى المكان.

إن تقررت عودتي فلتكن للحظات، أسمع في لحظة منها صوتاً صادراً عن نفير كنفير اليهود. نعرف على الفور أنه الإعلان بوصول السفيرة عزيزة إلى حينا. آخذ “المعلوم” من أمي وأسلمه إلى صاحب السفيرة. يجلسنا على ” دكة”. وبلهفة ندخل رؤوسنا في نفق مظلم لرؤية فيلم قصير، يتلوه إصرارنا على رؤية فيلم آخر فيستجيب الرجل ولكن بعد أن يلقى عليه “معلوماً” آخر من أمي التي لم تغادر موقعها في الشرفة تراقب وتنصح وتحذر.

***

في لحظة أخرى من لحظات عودتي إلى الماضي أرى نفسي ممسكاً بيد أمي؛ يدٌ أتذكرها ناعمة ولكن حازمة، ونحن في الطريق لاحتفال “سبوع” طفل جديد في العائلة الممتدة. كنت شاهداً على استلام أم الرضيع جنيهاً ذهبياً وعلى احتفال يتميز بالضجة الهائلة، علمت في حينها أن الضجة كانت متعمدة “لدفع” المولود للصراخ دليلاً على سلامة سمعه بل وكل حواسه. لن أنسى الصوت المزعج الصادر عن “الهون”، الصوت مألوف في كل منازلنا العتيقة ولعله ما زال مألوفاً ولكنه في حفل “السبوع” صارخ وغير محتمل. لن أنسى أيضاً الرضيع المسكين راقداً فوق “منخل” يدورون به في صالة الحفل لتوزيع أكياس “البونبون” والمكسرات على الضيوف الكرام.

***

لعلي كنت أمر بمرحلة زمنية مختلفة لأتذكر صوتاً لم أسمع نظيراً له في جماله وعذوبته، صاحبه بائع الفول الأخضر. أتذكر أهل الحي وهم يطلون عليه من شرفات منازلهم معجبين بالصوت وممسكين بسلال فارغة إلا من ثمن رطلين من الفول الأخضر. يستقبل البائع السلال يأخذ منها النقود ويضع فيها مقابلها من الفول، ومن سلة إلى أخرى وحنجرة في الشارع لا تتوقف عن التغني ببدائع هذا الفول. بالفعل كان الفول بديعا وهذا هو رأي من يفهم، وهو أمي التي تكون قد استعدت له بصواني الخبز البلدي والجبنة “الاستامبولي” الغاطسة في كثير من قطع الطماطم الطازجة.

أتذكرهم، أهل بيتي، وقد اجتمعوا حول الفول الأخضر ينصتون لصوت آخر لا يقل روعة قادم من أعلى دولاب الملابس حيث يرقد تحت غطاء الدانتيلا الفاخر الراديو الكبير بعيداً عن أيدي العابثين من الصغار والكبار على حد سواء، إنها ليلة الخميس الأول من الشهر عندما تغني أم كلثوم. لست مبالغاً عندما أقرر أن الفول الأخضر ارتبط في مخيلتي حتى يومنا هذا بالصوت البديع والفن الراقي.

***

دخل التلفون بيتنا تحت إلحاح شقيقتي الكبرى. كانت كثيرة السفر مع زوجها وابنتيها تارة في بغداد وتارة أخرى في عمان، كما أن الشقيق الأكبر كان قد التحق بالبحرية فتعددت مصادر الإلحاح. أتذكره، أقصد التلفون، في مكانه قرب مدخل الشقة ثابتاً لا يتحرك إلى أبعد من خطوة أو خطوتين. كانت حركته مقيدة بفعل فاعل وهو السلك، ولم نتنبه إلى أهمية أن يتحرك لمسافات أبعد إلا بعد فترة ساد فيها الحرج، ففي البيت مراهق في الثانوية ثم في الجامعة ومعظم اتصالاته كانت تجري بالهمس المحرج لجميع الأطراف. بمناسبة الحديث بالهمس أعترف بأنني تعلمت درساً رائعاً في فنون الصمت إذ أقدمت ما لم أعرفها من تنهيداتها على إقامة علاقة عاطفية بالصمت، علاقة كادت تفضي إلى ما هو أعمق وأبعد. رائع هذا الصمت إذا أحسن استغلاله.

أتذكر أنهم قرروا إطالة السلك، فتحولت مشكلة الهمس إلى مشكلة البحث عن جهاز التليفون في شتى أرجاء البيت، وأحياناً نجده عند الجيران وكانوا من أهل المنصورة. كانوا أحسن ناس، بالفعل أفضل من كثيرين عرفتهم هنا كما في بلاد الشرق والغرب، خلال أزمنة حياتي المتباينة.

***

كتبت كثيراً آسفاً عن توقفنا أفراداً وشعباً وحكومة عن الاحتفال بعيد وفاء النيل. اسألوا أبناء وبنات جيلي والأجيال السابقة عما تحمله ذاكراتهم لهذا اليوم الرائع. رأيت الناس في الهند يعبدون النهر ويقدمون له الأضاحي ويستحمون في مياهه يوم عيده، يوم تزدان المدن بالألوان المبهجة وتردد مع مكبرات الصوت أحلى الأغاني، أغاني التقديس أو أغاني الحب. يعترفون بجميله ويدعون له بالصحة وطول العمر، فالعمر عندهم مرتبط بهذا النهر الأعظم، وبفضله يفخرون وعلى كرمه يعيشون.

لم أدعُ ولن أدعو إلى تقديس نهرنا. كنت، من فرط اعتزازي بما أعطاه ويعطيه لنا، مشاركاً أميناً في كثير من مظاهر الاحتفال في عيد وفاء النيل، أي التعبير عن الحب، نحتفل بيوم عيده. لم يبتكر جيلي الاحتفال فالفضل يعود إلى المصريين الأقدم وربما الأكثر وفاء من مصريين جاؤوا بعدهم على مر العصور. النيل في أصله وطبيعته المتجددة هبة الخالق، لذا أدعوكم يا أولاد مصر بنات وبنين، للتعبير عن وفائكم له واستعدادكم للتضحية من أجل تحقيق متطلبات استمرار فيضه وجماله وبهائه.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الدول الصغرى والأحلاف الكبرى.. لا بد من طريق ثالث
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  حكاية حب على النيل