أخيرًا وجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب من يُجلّه، بل يُقدّسه في هذا العالم، بعيدًا عن مؤيّديه ومحازبيه من الجمهوريين وقاعدته الشعبية “الماغا” (MAGA) أي «لنجعل أميركا عظيمة من جديد»، بالرغم من نرجسيّته وسلوكه الشخصي العدائيّ المتعجرف، وتصرفاته وعباراته المهينة وتصنيفاته العنصرية.
ففي كمبوديا (17 مليون نسمة)، التي تبعد عن الولايات المتحدة نحو 14,484 كيلومترًا، والأقرب إلى الصين جغرافيًا، والأوثق بها اقتصاديًا وتجاريًا، تنتشر «حُمّى ترامب”، فرئيس وزراء البلاد رشّحه لنيل جائزة نوبل للسلام وقادة الأعمال هناك يشبّهون الرئيس الأميركي بالإله، والأهم أن الرهبان – الذين يحظون بتبجيل كبير في الأمة البوذية – ساروا (في إحدى المناسبات) في الشوارع حاملين صوره.
ولكن من يراجع الخطاب الكمبودي يجد أن الصراع أعمق من صورة وتظاهرة وجائزة. هو صراع على الذاكرة والهوية والنفوذ في منطقة جغرافية تتشابك وتتصارع فيها مصالح أكبر دولتين في عصرنا الحالي وهما الولايات المتحدة والصين، حتى أن الحدود بين كمبوديا وتايلاند كانت حتى الأمس القريب حدود نفوذ بين اللاعبين الصيني والأميركي.
كمبوديا.. وترامب
غير أن نظرة التأليه المستجدة لترامب ربما تكون مفهومة في تايلاند المحسوبة تاريخيًا أكثر على الأميركيين، أما بالنسبة إلى كمبوديا فهي لعبة مصالح أولًا وأخيرًا. وتبعًا لذلك، يقول المحللون إن جزءًا من حملة كمبوديا الودّية تلك بدا محسوبًا بدقة، وله علاقة بالحرب الجمركية العقابية لترامب، إضافة إلى تحقيق توازن في الاعتماد المفرط على الاستثمارات الصينية، والتخفيف من انتقادات حقوق الإنسان التي كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تُوجّهها إليها، ولا سيما إدارة جو بايدن التي فرضت عقوبات على أعضاء كبار في حزب الشعب الكمبودي بسبب قضايا الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان!
لكن ترامب ألغى عددًا من الإجراءات العقابية، إذ أوقف في وقت سابق من هذا العام تمويل المشاريع الأميركية التي تدعم ما يُسمى “المجتمع المدني” في كمبوديا، وأغلق إذاعة «صوت أميركا» التي كانت تقود حملات ضد حزب الشعب الكمبودي.
وتعقيبًا على ذلك، قال سوس يارا، النائب في البرلمان عن حزب الشعب الكمبودي الحاكم لصحيفة “واشنطن بوست”: “ترامب فريد من نوعه»، واصفًا إياه بأنه “ألماسة مصقولة”. وأضاف أن «كمبوديا ما زالت تدعم المبادرات العالمية للصين، ولا سيما مشروع الحزام والطريق، لكن بكين لا يمكنها أن تُملي علينا مع من نريد أن نتحدث”.
وانطلاقًا من هذه النقطة، يبدو جليًا أن ترامب هو الشخص الذي يريدون التحدث إليه، خصوصًا وأن كمبوديا نجحت في خفض معدل الرسوم الجمركية المفروضة عليها من 49% – وهو من أعلى المعدلات في العالم – إلى 19%، وهي النسبة ذاتها المفروضة على الفيلبين، الحليف المقرّب للولايات المتحدة. كما أبدى الكمبوديون اهتمامًا بالتعامل مع الشركات الأميركية الراغبة بالاستثمار في هذه المنطقة الحسّاسة.
قاعدة ريام الإستراتيجية
وتعتمد كمبوديا على الصين كأكبر مانح ومُقرض ومستثمر وشريك تجاري لها، كما تستضيف – وفقًا لأحد تقديرات معهد يوسف إسحاق لدراسات جنوب شرق آسيا – أكثر من مئة مشروع يمكن اعتبارها ضمن مبادرة «الحزام والطريق» الصينية الاستثمارية البالغة قيمتها تريليون دولار. كما أن كمبوديا تُصوّت باستمرار إلى جانب بكين في الأمم المتحدة، حتى في أكثر مواقفها إثارة للجدل.
ويقول مسؤول صيني إن الصداقة بين كمبوديا والصين «متينة ولا تنكسر»، وعليه قامت كمبوديا العام الماضي بتسمية أحد شوارعها الرئيسية باسم الرئيس الصيني «جادة شي جين بينغ”.
في المقابل، تعود الشراكة الأمنية التي أقامتها كمبوديا مع الولايات المتحدة إلى حقبة ما بعد خروجها من نظام “الخمير الحمر” في تسعينيات القرن الماضي، غير أن هذه الشراكة ما لبثت أن انهارت عامَي 2017 و2018، وسط تصاعد الانتقادات الأميركية لحزب الشعب الكمبودي بسبب حملاته القمعية ضد المعارضة، وهو ما دفع هون سين، والد رئيس الوزراء الحالي هون مانيت إلى إلغاء عشرات التدريبات الأمنية الثنائية آنذاك.
إلى جانب ذلك، يلفت الخبراء إلى أنه في أعقاب جائحة كوفيد-19، جفّت الاستثمارات وتراجعت السياحة في جنوب شرق آسيا، وتفاقم قلق كمبوديا بشأن اعتمادها المفرط على بكين. لذا، وبعد أن تولّى هون مانيت السلطة خلفًا لوالده عام 2023، بدأ يُظهر اهتمامًا بإصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة.
من هنا، أجرى الجيشان الكمبودي والأميركي في أيلول (سبتمبر) الفائت محادثات لاستئناف التدريبات المشتركة بعد توقف دام ثماني سنوات، وفقًا للقيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، وهذا الأمر هو في صلب الزيارة التي يقوم بها حاليًا وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسِث استجابة لطلب أميركي سابق بزيارة سفن حربية أميركية لقاعدة ريام البحرية على الساحل الجنوبي لكمبوديا، وهي القاعدة التي تقع قرب مضيق ملقا، أبرز ممر حيوي للسلع والسفن بين المحيطين الهندي والهادئ.
وتجدر الإشارة إلى أنه منذ العام 2019، يتهم مسؤولون أميركيون الحكومة الكمبودية بأنها جعلت ريام، الواقعة بالقرب من بحر الصين الجنوبي ذي الأهمية الاستراتيجية الكبرى، قاعدة عسكرية خارجية للجيش الصيني.
ولطالما أبدت كمبوديا استعدادها لاستقبال السفن الأميركية في قاعدة ريام، إلا أن العسكريين الأميركيين “لن يُمنحوا وصولًا كاملًا وغير مقيّد”، بحسب ما قال راث داراروت، المسؤول في وزارة الدفاع الكمبودية.
انعدام ثقة متبادل
وساعد النجاح الذي حقّقه ترامب بفرض وقف لإطلاق النار على خلفية نزاع حدودي بين كمبوديا وتايلاند في تموز (يوليو) الماضي، من خلال تلويحه بتهديد تعليق المفاوضات الجمركية كوسيلة ضغط عليهما، في رفع منسوب مشاعر التقدير الكمبودية تجاه سيد البيت الأبيض، الأمر الذي حوّل الحماسة القومية إلى تعاطف شعبي مع ترامب.
لكن السؤال الأساس: هل هذه الحماسة تلغي صراعًا عمره قرون من الزمن، منذ أن كانت كمبوديا عاصمة لإمبراطورية الخمير التي بسطت نفوذها على تايلاند، قبل أن تتراجع وتتوسع مملكة سيام (تايلاند) وتبسط نفوذها على أراضٍ كمبودية فينشأ نزاع حدودي عنوانًا ولكنه ثقافي ونفسي وتاريخي لا تُبدّده صورة تجمع رئيس دولة عظمى مع رئيسي البلدين؟
في هكذا حالات يختصر النزاع على معبد حدودي مثل معبد برياه فيهير معظم الإشكاليات بين البلدين الجارين اللذين ورثا الكثير من العقد الاستعمارية، فصار التالانديون يقدمون أنفسهم حراسًا للبوذية بوصفهم الشعب المتفوق بالمقارنة مع جيرانهم، وهذه النظرة الدونية للجيران الكمبوديين، تشبه نظرة العديد من الدول لجيرانها سواء في عالمنا العربي (نموذج العلاقة بين السعودية والكويت أو السعودية وقطر أو نموذج العلاقة بين لبنان وسوريا إلخ..) أو حتى الكثير من الدول في شتى أنحاء العالم.
في ظل هذه المعطيات، يصبح النزاع الحدودي على معبد أو أمتار من الأرض هو محاولة لإعادة بناء كبرياء دولة وتوكيد هويتها الوطنية، فضلًا عن التوظيف في المعارك الداخلية وبالتالي صرف النظر عن أزمة هنا أو هناك.
وفي المحصّلة، من المبكر القول إن كمبوديا تخطط للابتعاد تمامًا عن الصين، وفقًا لما قاله، كين فيا، المدير العام لمعهد العلاقات الدولية في الأكاديمية الملكية الكمبودية، موضحًا “أننا لم ننسَ بعد جارتنا المهمة»، مشيرًا إلى أن السياسة الخارجية الأميركية تتأرجح من إدارة إلى أخرى، ما يعني أنه سيبقى هناك دائمًا قدر من انعدام الثقة بين بنوم بنه وواشنطن.
