شهد الاستعمار الياباني نهايته حيث كان بين المهزومين. بينما لم نشهد زوال الاستعمار المباشر لبريطانيا وفرنسا إلاّ بعد عقود، برغم إنشاء الأمم المتحدة عشيّة نهاية الحرب الثانية. حتى أنهما لم تتخليا عن صيغة الاستعمار المباشر إلاّ عبر تقاسم النفوذ والمصالح مع الولايات المتحدة (كما حدث عند الإطاحة بمحمد مصدّق في إيران عام 1953)، التي أفهمتهما كما الاتحاد السوفياتي “صراحةً” بأنّ هيمنة القطبين الجديدين تقوم بطرقٍ أخرى (كما عندما هدّدهما الاتحاد السوفياتي بقصفٍ نوويّ لوضع حدٍّ للعدوان الثلاثي على مصر في 1956 فوقفت أمريكا “على الحياد”). وهكذا بدأت مرحلة نهاية الاستعمار، حيث حصلت بلدانٌ كثيرة في آسيا وإفريقيا على استقلالها في الخمسينيات والستينيات. وتحوّل الاستعمار المباشر إلى نوعٍ من فرض النفوذ عبر “القوّة الناعمة” واستخدامها الشبكات الاقتصاديّة والتلاعب بـ”النخب المحليّة” والمساعدات “الإنسانيّة”.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، أصبح القطب الأمريكي وهيمنته “وحيدين”. لكن سرعان ما صعدت الصين كقوّة منافسة، وبرز الاتحاد الأوروبي ودولٌ متوسّطة القوّة كلاعبين على المسرح الدولي، من الهند وباكستان إلى البرازيل وتركيا ودول الخليج، كي يلوح مع الألفيّة الجديدة عالمٌ متعدّد الأقطاب، أقلّ استقراراً وأصعب توازناً بما كان لدى وجود قطبين، خاصّةً مع محاولة روسيا استعادة دورها على خلفيّة إرث الاتحاد السوفياتي السابق وجهود أقطاب أخرى بغية بسط نفوذٍ إقليميّ.
وفي مثل هذا المناخ، تشهد الدول التي لم تستطع في الفترات السابقة تحقيق تنمية فعليّة ومِنعة لمؤسّسات دولها، بما في ذلك ترسيخ قبول هذه المؤسسات شعبيّاً اضطرابات حادّة. هذه هي حال بلدنٍ عربيّة أخذتها موجة “الربيع العربي” إلى الدمار والتفكّك، وهذا ما تبدو ذاهبة إليه كثيرٌ من دول إفريقيا، حيث المجال المفتوح لطموحات الأقطاب المتعدّدة.
صعوبات هذه الدول الإفريقيّة تشابه الدول العربيّة، وربّما بصورةٍ أكثر حدّةً. فمجتمعاتها شديدة التنوّع ما زالت تسعى لتماسك وحدتها وفق مبدأ المواطنة. وتوالت عليها الانقلابات والاضطرابات خلال عقود مع نخرٍ لمؤسّسة الدولة من قبل السلطات القائمة، مهما كان لبوسها، ديكتاتوريّاً أم “ديموقراطيّاً”.
ما الذي يجعل النيجر و”رفيقاتها”، وهي بين الأكثر فقراً عالمياً، مجالاً للتنافس بين فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة، من ناحية، والصين وروسيا وأيضاً تركيا وغيرها، من ناحية أخرى؟ ولماذا أثار الانقلاب الأخير في النيجر غضباً فرنسيّاً عبّر عنه الدفع إلى تدخّل عسكريّ لدول الجوار يوحي بعودة إلى السياسات الاستعماريّة القديمة؟ أهي مواردها الطبيعيّة؟
وضمن هذا السياق، تأتي تطوّرات النيجر (20 مليون نسمة) الأخيرة، بعد تلك في مالي (18 مليوناً) وبوركينا فاسو (18 مليوناً). فهذه الدول الثلاث، ذات الأغلبيّة المسلمة والمطلّة على الصحراء الإفريقيّة انتظمت بعد استقلالها كدولٍ مؤسّسة لـ”المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” التي نشأت كبديلٍ لـ”فدرالية المستعمرات الإفريقيّة” القديمة، على أساس حريّة التبادل التجاري بينها والتي تشكّل نيجيريا اليوم ضمنها الثقل الأكبر سكانيّاً (182 مليوناً) واقتصاديّاً. وهذه الدول الثلاث تتعامل جميعها، على خلاف نيجيريا، بما يُدعى “فرنك غرب إفريقيا” (والذي كان يسمّى “فرنك المستعمرات الفرنسيّة في إفريقيا”) المرتبط اليوم باليورو، والتي تضمن فرنسا ثبات قيمته، ما يفرِض عليها وضع نصف احتياطاتها بالقطع الأجنبي في خزينة المالية الفرنسيّة (ما يذكّر بتاريخ الليرة السورية-اللبنانية في منتصف القرن الماضي). ولطالما شكّلت هذه التبعيّة النقديّة قضيّة خلافية بينها وبين فرنسا، لما تأخذ إليه من تشجيعٍ لاستيراد الرفاهيّات من فرنسا وأوروبا (للطبقات العليا والوسطى) و”تبخيسٍ” لقيمة الصادرات التي تشكّل المواد الأوليّة أغلبيّتها. هذا مع الفشل المستمرّ لمحاولات “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” في خلق عملتها الموحّدة.
لكن، بمعزل عن الحساسيّة تجاه الإرث الاستعماري الفرنسي، ما الذي يجعل النيجر و”رفيقاتها”، وهي بين الأكثر فقراً في العالم والتي تعاني من تقدّم التصحّر وموجات الجراد، مجالاً للتنافس بين فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة، من ناحية، والصين وروسيا وأيضاً تركيا وغيرها، من ناحية أخرى؟ ولماذا أثار الانقلاب الأخير في النيجر غضباً فرنسيّاً لافتاً للإنتباه عبّر عنه الدفع إلى تدخّل عسكريّ لدول الجوار يوحي بعودة إلى السياسات الاستعماريّة القديمة؟ أهي مواردها الطبيعيّة؟
بالتأكيد، تحتوي النيجر على أحد أكبر احتياطات اليورانيوم العالمية. ولكنّ فرنسا لديها مصادر متنوّعة لليورانيوم ولا يمكن للنيجر الاستفادة منه سوى عبر بيعه في الأسواق. وهناك أيضاً النفط والذهب والفحم. وبالتأكيد أيضاً، لا يشكِّل حجم المعونات التي تتلقّاها النيجر من أوروبا والولايات المتحدة، وهي بضعة عشرات ملايين الدولارات احتاجت إليها مع أزمات ديونها المتواترة، سوى جزءاً ممّا يُمكن أن تحصل عليه من استثمار مواردها.
هناك أمورٌ أخرى تخصّ بالتحديد الصحراء. إنّ هذه الصحراء ممرّ لتدفّق المهاجرين والممنوعات (بما فيها المخدّرات المنتَجة في المغرب) نحو ليبيا وتونس والسودان ومصر (حسب تقارير الأمم المتحدة). هذا دون أن ننسى التنقيب “العشوائي” عن الذهب خاصّةً في مثلث الحدود الليبيّة-الجزائريّة-النيجريّة-
بعد الانقلاب العسكري الأخير، الذي يُقال أنّه حصل بتحريضٍ روسيّ، تمّ فرض عقوبات على النيجر وأوقفت المساعدات “الغربية” ويتمّ الدفع نحو تدخّل عسكريّ من قبل دولٍ في “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” (إيكواس) لإعادة الحكم الديموقراطي، في ظلّ إعلان مالي وبوركينا فاسو من أنّ ذلك سيشكّل عدواناً عليهما، وتحذيرات من السلطة الجزائريّة وبرلمان نيجيريا بأنّ ذلك سيأخذ المنطقة برمّتها إلى مزيدٍ من عدم الاستقرار.
ومن الواضح أنّ الصراع الدامي في السودان وغيرها في شرق إفريقيا والصراع الجديد الذي يتطوّر في غربها لهما دلالات مقروءة مفادها أنّ إفريقيا باتت مجالاً لتنافس العالم المتعدّد الأقطاب.. وما يعني مزيداً من الخراب بدل التنمية. وتبقى المسؤوليّة الأساسيّة هي مسؤوليّة نخب البلدان الأفريقيّة وسلطاتها الحاكمة في غياب منعةٍ تخدم وتحمي مواطنيها.