صارت الحيوانات تقترب من الأسد المربوط، وتفتعل به، كلٌّ على طريقته، لتشفي غليلها منه. فهذا يبصق عليه. وذلك يركله. وذاك يبوِّل على لبدته. إلى أن مرّت فأرة صغيرة بجانبه. فناداها الأسد: “يا فأرة، تعالي لنتّفق أرجوكِ. اسمعيني جيّداً. إذا فككتِ رباطي سأكرِّمك”. أغرى العرض الفأرة. فاقتربت من الأسد “الأسير”، وقضمت الحبل الذي يربطه إلى الشجرة. وفور تحرّره، زأر ملك الغابة بقوّة. فملأ زئيره كلّ الأرجاء. ارتعدت الحيوانات، وجاءته فزعة تطلب منه الغفران. قالت له: “إطلب منّا ما تشاء، ونحن سننفّذه”. فقال لها بأسى: “لا أريد شيئاً. فقط، أريد هجران هذه الغابة، بأسرع ما يمكن. فما بالكم بمملكةٍ، يربط ابن آوى فيها.. ويحلّ فأر!”.
انتهت الحكاية التي رواها مغتربٌ لـ”زعيم طائفته”، وقصّها عليّ صديق. كان ذاك المغترب، يحاول تبرير معاودة تفكيره بالهجرة. فلقد خاب طموحه. كان ينوي تأسيس مصنعٍ للأحذية في لبنان، لتشغيل مئات الأيدي العاملة. لا تحتاج هذه الحكاية، طبعاً، إلى أيّ تشريح. لكنّ التوضيح واجبٌ، لكون الآية مقلوبة فيها. فملك الغابة، أي الحاكم، هو الشاكي (في الحكاية) من “سورياليّة” الوضع القائم وليس المحكومين (أي الحيوانات التي تآمرت عليه). بعدما باتت سلطة “الحلّ والربط”، في عهدة التافهين. وفي الحالتيْن، تتمحور الشكوى حول الظلم المتأتّي من التفاهة والتافهين.
في لبنان، يبدو أنّ هناك صحوة حيال “تفاهة” مَن يحلّ ويربط. وكأنّ اللبنانيّين يتعرّفون، اليوم فقط، على هذا المصطلح. لقد “اكتشفوا” كتاب “La médiocratie” المنشور في الـ 2015. عرّفهم الفيلسوف الكندي Alain Deneault، المعروف بنضالاته، ولا سيّما ضدّ صناعة التعدين والجنات الضريبيّة، على مدى خطورة التفاهة عندما تسود بين الحُكّام. بين أصحاب القرار. بين الأوصياء على الشعوب. وبات عنوان كتابه مفهوماً جديداً، دخل قاموس مفاهيم العلوم السياسيّة. عُرِّب المفهوم المبتكَر بـ”نظام التفاهة”. وبلا أدنى شكّ، يمكن اعتبار النظام اللبناني، بمنظومته الحاليّة، أفصح نموذج عن نظام التفاهة هذا. كيف؟
في اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، أوقن أنّ أيّ شيءٍ في هذا البلد البائس لم يعد يثير عجبي. لكن لم أشعر بنفسي، يوماً، مُهانة إلى هذا الحدّ. ولكي أكون صادقة أكثر، شعرتُ بالعار. هل تعرفون يا أصدقاء، أنّ ما من عاطفة أوطد علاقةً بالنظام الاجتماعي البشري، كالشعور بالعار؟
لقد كرّستُ أكثر من مقالة للكتابة عن نظام التفاهة و”معتنقيه”. نظام، ما انفكّ يتحكّم بمصير العالم. بمصيرنا، نحن اللبنانيّين، بظلّ نظامٍ أصبح يتربّع على عرش التفاهة. كتبتُ عن حُكّام لبنان الأنذال والفاسدين والمجرمين (وأعتذر من القرّاء الأعزّاء على التكرار). فإذا بي أستنتج، وبعد معاودة قراءة مؤلَّف Deneault، أنّ هذه “المزايا” إنّما تتصدّر لائحة سمات “الساسة التافهين”. هي ليست مفارقة، بالتأكيد. فعندما تكون فكرة “آلان دونو” المركزيّة أنّنا نعيش التفاهة في عالمنا الراهن نتيجة الفساد التامّ للديموقراطيّة في دول الغرب، فماذا عسانا نقول عن لبنان الذي يعطي العالم دروساً في أصول الفساد؟ وليس في كيفيّة إدارة الدول من دون موازنات، فحسب (تصريح جبران باسيل لـ CNN في 23 كانون الثاني/يناير 2019). بل، أيضاً، من دون رؤساء وبرلمانات وحكومات ووزارات وقضاء ومستشفيات وجامعات و…كلّ أشكال المؤسّسات. هو إعجاز التافهين. فلبنان، هو النموذج الأمثل لآليّة عمل التفاهة المدفوعة إلى أقصى حدودها. بسبب إرادة المحتلّين للدولة، وقرارهم بإفشالها.
لماذا معاودة كتابتي عن التفاهة؟
الدافع هو الحوار التلفزيوني (مساء الخميس) مع سعد الحريري رئيس حكومة لبنان المعتذِر عن التكليف. لن أقارب الموضوع “مهنيّاً”. فهو يتطلَّب، بحدّ ذاته، سلسلة من المقالات (سأكتب يوماً عن دور “التوك شو” اللبناني في صناعة الغباء). سأقارب محاولات أركان السلطة اللبنانيّة في تسلُّق سلّم التفاهة، عن طريق “الدخول في اللعبة”. وهذه اللعبة المسيطرة، على كلّ الصُعُد الهرميّة، تتمثّل باحترامٍ ظاهريٍّ لقواعد الحُكم ومشتقّاته، من جانب بعض أهل السلطة. في حين، يتجاهل معظمهم هذه القواعد تجاهلاً تامّاً في الكواليس، من أجل فرض إرادتهم. القليل جدّاً منهم ينجحون. وغالبيّتهم يفشلون. سعد الحريري من بين هؤلاء الفاشلين.
تعمّدتُ متابعة المقابلة المتلفزة معه. من ألفها إلى يائها. وأصختُ السمع. لقد كسر الاستماع إليه قراراً كنتُ قد اتّخذته، منذ 17 تشرين، بمقاطعة البرامج الحواريّة. تحديداً، إذا كان المتكلّمون من بين أركان الطبقة السياسيّة الحاكمة. لا بأس، قلتُ لنفسي، فالإعلان الترويجي للّقاء يَعِد بالكثير. بكشف المستور. وأنا أحبّ، كثيراً، كشف المستور. فهذه الهواية استجدّت لديّ. “دارت القهوة.. عَ مين بدها تدور؟.. دارت عليّي وفنجاني مكسور..”. هكذا ترنِّم الأغنية. وهكذا رنَّمتُ وأنا أشاهد، ما كان يشبه “جلسة فنجان قهوة” عند الجيران. لا كياسة في الحضور. لا أناقة في الكلام. أمّا المحتوى، وبعد العدّ للعشرة في سرّي أصفه، بأنّه كان كارثيّاً بكلّ المقاييس. يا إلهي! كثيرٌ علينا هذا الهراء. هذه التفاهة. بخاصّة، أنّه في سياقنا اللبناني الحافل بالقلق، تصبح تفاهة “شاغل السلطة” سلاحاً فتّاكاً. يفتك بنا وبه وبالوطن.
ماذا في تفاصيل المقابلة؟
في اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، أوقن أنّ أيّ شيءٍ في هذا البلد البائس لم يعد يثير عجبي. لكن لم أشعر بنفسي، يوماً، مُهانة إلى هذا الحدّ. ولكي أكون صادقة أكثر، شعرتُ بالعار. هل تعرفون يا أصدقاء، أنّ ما من عاطفة أوطد علاقةً بالنظام الاجتماعي البشري، كالشعور بالعار؟ إذْ يحكي الفيلسوف بروتاجوراس لسقراط أسطورة تقول؛ إنّ الحكيم بروميثيوس، وبعد أن اصطفى البشر على غيرهم من الحيوانات بإهدائهم النار، قام الإله زيوس بمنحهم العار والعدل. كي يتمكّنوا من التعايش معاً في تناغم.
فالعار هو، في أحد أوجهه، الوعي الذي يؤدّي بنا إلى الشعور بالضعف تجاه الإحساس بالخزي أو الخجل، من خلال أفعال الآخرين. أي، أن نشعر بالذلّ.
هذا ما أحسستُه، بالضبط، وأنا أتابع الحريري على الشاشة. أحسستُ بأنّ قلبي يعتمل بنقمة، لم أعهدها فيه من قبل. أصلاً، في مكان القلب بات لديّ، على الأرجح، قنفذ فظّ. وأنا في خضمّ المشاهدة، بدا وكأنّ الصمت خيّم فجأةً. والصمت ينطوي، في العادة، على مستوياتٍ من الإرتفاع وطبقاتٍ من السماكة. وصل الصمت معي، إلى آخر طبقة سميكة. أرى الشفاه تتحرّك. لكنّني لا أفهم ما تُتَمْتِم به.
عجيبٌ، أن يتكلّم المرء وهو لا يزال صامتاً! إذْ يعتقد المُنصِت، أنّ هناك عطلاً تقنيّاً يمنع وصول الصوت إليه. لكنّ الأعجب، أن يعجز هذا الصوت (إذا وصل) عن السكن في الأُذُن! هل يُعقَل أن يجيب الإنسان عن أسئلة تُطرَح عليه قبل صوغها؟ نعم. هذا يُعقَل في لبنان. لماذا؟ لأنّ ما يحصل على أرضه، لا يحصل في أيّ بقعةٍ من المعمورة. وإليكم عيّنة من الأمثلة: فقط في لبنان، يتمّ تخزين الطحين في مرآب “المدينة الرياضيّة”. ونيترات الأمونيوم في المرفأ. والأغبياء في الوزارات. واللصوص في القصور! نعود إلى تفاهتنا الوطنيّة.
إنَّها مأساة رجالٍ لا يعرفون بلدانهم، ولا يعرفون العالم. رجال، يفتقرون إلى التواضع في بلادٍ لا تحتمل هذه النسبة المرتفعة من الطواويس. من المراهقين. من المهرطقين. من التافهين، باختصار. وهؤلاء التافهون.. من ذاك الشعب التافه!
بدا كلام ضيف قناة “الجديد”، مثل لعبة كنّا نلعبها صغاراً في “كرمس” المدرسة. اسمها، لعبة الوصول إلى اللمبة. التفافات ودوران. طلوعاً ونزولاً. يميناً ويساراً. لكي نبلغ، في آخر مطاف اللعبة، لمبة صغيرة. تضيء عند بلوغنا الهدف. لم تُضَأ اللمبة، ولا مرّة، في كلّ المقابلة. كلّ الطواف ذهب سدى. ها هو شعبان يدخل في حَرَم رمضان. ويعرّج قليلاً على ذي الحجّة! إنّها خفّة الكائن التي لا تُحتمَل (بالإذن من ميلان كونديرا)! خفّة يسحقنا ثقلها. تلوينا تحت وطأتها. وتشدّنا نحو الأرض.
كان الحوار شبيهاً بـ”جلسة تخديريّة”. تدعونا، تارةً، إلى التعاطف مع المتحدِّث. وتارةً أخرى، إلى تبرير سلوكه. ومن ثمّ، تومئ لنا لشكره على تفهّمنا لفشله. كانت دعوة صريحة للتفكير برخاوة. لرمي الأفكار والقناعات في القمامة. لنصبح كائناتٍ بشريّة طيّعة. يسهل حُكمها (من قبله وزملاءه في السلطة). يسهل اقتيادها و”المداكشة” عليها. أو محقها، مرّةً لكلّ المرّات. كان الحوار يحفِّزنا كي نمقت خصوم “المعتذِر” (أعداءه؟). ألمح الحريري إلى بعضهم تلميحاً. وسمّى بعضهم بإصرار. طبعاً، في رأس قائمة مَن سمّاهم، رئيس الجمهوريّة ميشال عون. أنهكه الرجل، بعدما أنهك البلاد والعباد ليجلس على كرسي قصر بعبدا. وحين أُعطيَت له الرئاسة، تكشّف للّبنانيّين أنّه لا يملك برنامجاً واضحاً ليغيِّر ويُصلِح ويحاسب. ولا تفويض قاطعاً من حليفه “حزب الله”، ليحكم. هو الإبحار من دون سفينةٍ في بحر التفاهة (إيّاها)، وشعورهم بأنّ الوصول مُحال (كما يقول نزار قباني)! وبعد؟
إنَّها مأساة رجالٍ لا يعرفون بلدانهم، ولا يعرفون العالم. رجال، يفتقرون إلى التواضع في بلادٍ لا تحتمل هذه النسبة المرتفعة من الطواويس. من المراهقين. من المهرطقين. من التافهين، باختصار. وهؤلاء التافهون.. من ذاك الشعب التافه! لماذا يرضى بهم حُكّاماً؟ مسؤولين عن المصائر؟ حتّى اللحظة، لم يُعطِ الشعب اللبناني جواباً على الكثير من الأسئلة المصيريّة. نفهم أن يتقبّل أنصارهم تفاهتهم. أتباعهم. أزلامهم. حاشيتهم. عشيرتهم. أرادوهم وأتوا بهم، إلى حيث هم اليوم. لكن، أنا وكثيرون مثلي، من نابذي الطوائف والطائفيّين وأحزابهم، لا علاقة لنا بزمرة التافهين هذه. لا من قريب ولا من بعيد. لم ننتخبهم. لم نرتضيهم مسؤولين عن أقدارنا. فُرِضوا علينا فرضاً. فلماذا علينا أن نتحمّل قرفهم ومهاتراتهم وإجرامهم؟
كلمة أخيرة. يصف عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبّار (توفي في بيروت في 2018) السياسيَّ العربيَّ بعامّة، وصاحب القرار بخاصّة، بأنّه يتسلّى بالغوص في المشاكل. بل، يُنتِجها. وبات إنتاجها، بالجملة أو بالتتابع، فولكلوراً. لكأنَّ مهاترات هؤلاء السياسيّين، قد تحوّلت إلى نوعٍ من الإدمان لديهم. إلى كوكايين حياتهم. إلى هيرويين عيشهم. إقتضى التذكير.