لماذا الأمة العربية ضد نفسها؟

لماذا الأمة العربية ضد نفسها؟ لأن الأمة العربية ليس لديها مشروع استراتيجي يحميها ويخدم مصالحها ويبيّن للعالم وجهها الحقيقي في مواجهة الوجه المزيف الذي بصنعه لها أعداءها بالنيابة عنها فيشوّه حقيقتها ويُظهِرها أضحوكة للعالمين.

على الرغم من بداهة صحة هذه الإجابة البسيطة والمباشرة، لا بدّ من بعض الشرح والتوضيح: ليس لدى أمتنا العربية مشروع استراتيجي يدافع عنها؛ ولذا، فإنّ أعداءها يصنعون لها مشروعاً، فتتبناه ويصبح هو مشروعها الذي تحارب به نفسها، تُغني به أعداءها عن محاربتهم لها، كالمشروع التقسيمي الذي صنعته للأمة العربية فرنسا وبريطانيا في بداية القرن المنصرم (مشروع لورنس وبلفور وسايكس وبيكو)، والمشروع الإسلامي الذي صنعته لهم أميركا في بداية القرن الجاري، منذ برنارد لويس وهنري كيسنجر (هذا “الإسلام الذي صنعناه لهم”، كما قالت هيلاري كلينتون في كتابها “الخيارات الصعبة”) والمشروع الذي تصنعه لهم إسرائيل اليوم “الشرق الأوسط الإبراهيمي”. فأعداء الأمة العربية يُوكِلون إليها محاربة نفسها بنفسها لأنهم يعلمون عِلم اليقين أنها أمة قوية، وإن هي أرادت أن تدافع عن نفسها فلا يمكن لأحد في الدنيا أن يهزمها[1]. فهُم يرفضون إلغاء الحدود بين سوريا والعراق في مشروع “شرق أوسط عربي”، لكنهم يقبلون بأن تُلغيها “إسرائيل الكبرى” (“شرق أوسط جديد”)، أو بأن يُلغيها الإسلام الصهيوني ـ الأميركي، وأن يُقيم “دولة اسلامية في العراق والشام” (“داعش”).

لم يعُد تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني جزءاً من مشروع عربي فحسب، بل بات أيضاً جزءاً من المشروع الإنساني الواسع

كان مشروع “سوريا الكبرى” أفضل ردّ على مشروع “إسرائيل الكبرى”، فحاربه الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، ثم أكملت سلطات “الاستقلال” اللبنانية المهمة فأعدمت صاحب المشروع ونكّلت بأتباعه. ثم كان المشروع الوحدوي العربي الناصري والبعثي الذي اختصر المدّ الجماهيري العربي في شخص جمال عبد الناصر، مع كل ما انطوى عليه هذا الحصر من مخاطر أدّت في نهاية المطاف إلى انتهاء المشروع بنهاية شخص عبد الناصر. والعجب العجاب أن العرب، في تبنّيهم الأسلحة التي يحاربهم بها أعداؤهم ـ ومنها مثلاً القول بأن الأمة العربية وهْمٌ ولا وجود لها ـ ينفون بدورهم وجود هذه الأمة، ولا يرون فيها سوى أقليّات عرقية ودينية ومذهبية؛ حتى إذا ما قامت أقليّة منها، أو فئةٌ من هذه الأقليّة إلى مقاومة إسرائيل حاربوها بغية القضاء عليها.

حرب الهمجية الصهيونية

غياب المشروع العربي هو هذا الفراغ الكبير الذي نشعر به جميعاً، ويشعر به كل عربي فيجعله تائهاً حائراً لا يدري ماذا عليه أن يفعل، وبماذا عليه أن يؤمن به. خلو العالم العربي من هذا المشروع الذي رافقه منذ بداية القرن الماضي، حلّت محلّه مشاريع أجنبية للمنطقة العربية، وهذا ما أفسح في المجال أمام الدول الإقليمية وأمام الدول الكبرى لكي تضع للعالم العربي مشاريع تجند لها عرباً توهمهم بأنها مشاريع مفيدة لهم، في حين أنها لا تفيد إلا مصالح واضعيها. فلا نعجب إذاً من رؤية عرب يُصفّقون لإسرائيل ويتحمسون لها ويُشيدون بمزاياها من دون أن يعلموا أنها ستفترسهم بعد أن تفترس الفلسطيني، وتحتل بلادهم كما احتلّت فلسطين.

إنّ النظرة إلى حرب غزة على أنها حرب عسكرية وميدان مواجهة بين جيش محتلّ مدجج بأحدث الأسلحة الحربية وبين شعب أعزل تمكّن من مقاومة الاحتلال بفضل ما تيسّر له من سلاح، هي نظرةٌ قاصرةٌ بل مشوّهةٌ لحقيقة هذه الحرب التي يجب النظر إليها من جانبها الأهم، وهو حرب الهمجية الصهيونية على الإنسانية العربية، وهي حرب مستمرة منذ مائة عام ومليئة بالفظاعات البربرية ضد الشعب الفلسطيني (وضد كل العرب الذين سعوا إلى مساندة الفلسطينيين، من مصريين دُفِن قسمٌ كبير من جيشهم في رمال سيناء أثناء حرب 67، ولبنانيين دُمِّرت مدنهم وقراهم على مدى أكثر من نصف قرن..) وثمة صور كثيرة لفظاعات الهمجية الصهيونية، ولكن يكفي أن نتفحص فقط صورة من صور الوحشية الصهيونية وهي هذه التي جرت أثناء تبادل الأسرى الإسرائيليين مع السجناء الفلسطينيين: ففي حين كان الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين يجري بروح تفيض إنسانية وبهجةً تجلّت لا في المنظر الاحتفالي العام، بل خصوصاً في وجوه الأسيرات الإسرائيليات الممتلئة صحة وطمأنينة، بفعل الأخلاق الإنسانية الرفيعة لدى الفلسطينيين، رأينا أن إسرائيل علاوةً على مظاهر التعذيب والتجويع البادية في أجساد السجناء الفلسطينيين الهزيلة ووجوههم النحيلة، منعت أهالي الأسرى الفلسطينيين من الشعور بالفرح في لقاء أبنائهم. فهل يمكن بعد ذلك تصور همجية أفظع من هذه الهمجية؟

لا يُمكن للمشروع العربي المنشود إلا أن تحمله قوة سياسية (أو قوى شتى تتآزر في حمله) لأنه روح الأمة؛ ووحده هذا المشروع يقلب موازين القوى في الشرق الأوسط

المشروعان العربي والإنساني

لم يعُد تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني جزءاً من مشروع عربي فحسب، بل بات أيضاً جزءاً من المشروع الإنساني الواسع. وعلى امتداد تاريخها ما زالت البشرية تبحث عن مشروعها الإنساني ولم تعثر عليه بعد وفقاً لأفكار الفلاسفة والمصلحين وتعاليم الأديان؛ وما زالت الأمة العربية تبحث عن مشروعها العربي حتى من قبل انحسار الحكم العثماني عنها. والمشروعان العربي والإنساني يتشابهان: فكل منهما مطلوب ومفقود في آن، وكلاهما يقومان على قِيَم مغروسة فطرياً في النفس البشرية، حتى أن المشروع العربي نفسه بات جزءاً من المشروع الإنساني. وجزء أساسي من هذا المشروع صون فرح الأطفال وضحكاتهم البريئة التي هي وحدها عنوان الإنسانية. وهذا في حدّ ذاته توكيد على دور المشروع العربي في أن يكون طليعة المشروع الإنساني العالمي، في زمن إسرائيل الكبرى. وبطبيعة الحال، هو دور إرادة الشعوب العربية الحيّة التي لا يمكن للأنظمة العربية ومحاولات التطبيع أن تُغفِله أو تحجبه أو تعطّله.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": سيناريو نتنياهو الشيطاني.. هل تُفجّره الضفة؟

لا يمكن للمشروع العربي المنشود إلا أن ينطلق من أرضية جديدة غير تلك التي كانت زمن مشاريع النهضة أو الإصلاح أواخر القرن 19 وقبل تقسيم المنطقة، والتي كانت تنطلق من أنّ العراق وسوريا وفلسطين وحدة واحدة، وأنّ الأمة موحدة جغرافياً ولم يكن لديها هم التفكير في توحيدها. أما الأرضية التي وجد المشروع العربي نفسه فيها بعد تقسيم المنطقة إلى “دول مستقلة” (كل دولة عن الأخرى، ولكن غير مستقلة عن الدول الاستعمارية التي أنشأتها) فلا يمكن له أن يتجاهل هذا المعطى الجديد الذي خلق انتماءات “وطنية”؛ ولا يُمكن للمشروع العربي المنشود إلا أن تحمله قوة سياسية (أو قوى شتى تتآزر في حمله) لأنه روح الأمة؛ ووحده هذا المشروع يقلب موازين القوى في الشرق الأوسط؛ ذلك أننا لا نجد في الأوساط العربية اليوم مقابل عربِدة جلاوزة القوة التدميرية الشاملة في حلف “الناتو”، ومجرمو التخطيط الاستراتيجي الشامل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، من أجل استيلاء إسرائيل على مقدّرات المنطقة العربية وثرواتها الطبيعية والمائية، سوى مزيج من غفلة وتقاعس وتواطؤ.

كان الإفريقي يُشرى بفرنكين فرنسيين كي يبيع من بلاده تراباً يخالطه ذهب، من دون أن يدري أن ما يبيعه من تراب هو أغلى من الذهب الذي يخالطه؛ إلى أن تنبّه من غفلته، وطردت البلدان الإفريقية الفرنسيين وغيرهم من المستعمرين الناهبين لخيراتها. غير أن العربي ما زال يُشرى بحفنة من الدولارات ويبيع مستقبله وكرامته من دون أن يدري أن هذه الكرامة هي منجم الثروات كلها.

[1] في كل مرة يتمكن جزء صغير من الأمة من تحقيق انتصار على أعداء الأمة تسارع أجزاؤها الأخرى إلى محاربته وإجهاض انتصاره.

Print Friendly, PDF & Email
حسين جواد قبيسي

كاتب لبناني مقيم في فرنسا

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أمريكا عملاقٌ يشيخُ في عمر الشباب!