سألها البوعزيزي، والحسرة والغضب يأكلان كيانه، عن سبب سلوكها تجاه إنسانٍ همُّه فقط أن يعيل أُسرته. فلم تُجِبْه أو تتجاوب معه. فقرّر اللجوء إلى “الدولة”، وتقديم شكوى لمسؤولٍ في البلديّة بحقّ الشرطيّة التي أهانت كرامته. كانت المحاولة من دون جدوى، طبعاً، ما زاد من نار غضبه، فقرّر إحراق نفسه أمام مبنى البلديّة إحتجاجاً، وهذا ما حصل. على مدى ساعةٍ ونصف الساعة، كانت ألسنة النار تلتهم، رويداً رويداً، جسد البوعزيزي، قبل أن تصل إليه سيارة الإسعاف. قاوم جسده الموت تسعة عشر يوماً، ثمّ استسلم للرحيل. أشعل موته تونس بأكملها، قبل أن يُسقِط “الشرطيَّ الغبي”، كما كان المسؤولون الفرنسيّون ينعتون الرئيس التونسي زين العابدين بن علي. رماد جسده أشعل الثورات العربية. حرق خمسون بوعزيزيّاً أنفسهم بوجه أنظمةٍ وحكّام امتهنوا توزيع الموت على شعوبهم في الأزقّة والحارات والسجون. وأصبح سلوك البوعزيزي في الاحتجاج ورفض الظلم والإهانة، محطّ تشريحٍ وتحليلٍ للباحثين في علم النفس وعلم النفس الاجتماعي. تمحور السؤال الإشكالي المركزي لأبحاثهم حول فكرة “لماذا يُقدِم إنسانٌ على الإنتحار أمام الجماهير”؟
هذا السؤال فرض نفسه مجدّداً في لبنان يوم الجمعة (أمس). خبرٌ صباحيٌ بسيط تناقلته الوسائط الإعلاميّة على عجل: “عند العاشرة والنصف صباحاً، أقدم المواطن علي محمد الهق (مواليد 1959) على إطلاق النار على نفسه في شارع الحمراء في بيروت، بالقرب من أحد المقاهي. وقد وُجِدت بالقرب من جثّته ورقة مكتوب عليها “أنا مش كافر”، مُرفَقة بسجلِّ عدلٍ مع عبارة “لا حُكم عليه”. بعدئذٍ، بدأت الروايات والتحليلات والهاشتاغات المستنكرة تُضخُّ (كالعادة)، عندما يحدث حدثٌ “غير اعتيادي” في لبنان (والعالم).
لو صودف وجودي في قاعة المحاضرات في الجامعة، لكنتُ طلبتُ من طلابي، الإجابة على الأسئلة الستّة التي يُبنى على أساس أجوبتها الخبرُ الصحفي. لتصبح السرديّة كالآتي: ماذا؟ انتحار مواطن لبناني؛ مَن؟ علي الهق ابن بلدة الهرمل – من سكّان المريجة في الضاحية الجنوبيّة؛ متى؟ الثالث من تموز/ يوليو؛ أين؟ شارع الحمراء في بيروت؛ كيف؟ إطلاق الرصاص على نفسه؛ لماذا؟ هذا هو السؤال – بيت القصيد، وفيه كلّ حكاية مأساتنا في هذا البلد المنكوب. وللإجابة على هذا السؤال، يتحتَّم على الصحافي، بنظري، أن يمزِّق ثوب موضوعيته شرَّ تمزيق، وأن يرمي كلماته وتعابيره الحياديّة في سلّة المهملات. في السلّة ذاتها التي وقف بجانبها علي الهق صباح يوم الجمعة في شارع الحمراء، وأزهق أمام العابرين روحَه المتألِّمة المُتعبَة. وإليكم حكاية علي.
سأل نفسه في المرآة “لماذا لا تنتظر قليلاً؟” كلا. فكّر وقرّر في سرِّه “لقد قُضي الأمر”. بحثَ بفوضى بين أوراقه وأخرج سجلّه العدلي الجديد. وكتب على ورقةٍ بيضاء ثلاثَ كلماتٍ بالخطِّ الأحمر العريض. وخرج مُنادياً أخاه “واصل مشوار يا خييّ… وصّيني”
ربّما، بل بالتأكيد، عندما وقف هناك، لم يعرفه أحد ولم ينتبه إليه أحد. فعلى عادته، كان شارع الحمراء في ذاك الصباح يزدحم بالمارّة والعابرين على عجل. يمرّون شاردي الذهن يفكّرون بالآتي من الأيام الصعبة، كما تشي معظم التوقّعات. يذهبون بتفكيرهم إلى البعيد، ويحتارون عندما يواجهون الأسئلة الصعبة. كيف وكيف وكيف؟ مثلَ حالهم كان حالُ علي. لقد عاد من بلاد الخليج العربي بعد خمس سنواتٍ من الغربة. وفتح محلّ مخلّلات في إحدى ضواحي بيروت. لكن، خلال الأشهر الأخيرة تراجع عمله كثيراً. ومثله مثل كثيرين، أيضاً، لم يعد يستطيع تأمين بدل الإيجار الشهري. فبدأت ضغوط صاحب الملك عليه و…البقيّة باتت معروفة مع توابعها وتبعاتها. صباح الجمعة، ارتدى علي ثيابه، ونظر إلى المرآة وهو يمشط شعره. وبدأ يتحسّس بيديْه المرتجفتيْن رأسه الذي سينفجر بعد قليل على رصيف شارع الحمراء. فكأنّه كان يختار الزاوية التي ستخترق عبرها الرصاصة دماغه. فقرّر أن يأخذ معه منشفة لتمتصّ نزْف دمه ودماغه. فهو لا يريد أن تكون صورة موته بشعة أو مُنفِّرة للناس. هو لا يريد الشفقة على بؤس التشظّي على الأرصفة. يريد تحدّي القَتَلة. سأل نفسه في المرآة “لماذا لا تنتظر قليلاً؟” كلا. فكّر وقرّر في سرِّه “لقد قُضي الأمر”. بحثَ بفوضى بين أوراقه وأخرج سجلّه العدلي الجديد. وكتب على ورقةٍ بيضاء ثلاثَ كلماتٍ بالخطِّ الأحمر العريض. وخرج مُنادياً أخاه “واصل مشوار يا خييّ… وصّيني”.
وصل علي الهق إلى آخر المشوار. وقف في ركنٍ من الشارع، ينتظر اللحظة التي سيقوى فيها على تنفيذ ما جاء من أجل تنفيذه. استجمع قواه ومدّ يده إلى وسطه وأخرج المسدس و… “الوضع كان طبيعيّاً قبل أن نسمع صوت إطلاق نار ويسقط الشاب أرضاً، من دون معرفة الأسباب”، تقول شاهدةُ عِيان في إفادتها لبعض الصحافيّين. طبعاً هذه الشاهدة تعرف، ونحن نعرف، وأنتم تعرفون، والكلّ يعرف “تلك الأسباب” التي توسَّلتها السلطة اللبنانيّة لقتل المواطن علي الهق بدمٍ بارد. هو قضى شهيداً. هو قضى قتْلاً على يد أركان السلطة، ركناً ركناً. بقي “جثمان” علي مسجّىً في الشارع لأكثر من أربع ساعات. وبعيداً عن صرخات الناس المذهولين ممّا رأوا في مشهديّة الموت الصباحي، ضربت القوى الأمنيّة طوقاً في “مكان الجريمة”. قبل أن تستدعي الفِرَق الطبيّة والأدلّة الجنائيّة للقبض على علي “قاتلاً ومقتولاً”. أيُّ غباء أمنيٍّ هو هذا؟ لكن ليس هنا السؤال الأهمّ. بل، لماذا رحل علي في وضح النهار؟ ولماذا اختار الرحيل أمام الناس؟ وماذا أراد أن يقول في انتحاره المدوّي؟
لا يندرج انتحار علي الهق، في زمانه ومكانه وظروفه، ضمن حالات الانتحار التقليديّة المعروفة. لذا لا يمكن إلاّ أن نقرأ بين قطرات دمائه أكثر من رسالة مُرسَلة إلى أكثر من “مُرسَل إليه”:
الرسالة الأولى، تكفَّل بها الدليلان الحسِّيان اللذان تركهما علي قرب جسده الهامد، ليستبق أيّ تأويلٍ نمطي لانتحاره؛ لذا ترك “سجلّه العدلي النظيف” ليمحي على الفور التهمة الجاهزة التي تُلصَق بأهل بعلبك – الهرمل، وهم لا يزالون أجِنَّة في أحشاء أمهاتهنّ: الإتجار بالممنوعات، وبخاصّة المخدّرات. أمّا جملة “أنا مش كافر”، فهي موجَّهة حصْراً لمُعتمِري العمامات المُتاجِرة بالدين والتديُّن ووصفات التحليل والتحريم السريعة و”غبّ الطلب” ليقول لها: انتحاري هو لطلب الراحة لروحي وليس قتْلاً لهذه الروح.
الرسالة الثانية، أراد شهيد الهرمل ولبنان كلّه، أن يدوّي صراخ روحه في الفضاء المفتوح. لعلّ موته يثير ضجيجاً يمكِّن، بالدرجة الأولى، المراكز الرئاسيّة الثلاثة أن تسمعه. ويمكِّن بالدرجة الثانية، سائر “بيوت” السلطة وكازينوهاتها وخمّاراتها من الاستماع، أيضاً. هو كان يعرف جيّداً أنّ مَن يسوِّل له ضميره أن يرسل الشبّان إلى الموت المجاني في شوارع الشغب وزواريب الفتنة، لا يَخِز هذا الضمير أزيزُ رصاصتيْن. لكن، لعلّ وعسى وتحصل المعجزة.
الرسالة الثالثة، أراد علي تأليب الرأي العام على سوء حالنا. فهو يرى ويسمع ويشهد على مجتمعٍ لبناني، بات بمعظمه أصمّ وكفيفاً. مجتمع اعتاد، كما يبدو، “الفرجة” على مَشاهِد الصعود إلى الهاوية ومن ثمّ السقوط فيها. أراد علي بتفجير روحه أن يشرح للملأ بالدم والرصاص، لماذا أقدم على هذه الخطوة؟ فلم يقطع شرايينه في المنزل ولم يشرب السمّ ولم يرمِ بجسمه من بنايةٍ شاهقة ولم… ولم. بل ترك وراءه “شهقة يائس” في شارعٍ صاخب، كي توثِّقها الكاميرات وذاكرتنا.
أكثر ما يثير الرعب غداة انتحار علي الهق، هو أن يبكيه بعض اللبنانيّين وأن يألفوا ويتعوّدوا بعد ذلك… أن يتعوّدوا أن يدفنوا عليّاً تلو الآخر في الصباح، ويكملوا حياتهم المُرَّة على مرارتها حتى يحلَّ المساء
برأي علم النفس، فإنّ الانتحار العلني أمام الناس، يحمل من رسائل الاحتجاج والتحدّي أكثر ممّا يحمل من رسائل الخيبة واليأس والاستسلام. إذْ يريد المنتحِر هنا، المجاهرة بالدم ليقول إنّ المجتمع الذي بات عاجزاً عن حفظ أفراده وتنظيم شؤونهم بشكلٍ يجعلهم راغبين في مواصلة الحياة، إنّما هو مجتمع لا يستحقّ هذه الحياة. ومن ضمن المراد إرساله، كذلك، في هذا النوع من الانتحار، هو رسائل فيها شقٌّ عدواني انتقامي (للمنتحِر) لتحريك مشاعر الذنب داخل “الجمهور المتفرِّج”. أي كأنّ الذاهب إلى الموت يتّهم مَن يشهد على موته: “أنتم السبب في الحالة التي وصلتُ إليها”. وتتضمَّن هذه الطريقة في الانتحار نوعاً من التحريض على تكرار ارتكاب ذلك الفعل مجدَّداً. أي تحويل هذا الانتحار إلى ظاهرة. ظاهرة البوعزيزي. وبعد؟
لم نسمع صوتاً من كهوف السلطة يسأل: ماذا حدث؟ حتى الاستنكار والأسف فُقِدا مع دولارات الخزينة اللبنانيّة. بل، ربّما نسمع غداً مَن يتّهم علي الهق بمحاولة زعزعة السلم الأهلي والأمن الاجتماعي. وربّما يُتَّهَم بأنّ له ارتباطاتٍ مشبوهة مع العدو وزملائه، لذا حاول استباق فضْحِها فقتل نفسه. وربّما يُقال إنّه يحاول التخريب على العهد والحكومة والطبقة السياسيّة عن بكرة أبيها. أو ربّما هو مختلٌّ عقلياً. أو مُشوَّش نفسيّاً. وربّما…
“بَكوا في أوّل الأمر ثمّ ألِـفوا وتعوّدوا. إنّ الإنسان يعتاد كلَّ شيء. يا له من حقير!”. إنّه الاستنتاج المُرّ الذي خرج به الكاتب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي على لسان إحدى شخصيّات روايته “الجريمة والعقاب”. إذْ أكثر ما يثير الرعب غداة انتحار علي الهق، هو أن يبكيه بعض اللبنانيّين وأن يألفوا ويتعوّدوا بعد ذلك… أن يتعوّدوا أن يدفنوا عليّاً تلو الآخر في الصباح، ويكملوا حياتهم المُرَّة على مرارتها حتى يحلَّ المساء.
إقتضى الخوف والتخوّف و… البكاء دماً علينا وعلى علي.