الحرب الصهيونية الأولى على العالم

ثمة بشرٌ لا يعرفون ما هي غزة ولا أين يقع لبنان، ساروا في تظاهرات يصرخون في شوارع العواصم الأوروبية والأميركية: أوقفوا مذابح الأطفال، أوقفوا إبادة الشعب الفلسطيني. هذا الشعور بالمسؤولية عمّ نتاج الأدباء والشعراء والكتّاب والمفكرين، ولم يعد ممكناً لشاعر أن ينظم قصيدة ولا لكاتب أن ينظم فكرةً من خارج المسؤولية تجاه هذا الفضاء المأسوي.

باتت الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان حرباً عالمية، غيّرت الأحاسيس والمشاعر، وغيّرت الأفكار ونمط التفكير، وانعكس ذلك في نتاج أدبي فكري انخرط فيه ليس المفكرون والفلاسفة والإعلاميون وحدهم، بل انخرط فيه الفنانون أيضاً والرياضيون وأنصارهم في ملاعب المباريات الرياضية العالمية، في أكثر من عاصمة أوروبية، وبدأنا نرى ونسمع هذا التغيُّر يجتاح المجتمعات في الدول التي ما زالت فيها بقية من حرية التعبير، في الغرب وفي الشرق.

هذا على الصعيد الشعبي، أما على صعيد الحكومات الأجنبية والعربية والإسلامية فقد وقف معظمها في صف الحرب الصهيونية العالمية دعماً أو تأييداً، ما يُفسّر معنى القول الشائع بأنّ ثمة مسلمين صهاينة ومسيحيين صهاينة إلى جانب اليهود الصهاينة. ولا يطنّن أحدٌ بي سوءاً فهذا ليس تحريضاً على العنف والإرهاب، ولا حضّاً على الكراهية والبغضاء، ولا معاداة للسامية، وإنما نصرة للإنسانية، التي أذكر هنا، وباختصار شديد، بعضَ وقائع من تاريخها في الماضي والحاضر:

في سياق تطوّر البشرية، وفي الحقب التاريخية الكبرى، يتغيّر نمط الفكر وتتغير موضوعات التفكير تبعاً للعناصر والعوامل التي أحدثته وفرضته وفرضت الانتقال من حقبة إلى أخرى. يرى العلماء المشتغلون بتاريخ الأفكار أنّ تطور الفكر لا ينفصل عن العوامل الاقتصادية والأحداث السياسية، التي تصنع حقباً تاريخية مختلفة، أكتفي منها بالإشارة إلى تغير موضوعات التفكير وأنماطه في القرن العشرين، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية التي أسست لما يُسمّى “النظام العالمي” وامتداداته الحالية وأنتجت فكراً معادياً لحركة الاستعمار التي جرت على نطاق واسع في القرن التاسع عشر بنوع من التفاهم، في بادئ الأمر، بين الدول الاستعمارية الأوروبية بقيادة الإمبراطورية البريطانية، على اقتسام أفريقيا بكاملها ونهبها، واقتسام أميركا اللاتينية وآسيا بما فيها الهند والصين، ثم ما لبث هذا التفاهم أن انقلب إلى تخاصم، فخاضت الدول الاستعمارية فيما بينها حربين عالميتين بسبب صراعها على موارد المواد الأولية وعلى أسواق العالم، للاستمرار في تشغيل مصانعها وتصريف منتجاتها وسلعها، فلا تتوقف آلة الصناعة الرأسمالية في دول أوروبا التي علينا ألا ننسى في الوقت نفسه أنها تُسمّي نفسها دولاً ديمقراطية، فتجلب الديمقراطية ازدهاراً لشعوبها في الداخل، وناراً ودماراً لشعوب مستعمراتها في الخارج.

من “الباردة” إلى القطب الواحد

في حقبة الحرب الباردة ساد نتاج فكري وأدبي قرأناه وعشناه، نحن جيل ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وشاهدنا مناراته الكبرى في تحرير كوبا من الاستعمار الأميركي، وتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي وتحرير الهند من الاستعمار البريطاني وتحرير فيتنام من الاستعمار الفرنسي الأميركي، ولاحقاً تحرر جنوب أفريقيا من نظام الأبارتايد العنصري، وشاهدنا مناراته الكبرى أيضاً في كتابات فرانز فانون ومواقف غيفارا ومبادئ مؤتمر باندونغ (1955)، وشعارات حركات التحرر في بلدان كثيرة، ولم يبقَ من الاستعمار الاحتلالي سوى فلسطين التي تكالبت عليها جميع الدول الاستعمارية وما زالت منذ نصف قرن تقاوم من أجل التحرّر.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ساد فكر العولمة وهيمنة القطب الواحد ورُفِعت شعارات “العالم قرية صغيرة” و”المواطن العالمي” التي أدهشت المثقفين وآمنوا بها، خصوصاً في بلداننا، وشعار “نهاية التاريخ” الذي سرعان ما تبيّن زيفه وأغراضه الاستعمارية الجديدة التي بدأت بغزو العراق وتدمير المجتمعات العربية ذات الثقل الحضاري في المشرق العربي، وبخاصة في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين.

ترافقت هذه الهيمنة مع بزوغ حقبة تاريخية جديدة بولادة الذكاء الاصطناعي وتكنولوجياته المختلفة التي تبشّر بإنسانية جديدة وقيم جديدة وإنسان جديد، وتنبّأ بنتائجها الكارثية مفكرون مشاهير أمثال ألدوس هكسلي صاحب “الفلسفة الخالدة” (La philosophie éternelle) وجورج أورويل وروايته الخيالية (1984) وفيما بعد ميشال فوكو في عدد من مؤلفاته ولا سيّما في كتابه “راقب وعاقب” (Surveiller et punir) وحذّروا العالم من قدرتها على تسيير المجتمعات البشرية بما تمتلكه من إمكانات لفرض الرقابة عليها وبعث ما يسمّيه فوكو “العبودية الجديدة”.

عصر اقتصادي جديد!

ما هي مزايا وميزات فكر الحقبة التي نعيشها اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي؟

العوامل الاقتصادية والسياسية التي أنتجت هذا الفكر، تفاعلت واختمرت على مدى القرن التاسع عشر، قرن الصناعة والاستعمار. فعلى الرغم من ديموقراطية دول أوروبا الغربية التي أنتجتها فلسفات الأنوار السياسية، لم تكفّ عن مواصلة اضطهاد اليهود المتفشّي في الأوروبتين الشرقية والغربية. وكان من نتائج ذلك أن نشأ في كنف الوعد بتحرير اليهود من الاضطهاد الذي قدّمته لهم الثورة الفرنسية، مشروعُ الصهيونية اليهودية الذي ترافق مع عامل تاريخي آخر هو تبلور ملامح الانتقال إلى عصر اقتصادي جديد: عصر النظام الرأسمالي الصناعي والمالي بمراحله الثلاث المعروفة، الذي لعب فيه اليهود دوراً مركزياً حيث أنشأوا شبكة المصارف الحديثة، وذلك بشهادة المؤرخ الألماني فيرنر زونبارت Werner Sombart في كتابه “اليهود والحياة الاقتصادية” والمترجَم إلى الفرنسية سنة 1911 بعنوان (Les Juifs et la vie économique)، وبشهادة المفكر الفرنسي جاك أتالي في مؤلفه الضخم (600 صفحة) “اليهود والعالم والمال” (Les Juifs, le monde et l’argent) الذي يرسم تطور تاريخ اليهود المالي عبر العصور، مشيداً بدورهم في تأسيس نظام البنوك العالمي، و”فضلهم على العالم لأنهم قدّموا له أعظم نظام عرفته البشرية وهو النظام الرأسمالي” كما يقول أتالي. وقد أسهب عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر في شرح ذلك كله في كتابه المعروف “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” (L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme)، والقائمة تطول.

إقرأ على موقع 180  عن نظامنا اللبناني الذي لا مثيل له!

“ثمار” المشروع الصهيوني

وبالعودة إلى المشروع الصهيوني الذي تبلور في أواخر القرن التاسع عشر، في زمن كان فيه النشاط الاستعماري على أشدّه، نرى أنّ شعب الله المختار يحق له ما لا يحق لغيره، يُبيح لنفسه قيادة البشرية تبعاً لقوانينه التلمودية، وليس تبعاً لمبادئ الديانة اليهودية التي أوصى بها النبي موسى، فهو يبرر لنفسه مخالفة الأعراف الإنسانية، ويدوس القوانين الدولية، فيحتل ويقتل ويُهجّر ويُهدّد ويتهم العالم يمنةً ويسرةً بالعداء للسامية، ويُهين مؤسسات أممية ويقتل العاملين فيها ويشتم رؤساءها ورؤساء دول، من دون أن يجرؤ أحدٌ على اتهامه بالعداء للإنسانية.

كان لتوافق المشروع الصهيوني والمشروع الاستعماري للمنطقة العربية أن أعطى ثماره في مؤتمر لندن سنة 1907 الذي وضع الخطوط العريضة لتقسيم المنطقة العربية بعد قتل “الرجل المريض” وافتكاكها من قبضة السلطنة العثمانية. ذلك المؤتمر الذي أُخفِيَت وثائقه عمداً، قضى بزرع دولة يهودية حاجزة أو فاصلة (Etat tampon أو Buffer State) تفصل المشرق العربي عن المغرب العربي، وتفصل سوريا عن مصر للحيلولة دون تكرار توحيدهما الذي جرى أواسط القرن 19 على يد محمد علي باشا وابنه إبراهيم، والذي قضت عليه بريطانيا العظمى عندما دمّرت أسطول محمد علي وجيشه في معركة نافارين (1840). وبالفعل قُتِل الرجل المريض بعد ذلك بسبع سنوات، واحتلّت فلسطين وزُرِعت فيها عصاباتٌ صهيونية بدعم بريطاني، وقُسِمت المنطقة العربية منذ بداية الحرب العالمية الأولى إلى دول مستقل بعضها عن بعض ولكن غير مستقلة عن بريطانيا وفرنسا، ونُصِّب على هذه الدول حكّامٌ يتولّون قمع بل قتل كل من يناصر من مواطنيها، الحقَّ الفلسطيني (أيلول الأسود في الأردن، صبرا وشاتيلا في لبنان، محمود عباس في الضفة الغربية، وهلم جراً..).

استباحة شاملة

مرّ التحالف بين المشروعين الصهيوني والاستعماري بمراحل عدة واتّخذ وجوهاً مختلفة موّهت وجهه الحقيقي حتى بات أشبه بلغز، وبات الناس يتساءلون إسرائيل هي مشروع صهيوني احتلالي، أم هي مشروع استعماري غربي، أم هي مزيج من المشروعين؟ وازداد اللغز تعقيداً مع انتقال النظام الرأسمالي إلى المرحلة الرابعة التي يسميها علماء الاقتصاد اليوم بالثورة الرقمية وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

لم يعرف المشروع الصهيوني المتعاظم النمو، قوةً مثل القوة التي بات يمتلكها اليوم والتي تخوّله الوقوف في وجه العالم بأسره، عبر امبراطوريات الذكاء الاصطناعي المعروفة باسم GAFAM (غوغل، أمازون، فيسبوك، آبل، مايكروسوفت) التي تهيمن على كبريات الشركات الصناعية والتجارية والمالية في العالم (مصانع الأدوية والأسلحة والأغذية والروبوتات على أنواعها ووسائل الاتصال والتواصل الانترنت هواتف ذكية وكومبيوترات..) أي على جميع مفاصل الحياة الجديدة التي بات من لا ينخرط فيها يعيش كما لو أنه منبوذ أو على هامش الحياة.

بعدما امتلكت الصهيونية العالمية كل أسباب القوة التكنولوجية والمالية والإعلامية والدبلوماسية، وصار بإمكانها من دون أن يعارضها أحد، أن تستبيح كل الشرائع الإنسانية والدينية وتنتهك كل الأعراف والقوانين الدولية، وتضرب عرض الحائط بالمؤسسات الأممية فتهين رؤساءها وتهدد أعضاءها إلخ..

إسرائيل المقبلة!

هل يُمكن القول إنّ الحرب التي يشهدها العالم اليوم ويشارك فيها بأشكال مختلفة وعلى مستويات متفاوتة، هي حرب عالمية، لا أقول ثالثة، بل أقول بالنظر إلى مزاياها وخصائصها، الحرب الأولى التي تشنها الصهيونية على العالم، وقد انقسم حيالها بين شعوب تسعى إلى إنقاذ القيم الإنسانية ومقاومة السيطرة الصهيونية الشمولية، والساعية إلى تغيير طبيعة الإنسانية وتغيير قيمها، وبين حكومات ارتبطت مصالحها بمصالح الرأسمالية الصهيونية العالمية فصمتت أمام المشروع الصهيوني الرامي إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى في الشرق الأوسط وهو المشرق العربي الذي شطبوا اسمه من المعجم الدبلوماسي ومن الخرائط الجيوستراتيبجية، وهو المنطقة العربية الواحدة الموحدة المعروفة ببلاد الشام التي ـ منذ قيام الكيان ـ والدول الاستعمارية تُمعِن في تقسيمها، وتمنع توحيدها لتبيح لهذا الكيان وحده أن يوحّدها عبر التمدد فيها، من بوابة الحرب على غزة ولبنان والحرب المستأنَفة والمتواصلة على سوريا والعراق، لتقيم دولة قد تصبح الدولة الأقوى في العالم بالنظر إلى موقع المشرق العربي الاستراتيجي الفريد وثرواته الهائلة.

أليس الفلسطينيون هم طليعة هذه المقاومة العالمية؟ سؤال برسم الشعر والفكر.. والشعراء والمفكرين.

(*) هذه المقالة هي محاضرة ألقاها الكاتب في الأمسية الشعرية ـ الفكرية التي نظّمها في العاصمة الفرنسية، دعماً للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، في الثلاثين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي “منتدى شعراء المهجر” وجمعية “Urgence Liban” (“طوارئ لبنان”) التي أسهمت إسهاماً فعّالاً في تنظيم تظاهرات الشجب والتنديد بالحرب الصهيونية على فلسطين ولبنان.

Print Friendly, PDF & Email
حسين جواد قبيسي

كاتب لبناني مقيم في فرنسا

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  تعالوا نُنقذ الله من.. أتباعه!