هل هذا “وطنٌ” أفرضه عليك.. يا ولدي؟

جاء طفلي إليّ هذه السّنة، من المدرسة، برسومٍ لها علاقة بما نتعارف عليه هنا بمناسبة "عيد الاستقلال" في لبنان. والحقيقة هي أنّني لم أتلقّ الموضوع كما كنت أتلقّاه سابقاً وفي الغالب، خصوصاً في أعماق داخلي الباطنيّة. لماذا؟

بكلّ أمانة، إنّ ما عشته شخصيّاً في هذا البلد خلال السّنتَين الأخيرَتين تحديداً، إلى جانب عدد كبير من “المواطنين” الآخرين ممّن شعروا بما شعرت به: جعلني أسأل ابنيَ في باطن نفسي، وأنا الذي مكثتُ جزءاً كبيراً من حياتي قبل ولادته خارج هذه البقعة الجغرافيّة التي أُريد لها أن تحمل “دولة”.. أيّ “وطن” هذا الذي نربّيك عليه – وفيه – يا ولدي؟ هل نحمل ذنباً من خلال تربيتكم على حبّ “دولٍ” كهذه، وفي المنطقة كلّها؟ أيّ “دولٍ” هذه.. التي نريد ايهامكم بوجودها وبحبّها يا ولدي؟

هذا ما شعرت به هذا العامّ، وبكلّ صراحة وصدق: بشكل أو بآخر، شعرت بأنّني أشارك في ايهام ولدي بوجود وطن حقيقيّ له هنا. والأفظع هو شعوري باضطّراري لإقناعه بأنّ في هذا الوطن.. “دولة”، وهي دولته. هل هذا الوطن لنا ولأولادنا؟ هل هذه الدّولة المفترضة لنا يا ولدي؟

حقّاً، ما فتئت أسأل نفسي: هل هذه “أوطان” نورث حبّها لأبنائنا، ونحمل هذا الذّنب؟ هل هذه “أوطاننا” و”دولنا” يا ولدي؟

***

تابع معي، من زاويتي الشّخصيّة، والتي تُشبه مع ذلك – في المضمون – زوايا مختلفة في هذا البلد رغم تنوّع زوايا تجاربنا ووجهات نظرنا: منذ سنتَين إذن، ومنذ انخراط قيادة المكوّن الذي وُلدت ضمنه – منذ انخراطها وحلفاءها – في حرب “اسناد غزّة”، وأنا ومحيطي نسمع شتّى أنواع التّهكّم والتّنمّر والتّهجّم والاهانة.. من قبل عدد كبير من جيراننا ومن إخواننا المفترضين ضمن هذه البقعة الجغرافيّة.

من هذه الزّاوية الخاصّة إذن: لقد صار اسناد قياداتنا لمظلوميّة غزّة وأهلها ولمظلوميّة فلسطين وأهلها – المتّخذ كموقف مبدئيّ وأخلاقيّ أقلّه – مع تخاذل أغلب الأمّة ومع سبات أغلب قادتها وشعوبها.. لقد صار اسناد قياداتنا لغزّة ولفلسطين إذن دون أغلب قيادات الأمّة الاسلاميّة، ومواجهتهم للخيار الإسرائيليّ في المنطقة بشكل عامّ: تُهمةً ندفع ثمنها كأفراد وكجماعة إلى حدّ كبير، هذا مع تذكّرنا بأنّ عدداً كبيراً من هذه القيادات المذكورة قد دفع حياتَه هُوَ ثمناً لهذا الخيار أو لهذا النّوع من الخيارات (والذي يُفترض أن يكون النّوع من الخيارات الذي تتّبناه أغلب قيادات العالمَين العربيّ والاسلاميّ كما أشرت).

ألم نخسرْ عدداً مَهولاً ربّما من خيرة شبابنا ورجالنا ونسائنا؟ ألم يُهجَّر عددٌ كبيرٌ من أهلنا؟ ألم تُدمّر بيوت عدد كبير منّا؟ ومع هذا كلّه، وفوق تخاذل أغلب الأمّة، فإنّ بعض النّخب والجماعات قد اتّخذت من تقريعنا كجماعة، ومن اهانتنا، ومن اهانة رموزنا، ومن اهانة قادتنا، ومن اهانة تاريخنا، ومن إهانة علمائنا، ومن اهانة ثقافتنا.. شغلها الشّاغل.

نعم، لقد أصبح الشّغل الشّاغل لبعض قادة مكوّنات هذا البلد، هو التّصويب على جماعة بعينها اليوم، والقول لها ظاهراً أو باطناً:

  • أنتِ متخلّفة في الغالب (لماذا؟ في المضمون: لأنّك تريدين مقارعة الاستعمار الغربيّ، ومن يُقارع الاستعمار الغربيّ أيّها الجاهلون المتخلّفون؟)؛
  • أنتِ يتيمة الآن، لأنّ الاستعمار و”إسرائيل” سيُكملان قتل قادتك، وربّما يصلون إلى قتل أئمّتك وأوليائك الكبار المعاصرين، وصولاً إلى العراق وإيران؛
  • أنتِ هُزمتِ واقعاً، لأنّ قادتك قد فعلوا فعلةً شنعاء: لقد دخلوا في “حرب الاسناد”.. فتلقّوا الضّربة تلو الضّربة من قبل القوى الاستعماريّة العظمى. وبالتّالي، عليكِ أن تدفعي الثّمن: اقتصاديّاً، واجتماعيّاً، وسياسيّاً، وسيكولوجيّاً.. وربّما ديموغرافيّاً؛
  • أنتِ اليومَ أمام خيارين لا ثالثَ لهما: فإمّا أن تستسلمي وتُذلّي؛ وإمّا أن تُقَتَّلي وتُسبَي وتُنهب أرضك وأموالك.. من قبل “إسرائيل” والقوى الغربيّة.

هكذا يتوجّه إلينا اليوم، مع الاختصار، عدد ممّن يُفترض أنّهم اخوان لنا في هذا الوطن، أو في هذه الدّولة – والدّول – المفترضة. مع هؤلاء ومع أمثالهم من جميع الملل والطّوائف والإثنيّات.. ينبغي لنا أن نبنيَ “أوطاناً” و”دولاً”؟ مع هؤلاء؟

***

لكن، ماذا عن حكّامنا اليوم، لا سيّما في لبنان؟

بعض أركان النّظام اللّبنانيّ الحاليّ، يُموّهون خطابهم أو يلطّفونه واقعاً، من دون الخروج عن معالمه الأساسيّة للأسف:

  • فواحدهم اليوم، مع كلّ الاحترام له، يُذكّر “أحدَهم” بأنّ البعض لم يرَ ماذا حصل في الإقليم. يقول: على “البعض” أن يرى جيّداً ماذا حصل في الإقليم. وما الذي حصل في الإقليم؟ حصل في الإقليم، واقعاً، أنّ “إسرائيل” قد قامت بحرب إبادة تاريخيّة في غزّة. المتقدّم الفعليّ الوحيد في الإقليم، سيّدي، هو بنيامين نتنياهو ومشروعه. فما هو الذي لم نفهَمه واقعاً من متغيّرات الإقليم؟ أَوَنقبلُ الذّلّة لأنّ نتنياهو قد تقدّم في الإقليم في هذه المرحلة؟ أَوَنغيّرُ رؤيتنا المبدئيّة تجاه الصّراع مع هذا الكيان ومع من يريد استعمارنا واذلالنا.. لأنّ نتنياهو تقدّم في الإقليم؟ هل هذا منطقٌ سليمٌ تُخاطَب به جماعةٌ – ولو بشكل مبطّن – قدّمت وتقدّم الأغلى في سبيل الدّفاع عن مصالح هذه المنطقة وأهل هذه المنطقة.. في وجه كيان كهذا الكيان، ومشروع كهذا المشروع؟
  • أمّا الآخر منهما، والذي نحترم ونجلّ أيضاً، فقد قرّر، بالتّزامن مع رفع شعار “بني أميّة” في الشّام ضدّ نفس الجماعة واقعاً لا ضدّ “إسرائيل” ولا ضدّ الاستعمار ولا ضدّ أيّ طرف آخر.. لقد قرّر أن يرفع شعار “حصريّة السّلاح”. حصريّة السّلاح بيد من؟ بيد.. “الدّولة”. دولة لويس الرّابع عشر سيّدي، ودولة آبائه من البوربون والفاليّين والفرنجة أجمَعين؟ أم دولة العرش البريطانيّ العظيم؟ أو، حتّى شبه دولة شارلمان؟ أو دولة الآباء المؤسّسين في أميركا؟ أو حتّى ما يمكن اعتباره دولة معاوية بن أبي سفيان وآل أميّة ومروان وعبد شمس أجمَعين؟ أم أنّنا نقصد دولة ابن أبي الهيجاء الحمدانيّ، سيف الدّولة المسنون على المُعتَدين؟
إقرأ على موقع 180  بن مناحيم: "ضوء أخضر" روسي للتصعيد الإسرائيلي سورياً!

هل هي دولة الشّاه العظيم؟ أم دولة الباب العثمانيّ العالي المُبين؟

لا.. نحن نتحدّث هنا عن “دولة” لبنان المُفلسة، والفاشلة، والعاجزة عن القيام بالحدّ الأدنى من واجباتها معنا كمواطنين. بالله عليك يا دولة الرّئيس، هل تستطيع هذه الدّولة أن تُفرج عن ودائعنا؛ أن تساعدنا في أقساط مدارس أولادنا، أو في تأمين حدّ أدنى مقبول من خدمة الكهرباء، ومن خدمة المياه.. أو الحدّ الأدنى من العدالة التّوظيفيّة عدا عن الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعيّة، بل الحدّ الأدنى من انتظام السّير على الطّرقات.. لكي تكون – مفاهيميّاً وواقعيّاً وأخلاقيّاً – في موقع تُطالب من خلاله بواجب تسليمها سلاحنا الذي حمَينا به كراماتنا وحرّرنا به أرضنا؟ في أيّ عالمٍ واقعيّ أو خياليّ.. موجودة “دولتنا” هذه، بكلّ صراحة ومحبّة؟

بكلّ محبّة وبكلّ احترام نقول لكم: إنّ رفع هذا الشّعار وتكراره، مع وجود “دولة” كهذه، يُفهم أكثر فأكثر على أنّه تنمّر وتهكّم على جماعة بعينها.. والله شاهد على صدقنا معكم.

***

هكذا نُخاطَبُ اليومَ يا ولدي، نحنُ وغيرُنا في المنطقة.. في هذه الأوطان أو ضمن هذه الدّول (المُفترَضة في الغالب). وقد شعر آخرون في السّابق، بلا شكّ، بما نشعر به اليوم.. وسيشعر بذلك آخرون وآخرون.

هكذا يُخاطبُنا عددٌ كبيرٌ من “إخواننا” المفترضين، وهكذا يُخاطبُنا بعض أركان “دولنا”.. نحن وآخرون إذن، في لبنان وفي أماكن أخرى. لن نستسلم لذلك كلّه طبعاً، مهما كان الثّمن، لأنّنا على ما سوف تعلم به تدريجيّاً.. من ايمان، ومن يقين، ومن توكّل، ومن عزّة بالله لا بغيره، ومن بيعٍ للحياةِ الدّنيا وأهلها وطواغيتها وزخرفها، ومن شراءٍ – نقدٍ غير مؤجّلٍ إذا لزم الأمر – للحياة الآخرة وأهلها ومقاماتها.

والقصّة، على الأرجح، ستسمرّ وستتكرّر معنا ومع غيرنا، في المستقبَلَين القريب والبعيد.

فهل أقترفُ ذنباً يا ولدي، من خلال اقناعك منذ صغرك بهذه الأوهام.. وأنا أعرف حقّ اليقين أنّك لا تنتمي حقّاً وفعلاً، ولن تنتَمي على الأرجح في هذه الأرض، ولو أردت غير ذلك.. إلّا إلى عائلتك وعشيرتك أوّلاً، ثمّ إلى أهل مذهبك وملّة أبيك وآبائه الأوّلين؟ أمّا الانتماء الوطنيّ، فلم يزل – في غالبه – مجرّد طيف خيال ومجرّد شعار دوغمائيّ.. قد تؤذيك المبالغة في الاقتناع بواقعيّته. اسمع من أبيك، ولا تسمع من بعض المنظّرين. عندما تقع الواقعة لا سمح الله، فلن تجد حولك في الأغلب.. إلّا من هم أهلك الواقعيّون لا المتخيّلون.. ولو شئت غير ذلك كما قلت لك.

أمام هذا الواقع، الخيارات الشّخصيّة غير المسيّسة المُمكنة لي أو لغيري، معروفة ومألوفة في هذه البلاد.. من عيش على الهامش، أو من تقيّة، أو من رياء، أو من سفر عظيم.

أمّا الخيارات الجماعيّة، كما أشرت سابقاً، فيتوجّب تقييمها ودراستها بشكل أعمق في هذه المرحلة. ذلك أنّ هذه الدّول التي اصطنعها الاستعمارُ وأهلُه، بشكلها الحاليّ أقلّه، قد تكون في مضمونها: عبارةً عن محارق جماعيّة.. هدفها حرق أنفسنا وحرق عقولنا وحرق انسانيّتنا.

على نخب مكوّناتنا جميعها في المنطقة، وعلى قادتها، التّحرّك سريعاً.. قبل أن يشتدّ عمق الحروق فينا كلّنا..

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  التنقيب عن الغاز اللبناني يتعثّر في البلوك 4