الاستراتيجيّات الأميركيّة بين النّص والواقع.. من وثيقة ترامب إلى تحوّلات الأمن القوميّ

لا نظرة واحدة للوثيقة الاستراتيجيّة للأمن القوميّ التي خرجت بها إدارة دونالد ترامب في الأسبوع الماضي. بعضهم اعتبرها إعلانًا صريحًا عن انتقال الولايات المتّحدة إلى نهجٍ أكثر قوميّةً وانكفاءً تحت شعار "أميركا أولًا"، في المقابل، رأى آخرون أنّ ما جاء فيها لا يعدو أنْ يكون إعادة صياغةٍ لأهدافٍ أعمق ظلّت حاضرةً في الاستراتيجيّات السّابقة، مع اختلافٍ في اللّغة أكثر من الاختلاف في جوهر المصالح.

بين هذين المنظورين يبرز سؤالٌ يتجاوز وثيقة ترامب نفسها: إلى أي مدى تلتزم الولايات المتّحدة فعلًا بما تضعه في وثائقها الاستراتيجيّة، قديمِها وحديثِها؟

تبدأ الإجابة من طبيعة هذه الوثائق نفسها. فـ”استراتيجيّة الأمن القوميّ” (National Security Strategy) الصّادرة عن البيت الأبيض، (أو حتى “استراتيجيّة الدّفاع القوميّ”(National Defense Strategy) الصّادرة عن وزارة الدّفاع)، ليست قانونًا مُلْزِمَاً بقدر ما هي بيان نوايا وتوجّهاتٍ عامّة. من جهة، تُسْتَخدَمُ الوثيقة لتوجيه الوزارات والأجهزة عند وضع الخطط والميزانيّات، كما تُسْتَثْمَرُ سياسيًّا في طمأنة الحلفاء أو ردع الخصوم. وهي، من جهةٍ أخرى، تبقى قابلةً للتّعديل والتّأويل، بل والتّجاوز، عندما تتغيّر الظّروف أو تتبدّل أولويّات الإدارة الحاكمة.

وعلى الرّغم من تعاقب الإدارات واختلاف الأحزاب، تظهر درجةٌ من الاستمراريّة في جوهر المصالح التي تُعبّر عنها هذه الوثائق. فالحفاظ على التّفوّق العسكريّ، وضمان حرّية الملاحة والتّجارة العالميّة، ومنع ظهور قوّةٍ معاديةٍ مهيمنةٍ في أوروبا أو شرق آسيا، ودعم أمن إسرائيل، كلّها ثوابت تتكرّر في معظم الاستراتيجيّات تقريبًا. في المقابل، تتبدّل بؤرة التّركيز، مرّةً يكون الإرهاب هو الخطر الأكبر، ومرةً تُرْفَعُ الصّين إلى مرتبة “التّحدي الرّئيس”، ومرةً تُعَادُ روسيا إلى الواجهة بوصفها تهديدًا حادًّا، بينما يتراجع الشّرق الأوسط أو يعود إلى الصدارة تبعًا لأزماته.

تبدو الوثائق الاستراتيجيّة الأميركيّة أقرب إلى بوصلةٍ تحدّد الاتّجاه العام منها إلى عقدٍ جامدٍ يفرض مسارًا صارماً في اتجاه واحد. فهي تكشف طريقة تفكير النّخبة الحاكمة، وتؤثّر في توزيع الموارد وبناء القدرات والتّحالفات، لكنها لا تُتَرْجَمُ دائمًا إلى التزامٍ حرفيٍّ على أرض الواقع. لذلك يُسْتَحْسَنُ قراءة هذه الوثائق، بما فيها وثيقة ترامب، بوصفها تعبيرًا عن نوايا واتّجاهات غالبًا ما تتحقّق جزئيًّا، وتتقاطع مع بنيةٍ أعمق من المصالح والمؤسّسات والظّروف الدّوليّة التي تصوغ في النهاية سلوك الولايات المتّحدة كقوةٍ عظمى

تتّضح المسافة بين النّص والتطبيق أكثر عندما يُنْظَرُ إلى أمثلةٍ تاريخيّةٍ محدّدة. فاستراتيجية الأمن القومي لعام 2002 في عهد جورج بوش الابن، على سبيل المثال، تبنّت صراحةً مبدأ “الضّربات الاستباقيّة” لمواجهة التّهديدات قبل أن تتحوّل إلى خطرٍ داهم، وربطت ذلك بمكافحة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدّمار الشّامل. وقد تجلّى هذا المبدأ عمليًّا في غزو العراق عام 2003، حيث قُدِّمَ الهجوم بوصفه حربًا وقائيّة. غير أنّ التّطبيق جاء انتقائيًّا؛ إذ لم تُطبَّق الصّيغة نفسها تجاه دولٍ أخرى مثل كوريا الشّماليّة، برغم امتلاكها برنامجًا نوويًّا أكثر وضوحًا، كما أنّ الكلفة البشريّة والسّياسيّة للحرب دفعت، مع مرور الوقت، إلى تراجع الحماسة الأميركية لفكرة الضّربات الاستباقيّة نفسها.

ثم جاءت إدارة باراك أوباما لتطرح فكرة “التّحوّل نحو آسيا”، أي نقل الثّقل الاستراتيجيّ الأميركيّ تدريجيًّا نحو منطقة آسيا–المحيط الهادئ لمواجهة صعود الصّين، بالتّوازي مع تقليل الانخراط في حروب الشّرق الأوسط. وعلى مستوى الخطاب، بدت الرّؤية واضحةً، آسيا هي مسرح المنافسة المقبل، والشّرق الأوسط يجب ألّا يبقى مُسْتَنْزِفًا للموارد. ومع ذلك، عرقلت الوقائع هذا التّحوّل؛ فاستمرار الوجود العسكريّ في العراق وأفغانستان، ثم صعود تنظيم “داعش”، أعادا المنطقة إلى مركز الاهتمام الأمنيّ، كما أنّ الأزمة الأوكرانيّة منذ عام 2014 استنزفت جزءًا من الانتباه والموارد باتّجاه أوروبا. وهكذا، تحقّق “التّحوّل” جزئيًّا في مستوى التّحالفات والوجود البحريّ في آسيا، لكنه لم يبلغ الحجم الذي عكسته النّصوص الاستراتيجيّة.

ضمن هذا السّياق العام ظهرت وثيقة ترامب عام 2017، التي أعلنت دخول العالم مرحلة “منافسةٍ بين القوى العظمى”، وحدّدت الصّين وروسيا كمنافسين رئيسيّين، ووجّهت انتقاداتٍ حادّةً للحلفاء، وبخاصة الأوروبيّين، بسبب تدنّي إنفاقهم الدّفاعيّ. ترافق ذلك مع خطابٍ سياسيٍ يشكّك في جدوى حلف شمال الأطلسيّ (الناتو)، ويُهدّد ضمنًا بتخفيف الالتزامات الأميركيّة. ومع ذلك، لم تخرج الولايات المتّحدة من “النّاتو”، بل ظل الحلف قائمًا بآلياته وبناه الأساسيّة، واستمرّ التّعاون العسكريّ والاستخباراتيّ مع أوروبا. بهذا المعنى، عبّرت الوثيقة عن رغبةٍ في إعادة توزيع الأعباء وترجيح كفّة “أميركا أولًا”، أكثر مما عبّرت عن نيّة تفكيك التّحالفات ذاتها.

لاحقًا، جاءت إدارة جو بايدن لتعيد صياغة الأولويّات في وثيقة الأمن القوميّ لعام 2022، فرفعت الصّين إلى مرتبة “التّحدي الأهمّ على المدى الطّويل”، ووصفت روسيا بأنّها “تهديدٌ حادٌّ”، مؤكّدةً في الوقت ذاته على تجديد الالتزام بحلف “النّاتو”، وعلى التّركيز على منطقة المحيطين الهنديّ والهادئ، مع تقليل الاعتماد على التدخّلات العسكريّة البرّيّة الواسعة. غير أنّ اندلاع الحرب في أوكرانيا (2022) فرض واقعًا مختلفًا؛ إذ اضطرت واشنطن إلى تخصيص موارد سياسيّةٍ وماليّةٍ وعسكريّةٍ كبيرةٍ لدعم كييف وتعزيز الجناح الشّرقيّ للنّاتو، في حين لم تختفِ التّحديّات في الشّرق الأوسط بشكلٍ كامل. مرةً أخرى، تعمل الأحداث الكبرى على إعادة ترتيب جدول الأعمال الفعليّ، حتى لو ظلّت الوثيقة الرّسميّة على حالها.

إقرأ على موقع 180  عالمٌ بلا زعامة حقيقية.. وبشريةٌ مصابةٌ بشيخوخة مُبكّرة!

هنا يصبح من الضّروري فهم العوامل التي تجعل الالتزام بالاستراتيجيّات نسبيًّا لا مطلقًا. أوّل هذه العوامل هو تغيّر الإدارات نفسها؛ فكل رئيسٍ يأتي برؤيةٍ وفريقٍ مختلفَيْن، وغالبًا ما يسعى إلى التّمايز عن سلفه، فيعدّل أولويّات السّياسة الخارجيّة حتى وإن استمرت المصالح الكبرى ذاتها. وثانيها دور الكونغرس والرأي العامّ، إذ يبقى الكونغرس صاحب الكلمة الأخيرة في إقرار الميزانيّات والاتفاقيّات، ويمكن للمعارضة الدّاخلية أو للرفض الشّعبي أنْ يعرقل مغامراتٍ عسكريّةً أو خطط إنفاقٍ واسعة، مهما وردت في الاستراتيجيّة المكتوبة. وثالثها الأزمات غير المتوقّعة، كالهجمات الإرهابيّة والأزمات الماليّة والجوائح والحروب، التي تعيد توجيه بوصلة القرار بشكلٍ سريعٍ أحيانًا. أما العامل الرّابع فيتعلّق بردود فعل الحلفاء والخصوم، فاستراتيجيّةٌ ما قد تفترض انسحابًا أو ضغطًا معيّنًا، لكن تفاعلات الدّول الأخرى، واستعدادها للملء أو لمقاومة الفراغ، قد تُجْبِرُ واشنطن على إعادة الحسابات.

في النّهاية، تبدو الوثائق الاستراتيجيّة الأميركيّة أقرب إلى بوصلةٍ تحدّد الاتّجاه العام منها إلى عقدٍ جامدٍ يفرض مسارًا صارماً في اتجاه واحد. فهي تكشف طريقة تفكير النّخبة الحاكمة، وتؤثّر في توزيع الموارد وبناء القدرات والتّحالفات، لكنها لا تُتَرْجَمُ دائمًا إلى التزامٍ حرفيٍّ على أرض الواقع. لذلك يُسْتَحْسَنُ قراءة هذه الوثائق، بما فيها وثيقة ترامب، بوصفها تعبيرًا عن نوايا واتّجاهات غالبًا ما تتحقّق جزئيًّا، وتتقاطع مع بنيةٍ أعمق من المصالح والمؤسّسات والظّروف الدّوليّة التي تصوغ في النهاية سلوك الولايات المتّحدة كقوةٍ عظمى.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  مستر بايدن.. هل تسمعني؟