- الشعب هو أفضل حلفائك أيها الأمير، فإن كرهك شعبك فسينقلب عليك النبلاء والحاشية.
- من الأفضل أن يهابَك الجميع، فاستخدام العنف يُنجِح سلطتك!
- تزعّم جيرانك الضعفاء ودافع عنهم، واعمل على إضعاف جيرانك الأقوياء.
- الغاية تبرّر الوسيلة!
عامةً، يظنّ السياسيون في بلادنا العربية وفي غير بلد، أنّ مرشدهم الأول والأهمّ هو كتاب “الأمير” لمكيافيلّي، وقد أوردتُ أعلاه بعضاً من تعاليمه وقواعده، ومن أهمّها، من وجهة نظرهم، “الغاية تبرّر الوسيلة”! فيقومون بالسعي لتحقيق مصالح وأهداف لهم، تتعارض في أحايين كثيرة مع الأخلاق (بـِ الـ التعريف).
بين السياسة والأخلاق علاقات متداخلة، فمن المُفتَرَض بالسياسة الاهتمام بالحكم وتنظيم شؤون المجتمع وتحقيق الصالح العام، بينما تهتمّ الأخلاق بمبادئ السلوك الصحيح ومعايير الصواب والخطأ فيه. لكنْ، هل من الممكن تنظيم المجتمع وإدارته بإهمال أخلاقه؟
يُنظّر كثرٌ من السياسيين علينا، نحن أبناء المجتمع المدني، المتمسّكين بالمبادئ الأخلاقية في حياتنا، وبخاصةً منها الصدق، وحالنا هذه كالقابض على الجمر، كي يُفهِمونا بأننا لا نفقه شيئاً في السياسة، كوننا نُقدّم تلك المبادئ، وأهمّها الصدق مع الذات ومع الآخرين، على المناورات السياسية التكتيكية التي يستخدمها هؤلاء لتحقيق السلطة وحيازة المناصب، كهدف غائي لهم، في الغالب الأعمّ. لكنّ السياسة، وهي فن الممكن، تتطلّب الالتزام بالمبادئ الأخلاقية وبالقيم الإنسانية السامية لضمان التوازن في المجتمع، ولتحقيق العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، ولكسب احترام الناس، الخصوم منهم قبل الأصدقاء. ومن المفيد والضروري للسياسيين التوفيق بين الصالح العام للناس ومتطلّبات القيم الإنسانية والأخلاقية، وإلّا فهم سيودون بالمجتمع إلى التهلُكة.
وقد عبّر عن ذلك، أمير الشعراء، أحمد شوقي، قائلاً:
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ / فإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم، ذهبوا
صلاحُ أمرِكَ للأخلاق مرجعُه / فقوِّمِ النَفْسَ بالأخلاقِ تَستَقِمِ
فأن يكون السياسي صادقاً في تعامله مع الناس، وأن يتجنّب تضليلهم، وأن يتجنّب كذلك لعبة “الكشاتبين”، الشهيرة عند السياسي المناوِر، فهذا سيُعزّز ثقة الناس به، وسيجعله ملجأ لهم عند الحاجة، كما سيعطيهم الأمل بأنّ الأفضل والأصلح قادم بالتأكيد.
احترام المبادئ الأخلاقية في السياسة، وبخاصة الصدق مع الناس ومع الذات، هي دعوة لبناء بيئة سياسية شفافة ونزيهة ومستقرّة. الصدق، لا يُعدّ فقط قيمة أخلاقية، بل ضرورة سياسية، فالمجتمعات الناضجة هي التي تستند إلى مبادئ الصدق والنزاهة. فالسياسة المُعتمِدة على الصدق هي سياسة تعزّز التفاهم المتبادل، وتقود إلى حلول مستدامة للتحدّيات التي تواجهنا اليوم
أن يكون السياسي صادقاً مع ذاته، وأن يتّخذ من الالتزام الأخلاقي والمبدئية في حياته مساراً لا يحيد عنه، فهذا يعني أنه يسعى لأن تكون قراراته وأفعاله متوافقة مع قيمه الأخلاقية، وألّا يتنازل عن هذه المبادئ لأجل مصالحه الشخصية أو تنفيذاً لضغوط من هنا وهناك، ممّن حوله: فيُقال عنه “إنه جيد، لكنّ هؤلاء مِن حولِه يضغطون عليه”! وهو في هذه الحال لن يتّخذ قرارات قائمة على مبادئ العدالة والمساواة والنزاهة ليحمي نفسه من الفساد والانتهازية: فلا يظنّن أحد بأنّ الفساد هو مادي فقط، بل إنّ ترجيح كفّة الأصدقاء، في العمل العام، على كفّة باقي الناس، والأهم من ذلك، على كفّة الصالح العام، هو فساد في الأرض أيضاً!
يُعتبَر الصدق أساسياً في بناء بيئة سياسية مستقرّة. وحين يلتزم السياسي به فهو يساهم في خلق مناخ من الاحترام المتبادل بينه وبين الناس، ما ينعكس إيجاباً على الاستقرار السياسي والاجتماعي. وفي المقابل، حينما يتمّ التعامل مع الناس بأسلوب لا صدق فيه، تظهر الأزمات والتحدّيات التي تؤدّي إلى فقدان الثقة والاحترام وإلى ارتفاع درجة الاستياء من هذا السياسي، حتى لو قرّر اتخاذ الصمم درباً له في حياته العامة، إذ إنه يكون قد خسر نفسه بالتأكيد.
يستطيع السياسي الصادق مواجهة التحدّيات، إذ يكتسب دعماً من الناس الذين يقدّرون النزاهة والصدق في سلوكه. ومن خلال الالتزام بالصدق مع الناس ومع الذات، لا يقوم السياسي فقط بتطوير بيئة سياسية نزيهة، بل يُرسّخ نموذجاً للأجيال القادمة. فالشبيبة التي تشهد ممارسات سياسية قائمة على الأخلاق والصدق، ستحمل معها هذه القيم إلى المستقبل، ما يساهم في بناء مجتمع أكثر تماسكاً وعدالة.
ومن تجربة شخصية، أستطيع التأكيد بأني خرجتُ من بيت سياسي، كان ديدن والدي فيه الصدق مع ذاته ومع الآخرين، خصوماً كانوا أم أصدقاء. تعلّمتُ منهُ أن أحترم الصادق وأن أبتعد “سفَرَ سنة ضوئية” عن الكاذب والمناوِر والمُداوِر، الذي يسمّونه خطأ بالسياسي، حتى لو كان مشهوداً له بمواقف إنسانية جيدة! فالكذب والتكاذب سلسلة من الحلقات لا تنتهي، كما أن تبريرها يتراكم، حتى يصبح “كبكوبة” من العُقَد المشتبكة، بعضها ببعضها الآخر، يعمل عليها هذا السياسي، وكلّما نفّذ عقدة، ظنّاً منه أنه يتذاكى على الآخرين، فهو يفقد من رصيد احترامه من الناس، إلى أن يجد نفسه يوماً وقد جرّده الناس من الاحترام، وقد تعرّى تماماً أمامهم، فحبلُ الكذب قصير!
في بيتنا، تربّيتُ على جملة ذهبية، وهي:
“لا تقولوا إلا ما تستطيعون فعله، إلى أن يأتي يوم تستطيعون فعل كل ما تقولونه”!
قيل لي مؤخّراً:
“السياسة تتلخّص في الصراعات، ومن لا يُصارع ليس سياسياً، وعليه ألّا يفكّر، أصلاً، بالعمل في السياسة”!
ضحكتُ في سِرّي، حينئذٍ، من هذه الجملة، ومن مدّعي العمل السياسي بهذه المقاييس، لأنهم قد فهموا السياسة عكسَ ما هو مطلوب منها!
أخيراً أقول، إنّ احترام المبادئ الأخلاقية في السياسة، وبخاصة الصدق مع الناس ومع الذات، هي دعوة لبناء بيئة سياسية شفافة ونزيهة ومستقرّة. الصدق، لا يُعدّ فقط قيمة أخلاقية، بل ضرورة سياسية، فالمجتمعات الناضجة هي التي تستند إلى مبادئ الصدق والنزاهة. فالسياسة المُعتمِدة على الصدق هي سياسة تعزّز التفاهم المتبادل، وتقود إلى حلول مستدامة للتحدّيات التي تواجهنا اليوم.
