هل يحسم العام 2026 الصراع بين إسرائيل وإيران؟

تعد منطقة الشرق الأوسط في هذه الآونة مسرحاً لواحد من أخطر فصول الترقب العسكري والسياسي في التاريخ الحديث، حيث تتداخل لغة الأرقام الفلكية مع طموحات البقاء السياسي لترسم ملامح مواجهة قد تغير وجه الإقليم في العام 2026، فالمؤشرات القادمة من تل أبيب وطهران لا تتحدث فقط عن مناورات روتينية، بل تشير إلى استنفاد كافة الخيارات الدبلوماسية والبدء في وضع اللمسات الأخيرة لصدام يبدو أنه بات حتمياً في نظر صنّاع القرار.

وفي هذا السياق، لا تبدو ساعة الصفر المنتظرة في فلوريدا مجرد محطة بروتوكولية في جدول السياسة الدولية، بل هي لحظة مفصلية في إدارة الصراع مع إيران بعد الضربات التي وقعت فعلياً في حزيران/يونيو 2025، فاللقاء المرتقب بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في منتجع مارالاغو يتجاوز إطار التنسيق الثنائي، ليحمل في طياته مؤشرات على إعادة تشكيل المشهد الإقليمي برمته، حيث يعاد تحديد المواقع والوظائف السياسية والأمنية لدول المنطقة، وفي قلبها لبنان، بمعزل عن إرادة دولته ومصلحة شعبه وكأن قدر هذه الجغرافيا أن تظل ساحة لاختبار القوة ومركزا لتصفية الحسابات الكبرى.

لقد كانت حرب حزيران/يونيو 2025 والمعروفة بحرب الـ 12 يوما، نقطة تحول جوهرية في فهم طبيعة الصراع، فبرغم الأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية العسكرية الإيرانية واستهداف منشآت حيوية في نطنز وفوردو وأصفهان، إلا أن المفاجأة الحقيقية تكمن في سرعة التعافي الإيراني التي فاقت كل التوقعات الاستخباراتية، فإيران التي دخلت تلك الحرب بترسانة ضخمة وفقدت جزءاً كبيراً منها، استطاعت خلال ستة أشهر فقط أن تعيد بناء مخزونها ليعود إلى مستويات ما قبل المواجهة حيث تقدر التقارير الحالية وجود ما بين 2000 و3000 صاروخ باليستي جاهز للإطلاق، هذا التعافي لم يكن مجرد استبدال للكم، بل كان تطويراً للنوع والأسلوب، إذ تلمح طهران حالياً إلى استراتيجية “الإشباع الدفاعي”، وهي تعني إطلاق نحو 2000 صاروخ في وقت واحد لكسر هيبة المنظومات الدفاعية الإسرائيلية، فالمعادلة ببساطة تقوم على أنه مهما بلغت دقة الدفاعات الجوية فإن وصول نسبة ضئيلة من هذا الكم الهائل كفيل بإحداث دمار غير مسبوق في المراكز الاقتصادية والبشرية، مما يجعل الردع الإسرائيلي أمام اختبار حقيقي لم يسبق له مثيل منذ تأسيس الكيان.

حرب استنزاف

في المقابل، نجد أن إسرائيل قد تحوّلت بالكامل إلى “اقتصاد الحرب”، بميزانية دفاعية وصلت إلى 43 مليار دولار في عام 2025، وهي ميزانية تعكس حالة الذعر الوجودي والرغبة في استعادة زمام المبادرة؛ هذه الأموال تهدف لسد الثغرات وتطوير قدرات هجومية قادرة على الوصول للعمق الإيراني غير أن ما يُناقش في فلوريدا قد يذهب خلف لغة الأرقام نحو سيناريوهات أكثر تعقيداً، حيث يتمحور السيناريو الأرجح حول دعم أمريكي مشروط لضربات إسرائيلية إضافية ومحددة، تستهدف الدفاعات الجوية الإيرانية وسلاسل إمداد الصواريخ، بالتوازي مع تصعيد الحرب السيبرانية وتشديد الضغوط المالية وهذا النهج ينسجم مع العقيدة الأمريكية التقليدية القائمة على إدارة الأزمات لا حسمها؛ محاولة تفادي انفجار أسواق الطاقة أو تعريض الممرات البحرية للخطر، لكن هذا المسار “المضبوط” لا يلغي احتمال الانزلاق نحو خيار أكثر خطورة يتمثل في استهداف البنية القيادية والسيادية الإيرانية بما يعنيه ذلك من كسر لقواعد الردع التقليدية ودفع طهران إلى رد واسع حفاظا على هيبتها الإقليمية، مما قد يجر المنطقة إلى حرب استنزاف طويلة الأمد لا يمكن التنبؤ بنهاياتها.

إن التجربة الأمريكية في إدارة الصراعات تكشف أن ما يعرض كخيارات استراتيجية لا يخلو من قدر كبير من الخداع السياسي المنهجي فواشنطن نادراً ما تدخل المواجهات الكبرى بشكل مباشر، بل تعتمد مساراً تصاعدياً قائماً على التطمين العلني والتمهيد الخفي، حيث يترافق خطاب منع التصعيد غالباً مع إعداد ميداني واستخباري يفتح الباب أمام ضربات لاحقة أكثر اتساعاً، في أسلوب يهدف إلى إنهاك الخصم ودفعه لارتكاب أخطاء تبرر التصعيد عند اللحظة المناسبة، وهنا تتحول الدبلوماسية من أداة احتواء إلى غطاء سياسي لإدارة الحرب وتستخدم اللقاءات الرفيعة لشراء الوقت وتخفيف الضغوط الدولية لا لبلورة تسويات حقيقية، فالولايات المتحدة تدرك أن المواجهة المباشرة مع إيران قد تفتح جبهات ممتدة من فنزويلا إلى الصين، لذا فهي تمنح إسرائيل “الوكالة” للقيام بالمهام القذرة مع الحفاظ على خطوط الرجعة الدبلوماسية، وهذا الخداع لا يستهدف الخصوم فقط، بل يستهدف الرأي العام العالمي الذي يتم إيهامه بأن الجهود تنصب نحو التهدئة بينما الواقع الميداني يشير إلى عكس ذلك تماماً.

لبنان صندوق بريد!

هذا النمط من الخداع يمتد ليشمل الساحات الهشة التي تدفع فاتورة الصراعات الكبرى دون أن يكون لها ناقة ولا جمل في تقرير المصير، حيث يظهر لبنان كأحد أبرز نماذج الدول التي تدار أزماتها بالإنابة عنها، ويستخدم موقعه الجغرافي كورقة ضغط ورسالة ردع ضمن صراع أكبر منه، دون أن يكون شريكاً فعلياً في القرار أو في تحديد حدود المخاطر التي تتهدد كيانه، فالدول الضعيفة تستدرج غالباً إلى معادلات أمنية لا تملك القدرة على التحكم بمخرجاتها، وتترك لاحقاً وحيدة في مواجهة الكلفة البشرية والاقتصادية للتصعيد، ولبنان في هذه المعادلة يبدو وكأنه “صندوق بريد” ناريا، حيث يتبادل الطرفان الرسائل الصاروخية والسياسية على أرضه، بينما تكتفي القوى الدولية بمراقبة “قواعد الاشتباك” والتأكد من أنها لا تخرج عن السيطرة الدولية، دون الالتفات إلى السيادة الوطنية أو المصلحة اللبنانية العليا التي تذوب في أتون الصراع الإيراني الإسرائيلي.

ولا يمكن إغفال المحرك السياسي الداخلي في هذا المشهد فنتنياهو الذي يواجه انقساماً شعبياً حاداً واتهامات بالفشل في منع هجمات السابع من أكتوبر، يجد في “العدو الخارجي” الوسيلة الأنجع لتوحيد الجبهة الداخلية فالحرب بالنسبة للائتلاف اليميني الحاكم ليست مجرد خيار أمني بل هي ضرورة سياسية للبقاء، وكما صرح بعض الوزراء بوضوح بأن الحروب باتت جزءاً من الجدول الزمني السياسي قبل الانتخابات، كما أن التصعيد مع إيران يمثل هروباً إلى الأمام من التحقيقات والقضايا الجنائية، حيث يضطر الشارع الإسرائيلي في لحظات الخطر الوجودي إلى تأجيل المطالبة بالمحاسبة والالتفاف خلف القيادة العسكرية، وهذا التداخل بين المصلحة الشخصية والأمن القومي هو ما يجعل مطلع عام 2026 محطة حرجة للغاية، حيث تتقاطع طموحات الفرد مع مصير شعوب بأكملها في مقامرة قد تؤدي إلى انهيار منظومة الاستقرار الهش في المنطقة.

إقرأ على موقع 180  لبنان.. و"المُثلّث القاتل"!

توازن الرعب.. وشمال النهر

تعيش المنطقة حالة من “توازن الرعب” الذي يقترب من لحظة الانفجار، فإيران التي أجرت مناورات صاروخية فوق مدنها الكبرى لتبعث رسالة صمود، تقابلها إسرائيل بحشد مالي وعسكري وسياسي غير مسبوق وبينما تظل المصادر الصحفية تتدفق بالمعلومات حول خطط الهجوم، يبقى المواطن في الشرق الأوسط يترقب ما ستسفر عنه الأيام القادمة، فالمؤشرات تشي أننا لسنا أمام مجرد جولة أخرى من التهديدات الكلامية، بل أمام زلزال سياسي وعسكري قد تنطلق شرارته الأولى من منتجع في فلوريدا أو منصة إطلاق في أصفهان، ليفتح باباً من النار لا يعرف أحد متى أو كيف سيغلق، ويبقى السؤال الوحيد القائم ليس هو “هل ستقع الحرب؟” بل “متى ستبدأ وبأي ثمن سيؤديه لبنان والمنطقة في ظل تغييب متعمد للإرادة الوطنية وسيادة منطق القوة على منطق الحق؟”.

وهنا يبرز السؤال اللبناني الجوهري الذي لم يعد ممكنا تجاهله هل يقف لبنان اليوم عند مفترق أساسي بين جنوب نهر الليطاني وشماله. فبعد الاعلان عن خلو المنطقة الواقعة جنوب الليطاني من السلاح وفق الصيغ المطروحة أو المتداولة هل نحن أمام مرحلة انتظار لانتقال الضغط تدريجياً الى شمال النهر سياسياً أو أمنياً تحت عناوين مختلفة أم أن هذا الفصل الجغرافي يتحول إلى مدخل لاعادة تعريف السيادة والوظيفة الدفاعية للدولة اللبنانية على أساس مناطق منزوعة القوة وأخرى مفتوحة على الاستباحة.

هذا السؤال لا ينفصل عن الواقع البنيوي للدولة اللبنانية. فلبنان لم يعد مجرد ورقة في لعبة اقليمية بل تحول إلى ساحة منخفضة الكلفة لأي تصعيد محتمل نتيجة الانهيار الاقتصادي غير المسبوق وتآكل المؤسسات وتفكك القرار السيادي وغياب استراتيجية دفاعية وطنية جامعة. في مثل هذا الواقع يصبح الجنوب مساحة إختبار للرسائل العسكرية ويغدو الشمال إمتداداً مؤجلاً للضغط لا وفق منطق حماية الوطن بل وفق ايقاع التسويات الاقليمية غير المعلنة.

على حافة المجهول

وما يزيد من خطورة المشهد ان ثقافة التنازل المسبق والهزيمة الاستباقية باتت تقدم كخيار واقعي لا مفر منه. جرى تمرير وقائع سياسية وأمنية على أنها حلول مؤقتة ثم تحوّلت تدريجياً إلى ثوابت لا تناقش من دون أي تقييم جدي لكلفتها على السيادة والاستقلال. وبدلاً من أن تؤدي هذه التنازلات إلى تحصين الدولة زادت من عزلتها الدولية وربطت استقرارها الداخلي بتوازنات اقليمية متحركة وجعلت مستقبلها رهناً بقرارات تتخذ خارج حدودها.

في هذا المناخ لا تكمن المأساة فقط في احتمال اندلاع حرب مدمرة تفرض على لبنان من الخارج بل في خطر أكثر عمقاً واستدامةً يتمثل في تثبيت وضعه كرهينة دائمة في أي تسوية اقليمية مقبلة. تسويات قد تسوق تحت عناوين الواقعية السياسية ومنطق موازين القوى لكنها في جوهرها تكرس التبعية وتعيد انتاج الضعف من دون أن تمنح لبنان دولة وشعباً أي ضمانة فعلية لاستعادة سيادته الكاملة أو استقلال قراره الوطني.

وفي هذا السياق تحديداً يفرض اجتماع فلوريدا بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب سؤالاً إضافياً لا يقل خطورة هل يلعب نتنياهو بأوراقه مع ترامب مستثمراً مناخ التوتر مع إيران لفتح جبهة لبنان أو توسيعها تحت عنوان استباقي أو ردعي أم أن سقف التفاهم سيبقى محصوراً في إطار الضغط المُركّز والمؤامرة على إيران من دون الذهاب إلى مغامرة لبنانية واسعة. تاريخ العلاقة بين الرجلين يوحي بأن نتنياهو يجيد اللعب على هوامش القرار الأمريكي ودفع واشنطن أحياناً إلى القبول بأفعال ميدانية تفرض كأمر واقع لا كخيار متفق عليه مسبقاً. وبين سيناريو ضرب لبنان لتعديل معادلات الردع وسيناريو الاكتفاء بإدارة المواجهة مع إيران يبقى الخطر الأكبر أن يتحول لبنان مرة أخرى إلى ساحة اختبار للنوايا ورسائل القوة في لعبة تتجاوز قدرته على الاحتمال فيما تدار قرارات الحرب والسلم من خارج حدوده وتترك كلفة المغامرة على شعبه ودولته المنهكة.

الخروج من هذا المسار المظلم لا يبدأ بانتظار نتائج لقاءات الخارج بل بمواجهة داخلية صادقة وجريئة مع أسباب الضعف والتبعية والتنازل المجاني التي أوصلت الدولة إلى هذا الحد من الهشاشة ووضعت الجنوب والشمال معاً على حافة المجهول

Print Friendly, PDF & Email
أكرم بزي

كاتب وباحث لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  حقيقة "القنبلة النّوويّة" الغربيّة العُظمى (1)