وظيفة الانتحال السياسي.. والزمنداريّة اللبنانيَّة

ليستْ مسألةُ مُنتحِلِ الصِفةِ "السُعوديَّة" استثنائيَّةً في لبنان. مَنْ يَرَها على هذا النحْوِ يقعْ في فخَّ السذاجةِ. الاستثناءُ لا يتحقَّقُ واقعياً إلَّا عندَ خروجٍ أمرٍ ما على المألوف. هذه قاعدةٌ في كلِّ العلومِ لا في علمِ السياسةِ والقانونِ فحسْبُ. لا نُعْـنى هنا بالأسماءِ. سنبقى نثِقُ بالقضاءِ برغمَ كلِّ الانهيارِ. الإجاباتُ ما زالت منتظَرَة منه.

ما يَهُمُّنا هو سِياقُ هذهِ المسألةِ المُثارة إعلامياً في منظومةِ القيمِ السياسيةِ في لبنان. لماذا تحصُلُ مثلُ هذه الأمورُِ وتتكرَّرُ؟ ولماذا يذهبُ أثرُها إلى الدفْـنِ في الأدراجِ؟ هذا الذي يُسمِّيهُ اللبنانيُّونَ “لفْلفَةً” مستخدِمينَ لفظةً فصيحةً دقيقةً تُعبِّرُ في محكيَّاتِهم اليوميَّةِ عنِ التستُّرِ على الفضيحة. ربَّما تحصُلُ اللفلفةُ وربَّما لا تحصُلُ، لكنََّ الأهمَّ هو أنَّ المسألةَ تكشفِ عن استمرارِ السعيِ إلى السلطةِ عبرَ المالِ الأسود. وهذا دليلٌ إضافيٌ على فسادِ النظامِ السياسي في لبنان. ومن هنا تبرُزُ الأعماقُ الخطيرةُ للأمرِ فيتأكَّدُ أنَّ الموضوعَ ليس استثنائيَّاً بل هو طبيعيٌ نسبةً إلى ما هو قائمٌ.

الطبيعةُ الطبقيَّةُ الكومبرادوريَّةُ للسلطاتِ الإقطاعو- رأسمالية التي حكمتْ لبنانَ منذ زمنِ القائمقاميتيْنِ على الأقل هي التي تنتِجُ هذا الفساد. [لا متسعَ الآن للحديث عن مرحلةِ الزمن العثماني لكنَّها في السيرورةِ ذاتِها]. الفحوى أنَّ المسؤوليّةَ لا تقتصرُ على سلوكيَّاتٍ فرديَّةٍ لمن قد تظْهِرُهُم التحقيقاتُ فاعلين مباشِرينَ. النظامُ المتراكمُ عبر نحو قرنينِ هو المسؤولُ، ولقد كان ابن خلدون على حقٍّ منذ سبعةِ قرون عندما ربطَ بين السلطةِ والأخلاقِ فإذا فسدَ أحدُهُما فسد الاثنانِ بالضرورةِ.

الكومبرادوريَّةُ أو “الزَمَنداريّة” كما تُسَمِّيها الثقافة ُالهنديَّة ُ[كان الهنود يسمُّون مالكُ الأرض المتعاون مع الاحتلال البريطاني بـِ”الزمندار”] هي التي ولَّدَتْ فكرةَ الارتهان والوساطة، ثمَّ تحوَّلتْ هذه الفكرةُ إلى سلوكٍ وإيديولوجيا. باتَ كلُّ ذي ثروةٍ طامِحٍ إلى السلطةِ يبحثُ عن ظهيرٍ خارجيٍّ لكي يرتَهِنَ له، ضارباً عُرضَ الحائطِ أيَّ معنى للوطنيَّةِ والشفافيَّةِ والصدقيَّةِ. الكومبرادوريُّونَ لا يستحقُّونَ حتى صفةَ البرجوازيَّةِ الوطنيَّة. إنَّهم بطبيعتِهم الطبقيَّةِ يفعلونَ كلَّ شيءٍ من أجلِ بلوغِ السلطةِ مُراهنينَ على أنَّهم قادرونَ إذا بلغُوها على مُضاعفةِ ثرواتِهم من جيوبِ الناس. المثالُ الحاضرُ أمامَنا يُقدِّمُ عيِّنةً من هؤلاءِ. لقد دفعُوا أموالِاً طائلةً إلى وسيطٍ ينتحلُ صفةَ العلاقةِ مع دولةٍ عربيَّةٍ طمعاً بنيابةٍ أو وزارة. ما يعني أنَّ كلَّ ما يُحكى عن السيادةِ الوطنيَّةِ يزدادُ وضوحاً بأنَّه لا قيمةَ له سوى الدعاية، وإذا كان لهُ من قيمةٍ فهْيَ سلبيَّة ٌحتماً لأنَّها تندرجُ في خانة “الكذب السياسي” المُتعمَّدِ. إنَّه أخطرُ أنواعُ الكذب لأنَّهُ يَمَسُّ المصلحةَ العامَّةَ ولا يقتصرُ على فردٍ بعينِهِ.

الفيلسوفُ الفرنسيُّ المعاصرُ، صاحِبُ النظريَّةِ التفكيكيَّةِ “جاك دريدا” له كتابُـهُ المعروف: “تاريـخ الكـذب”. يرى دريـدا أنَّ الكـذبَ [وهذا ينطبقُ على مثلنا اللبناني في مُنتحِلِ صفةِ العلاقةِ بالسعوديَّة] ليس مجرَّدَ خطأ أخلاقيٍّ فرديٍّ بل هو متجذِّرٌ في السياسةِ والاجتماعِ السياسيّ على خلاف الفيلسوفِ العقلاني كانط الذي لم يتجاوزِ الحدودَ الأخلاقيَّةَ الفرديّةَ في دراسةِ الكذب. ومن هنا فإنَّ التفريقَ العمليَّ بين الرؤيتيْنِ: دريدا وكانط ضروريٌّ جدَّاً. الكاذب اللبنانيُّ [منتحل الصفة] هو جزءٌ من منظومةِ كذب والمحاكمة العادلة هي للمنظومةِ كلِّها لا للكاذبِ الفردِ وحدهُ.

ليس من شأنِنا أنْ نستبقَ القضاءَ. نرتقِبُ كلمتهُ. أمَّا المحاكمةُ الشعبيّةُ فقد بدأتْ. لا يُصدِّقُ معظمُ الناسِ أنَّ ما جرى هو عمليَّةُ “نصبٍ” عاديَّةٌ. لا يستطيعُ فردٌ وحدَهُ أنْ يقومَ بهذه اللعبةِ عدَّةَ سنواتٍ من دونِ الثغراتِ التي صنَعَتْها منظومةُ الكومبرادوريَّة السياسيَّة الممسكة ُبالسلطةِ في لبنانَ منذ أمدٍ بعيد. ربَّما ستكثُرُ هذه الحالاتُ في المرحلةِ المقبِلةِ على نحو ما حصل سابقاً، ففي الماضي القريب لم يتردَّدِ الطامعون في التودُّدِ والتوسُّطِ لدى دمشق بوسائلَ مختلِفةٍ. وهكذا فعلـُوا ويفعلونَ مع السعوديَّةِ ومع عددٍ من الدولِ العربيّةِ المؤثِّرةِ، ومع الولاياتِ المتحدة وغيرِها. إنَّهم يرونَ في الارتهانِ مصلحةً طبقيَّةً وسياسيّةً وماليَّةً. يتلذَّذونَ بهِ. ويتنفَّسونَ هواءَهُ.

لا ندَّعي بأنَّ المحاكمةَ الشعبيَّةَ ستُؤسِّسُ قريباً لوعيٍ جديدٍ يحاكمُ المنظومةَ لا الأشخاصَ وحدَهم. لكننا نأملُ بشيءٍ من التأسيس الذي قد يتراكمُ مستقبلاً إذا ساعدَ اللبنانيُّون أنفسَهم وساعدتهم الظروفُ المحيطةُ بهم في الحفاظِ على وحدةِ بلدِهم، كي يصير وطناً ودولةً ترى في الارتهانِ والتوسُّطِ عاراً وطنياً مثلما هو جُرمٌ يُعاقبُ عليه القانونٍ. وعندئذٍ تسقطُ الكومبرادوريَّة والزمنداريَّة.

 

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  أسترا زينيكا سقط.. لم يسقط
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  حوار باباوات الفاتيكان مع اللبنانيين.. بالعربية!