طُويت مرحلة المناورات السياسية وبات سعد الحريري، بعد مضي شهر على إستقالته من رئاسة الحكومة في لبنان، رسميًا، خارج نادي المرشحين لرئاسة الحكومة، وهو أمر يطوي عمليًا، ما أسميت “المناورات” التي كان يُتهم بممارستها، تمهيدا لعودته إلى رئاسة الحكومة.
ويمكن القول إن خروج الحريري يطرح إشكاليات كثيرة، تبدأ من قدرته على إستعادة شارعه وتياره وكذلك إعادة شد عصب قوى 14 آذار/مارس، وصولا إلى إحتمال إقفال بيته السياسي، في ظل شح الخدمات والمال، وهما عصب الحالة الحريرية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي حتى الأمس القريب، من دون إغفال البعد السياسي للحالة الحريرية التي إقترنت بإسم رفيق الحريري، ولكنها شهدت مع وريثه سعد موجات من المد والجزر القياسيين، لا بل وصولًا إلى التقهقهر السياسي، قبيل إستقالة الحريري في نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وإذا كان الحريري قد بقي ثابتًا منذ شهر على موقفه الرافض لتوزير جبران باسيل (رئيس التيار الوطني الحر) في حكومته، إذا تمت تسميته مجددا رئيسا للحكومة، مشترطا لذلك أن تكون أية حكومة برئاسته “حكومة أخصائيين”، فإن تسمية محمد الصفدي من قبل باسيل والرئيس اللبناني ميشال عون، ومن ثم مباركتها من دون تبنيها جديا من قبل الحريري، أدت إلى حرق ورقة رجل الأعمال الطرابلسي في الشارع في أقل من 48 ساعة من لحظة طرحها، خصوصا عبر التسريب المتعمد وضخ روايات متناقضة جعلت الرجل يعلن إعتذاره عن قبول المهمة والعودة إلى مقاعد التقاعد السياسي.
قبل أسبوع تقريبا، تم تداول إسم وزير العدل اللبناني الأسبق بهيج طبارة لرئاسة الحكومة. بدت حماسة ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري وقيادة حزب الله لهذا الخيار متساوية، وعندما طرح الإسم على سعد الحريري، من داخل بيته السياسي، بدا متساهلا خلافا لما كان متوقعا منه، خصوصا وأنهما كانا على خصومة سياسية شديدة، منذ حرب تموز/ يوليو 2006، عندما رفض طبارة الكثير من الخيارات السياسية لتيار المستقبل، وأصر على عدم قطع خطوط التواصل والحوار مع أية جهة لبنانية. قبل هذا التاريخ، كانت قد جرت محاولات كثيرة للمصالحة بين الحريري وطبارة، لكن الأبواب كانت موصدة بوجهها من رئيس تيار المستقبل، علما أن طبارة ليس الوكيل القانوني للسيدة نازك الحريري وحسب بل هو وعائلته على صلة صداقة وطيدة بها وبعائلتها، ولذلك، كان طبارة يشكل عنصر إرباك لسعد الحريري، خصوصا وأنه يجسّد، بالنسبة إلى كثيرين، رمزية إرث رفيق الحريري لا بل هو “واحد من أهل البيت”.
وقد لعب المستشار السياسي لسعد الحريري الدكتور غطاس خوري والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم دورا إيجابيا في إتجاه إعادة مد جسور التواصل بين الحريري وطبارة، ولكن قبل ذلك كان لا بد من رصد الآتي:
أولا، عندما قبل طبارة بمبدأ البحث بالتسمية (إنطلق الإسم من قصر بعبدا وحمله اللواء عباس إبراهيم)، كان الرجل واضحا أمام جميع من فاتحوه بالأمر: من يقبل بالمهمة في هذه المرحلة، هو فدائي، وأنا بطبيعتي لست إنتحاريا. أقبل بالمهمة، بشرط أن يكون الجميع مدركا أننا نمر بمرحلة إستثنائية من تاريخ بلدنا، وبالتالي، ثمة حاجة إلى مقاربة إستثنائية وحكومة إستثنائية وأدوات عمل إستثنائية، فإذا توافرت هذه كلها مع عناصر أخرى، سياسية وإقتصادية ومالية، داخلية وخارجية، أنا مستعد للبحث في تحمل المسؤولية، حتى لو كان الثمن أن أستشهد سياسيا، لكن أقله أعرف أنني أذهب إلى الميدان وأعرف ما ينتظرني هناك.
ثانيا، إشترط طبارة أوسع تغطية سياسية لمهمته، تبدأ من عند تبنيه من قبل سعد الحريري ورؤساء الحكومات السابقين ودار الفتوى وتنتهي عند “الثنائي الشيعي”، مرورا برئاسة الجمهورية وباقي الأطياف السياسية.
إعتذار طبارة تزامن مع إصدار الحريري بيانه اليوم (الثلثاء) الذي أعلن فيه عزوفه عن الترشيح، ليبدأ القصر الجمهوري، بالإستعداد لإجراء المشاورات النيابية الملزمة في موعد سيحدد غدا (الأربعاء)، ما لم تحصل مفاجآت سياسية جديدة كأن يسقط الخطيب، كما سقط الصفدي قبله
ثالثا، طلب طبارة مراعاة قضايا محددة، يمكن إيجازها على الشكل الآتي:
- لا بد من حكومة تكنو ـ سياسية، لا يجب أن يتجاوز عمرها الستة أشهر، على أن تضم عددا من وزراء الدولة ممن يمثلون الحساسيات السياسية الأساسية في البلد، أما بقية الوزراء ممن ستسند إليهم الحقائب، فيجب أن يكونوا من ذوي الكفاءات ولا بأس أن يكون معظمهم من المتمرسين سياسيا مثل زياد بارود، على سبيل المثال لا الحصر.
- لا بد من الإتيان بوجوه وزارية جديدة غير مستهلكة سياسيا، سواء على مستوى وزراء الدولة (الحزبيين) أو الكفاءات، الأمر الذي من شأنه أن يحدث صدمة سياسية لدى الرأي العام اللبناني وأمام المجتمع الدولي.
- لا بد من إعتماد معيار الكفاءة في أية حكومة جديدة، إنطلاقا من معيار الظروف والأدوات الإستثنائية، ولذلك، لا يجب أن تشترط هذه الطائفة أو تلك أن تكون هذه الحقيبة السيادية أو الخدماتية حصرية بها.
- لأن المرحلة إستثنائية وخطيرة إقتصاديا وماليا، لا بد من مغادرة القواعد الكلاسيكية للعمل الحكومي والنيابي، ولذلك، صار لزاما على أية حكومة في هذه اللحظة أن تحظى بصلاحيات إستثنائية مقيدة بالزمان والمواضيع (المالية والإقتصادية).
- يجب أن تكون الأولوية السياسية للحكومة، وضع قانون إنتخابي جديد، يضع البلاد على سكة إنتخابات نيابية مبكرة.
- إذا توافرت هذه العناصر كلها، يمكن الإستفادة من المظلة الدولية، وخصوصا الفرنسية من أجل تفعيل “سيدر” وإطلاق مروحة مشاورات دولية وإقليمية لتوفير الدعم المالي للبنان.
رابعا، إنطلاقا من هذه المسلمات ـ الثوابت التي وضعها طبارة، عقدت مروحة من المشاورات بينه وبين جميع القيادات السياسية وخصوصا رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، بالإضافة إلى المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل والوزير جبران باسيل واللواء عباس إبراهيم، تمحورت معظمها حول هذه الثوابت ـ المسلمات.
خامسا، بدا واضحا منذ بداية المشاورات أن الحريري مستعد لتسمية طبارة لكن ما بعد التسمية، من مشاركة وأولويات، كان محور أخذ ورد، وكذلك الحال بالنسبة إلى بري وحزب الله اللذين رفضا مبدأ الإنتخابات النيابية المبكرة والصلاحيات الإستثنائية وكذلك التنازل عن وزارة المالية، لكنهما وافقا على أولوية التفرغ للقانون الإنتخابي، مثلما فتحا الباب أمام بعض الصياغات التي يمكن أن تساعد في تسهيل مهمة طبارة (في الشق الإقتصادي والمالي)، وكذلك الأمر بالنسبة إلى باسيل الذي طرح أفكارا تتعلق بالتوازنات الحكومية، من دون أن يتمسك بتمثيله في الحكومة.
سادسا، في المحصلة، أدرك طبارة أن معظم أركان الطبقة السياسية يدركون إستثنائية المرحلة لكنهم يتصرفون في موضوع تأليف الحكومة على أساس أن المعايير التي يمكن أن تعتمد في ظرف عادي، تسري على الحكومة الحالية (حقائب وتوازنات وأسماء وأولويات وصلاحيات). ونتيجة إلحاح معظم القوى على عدم تراجعه، طلب وزير العدل الأسبق، مهلة تنتهي صباح غدٍ (الأربعاء) قبل أن يحسم أمره، لكن ما أن بلغه أن الحريري وباسيل إستدعيا أحد رجال الأعمال (سمير الخطيب) تمهيدا لتسويق إسمه، سارع إلى إختصار المهلة الزمنية وبالتالي إبلاغ إعتذاره للجميع، شاكرا كل من سهلوا أو صعبوا مهمته، على حد سواء.
واللافت للإنتباه أن إعتذار طبارة تزامن مع إصدار الحريري بيانه اليوم (الثلثاء) الذي أعلن فيه عزوفه عن الترشيح، ليبدأ القصر الجمهوري، بالإستعداد لإجراء المشاورات النيابية الملزمة في موعد سيحدد غدا (الأربعاء)، ما لم تحصل مفاجآت سياسية جديدة كأن يسقط الخطيب، كما سقط الصفدي قبله!