بين مشهدي الاستقالة الحريرية من السعودية (تشريت الثاني/ نوفمبر 2017)، واحراق المرشحين لرئاسة الحكومة في لبنان، الواحد تلو الآخر، على مدى أربعين يوماً، أمكن لرئيس الوزراء اللبناني المستقيل سعد الحريري أن ينال تعاطف اللبنانيين. راح الرجل يقدّم نموذجا لسياسي شاب مُغرمٍ بـ”السِلفي” وعازمٍ على تدوير الزوايا، وذاهبٍ صوب الاعتدال، فكسر في عيون خصومه صورة المُغامر الذي ورث تركة سياسية ومالية وشعبية كبيرة عن أبيه، وكاد يُضيّعها في وحول الحرب السورية، حين اعتقد بسقوط وشيك للرئيس السوري بشار الأسد، وبإنهيار حتمي لحلفائه وفي مقدمهم حزب الله.
قُبيل اندلاع الحراك اللبناني، تسرّبت معلوماتٌ من مصادر قريبة من حزب الله وحركة أمل، تقول باحتمال استقالة الحريري والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي من الحكومة بضغوط خارجية (أميركية على وجه التحديد). ترافق ذلك مع غضبٍ أميركي من لبنان الرسمي بسبب رفض ترسيم الحدود البحرية والبرية، وضبابية تلزيمات البلوكات النفطية والغازية، وامتناع حاسم عن القبول بالتوطين، وانفتاح علني على زيارة سوريا. تنبّه حزب الله إلى ان أمراً ما يُطبخ ضده وعلى نار هادئة، كما تقول أوساطه.
اندلع الحراك الشعبي اللبناني في السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر، فسارع رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع الى سحب وزرائه من الحكومة. كاد رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط يفعل الشيء نفسه لكنه عاد وربط الأمر باستقالة الحريري. استقال الحريري وهلل له جنبلاط، وانهارت العلاقة مع القوات. زادت عوامل الشك والتوجس عند حزب الله وحلفائه. تفاقمت أكثر حين بدأت أصواتٌ في الحراك تعلو ضد الحزب وقيادته وحركة امل ورئيسها والوزير جبران باسيل والعهد والتيار الوطني الحر.
تلقّف حزب الله وحركة امل الصدمة. قفزا فوق الفخ، وبدلا من تحميل الحريري المسؤولية، تمسّكا به أكثر من السابق. قال رئيس المجلس النيابي نبيه بري انه قدّم لبن العصفور لرئيس الحكومة وانه سيقاطعه مدى العمر لو رفض. تبنّى السيد حسن نصرالله صراحة (وهو قلّما فعل ذلك) الدفاع عن العهد وعدم تغيير الحكومة. كان المُراد سحب فتيل فتنة سنية – شيعية أطلت برأسها مرة ثانية، من حيث لم ينتظرها أحد.
عزّزت خطوات الحريري شعبيتُه وفرضته مُفتاحا وحيدا لأي باب حل سياسيٍ في الوقت الراهن، وظهر حزب الله والعهد في مظهر المُربك حيال التعامل مع الحريري وأيضا مع الحراك
خلال أكثر من خمسين يوما من عمر الحراك، تم احراق ثلاثة مرشحين لرئاسة الحكومة على الأقل: محمد الصفدي، بهيج طبارة وسمير الخطيب. يشي الأمر عند البعض بأن الحريري “يتلاعب” بالجميع بانتظار كلمةِ سرٍ ما دولية او سعودية او الاثنتين معاً، بينما يُفسره البعض الآخر بالإرباك في لحظة إقليمية ودولية عاصفة تماما. فالحريري صادق وصريح وفق توصيف رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لكنه مغلوب على أمره. في كل الأحوال، فقد عزّزت خطوات الحريري شعبيتُه وفرضته مُفتاحا وحيدا لأي باب حل سياسيٍ في الوقت الراهن، وظهر حزب الله والعهد في مظهر المُربك حيال التعامل مع الحريري وأيضا مع الحراك.
أولا، كان يُمكن لهذا الوضع أن يكون ممتازا للحريري لولا أن لبنان قد انهار اقتصاديا، وانعدمت الثقة بين جزء كبير من الناس والسلطة، وصار الحراك أكثر ثقة بقدرته على قلب الطاولة اذا سارت رياح التكليف والتأليف على غير ما تحمله مراكبه من مطالب مُحقّة. ما يعني ان الناس قد يُحمّلون الحريري لاحقا مسؤولية التأخير في إيجاد الحلول.
ثانيا، كان يُمكن لهذا الوضع أن يكون ممتازا للحريري لولا أن التجاذب الذي بلغ حافة الهاوية بين أميركا وايران، قد بدأ يُبشّر ببعض الهدوء من خلال أولى الرسائل العلنية بينهما، التي تمثلت بتبادل سجناء. وها هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتوترة علاقاته مع كوريا الشمالية والصين والواقف على شفير الملاحقة القانونية في بلاده، يقول “ان تبادل السجناء يعني إمكانية التوصل الى اتفاق بين اميركا وايران”. الرجل يريد تحقيق انجاز خارجي بأي ثمن قبل الانتخابات الرئاسية، وايران لا تمانع باتفاق يخفف الحصار والعقوبات ويكون مقبولا ومنطقيا.
ثالثا، كان يُمكن لهذا الوضع ان يكون متوافقا مع آمال الحريري، لو ان العلاقات الايرانية السعودية لا تشيء ببعض الانفراج من خلال تطورات اليمن، والرسائل الضمنية المتبادلة بين الطرفين. فهذه صحيفة “الشرق الاوسط” السعودية نفسها تضع على صدر صفحتها الثانية خبر الاتفاق بين الرياض وطهران على تنظيم قدوم الحجاج الايرانيين للموسم المقبل. صاغ الاتفاق في قلب مكة، كلٌّ من وزير الحج والعمرة السعودي الدكتور محمد بنتن ورئيس منظمة الحج والزيارة الايراني الدكتور علي رضا رشيديان. ثمة خطوات أخرى منتظرة لو استمرت الوساطات بين الجانبين.
لا شك مطلقا بان السعودية تستعد لفتح أبواب سفارتها في العاصمة السورية في فترة قد لا تطول كثيراً (المسألة باتت مسألة وقت)
رابعا، كان يُمكن لهذا الوضع ان يكون مناسبا للحريري لولا ان الامارات لم تحتفل هذا العام وللمرة الاولى منذ اندلاع الحرب السورية بعيدها الوطني في قلب دمشق. كان الاحتفال الحاشد مترافقا مع كلام عالٍ جدا قاله القائم بالاعمال الاماراتي عن “حكمة” الرئيس بشار الأسد. ولا شك مطلقا بان السعودية تستعد لفتح أبواب سفارتها ايضا في فترة قد لا تطول كثيراً (المسألة باتت مسألة وقت).
من المفترض أن يُشير كل ذلك، الى ان إيران وحلفاءها في لبنان وسوريا، يتمتعون بهامش حركة واسع، وأن ترامب قد يُفضل المصالحة معهم أكثر من تفضيله للحرب… وان الحريري قد لا يكون مالكا لكل أوراق القوة التي تسمح له بمزيد من تضييع الوقت.
لا شك ان رئيس الحكومة المستقيل تصرّف بذكاء حتى الآن، ولا يزال يتمتع بشعبية ممتازة هي الأكبر في البيئة السنية، برغم تآمر بعض أهل البيت، وتعاظم دور المنافسين له. لذلك قد تكون فرصته مؤاتية تماما الآن لعقد شراكة حقيقية مع الأطراف الأخرى، والتجاوب مع مطالب الناس المنتفضين أيضا ضده وضد الآخرين، ذلك ان أي مؤشرات أخرى لتقارب إيراني أميركي، قد تدفع الى التفكير بشخصية أخرى، وقد تكون السعودية لاحقا موافقة على البديل.
اما إذا انهارت الأمور على الخط الايراني ـ الاميركي، فلا شك ان لبنان سيبقى كما العراق واليمن والشرق السوري، ساحات صراع طويل يُمدد عمر الازمة اللبنانية، ويزيد من غضب الناس الذين قد يقلبون الطاولة على الجميع.
هي فرصة إذا نادرة، كي ينسى اللبنانيون قليلاً ضغوط الخارج، ويلتفتون الى وطنهم لبنائه على أسس جديدة كتلك التي نراها تصدح من افواه الثوار الشرفاء غير المرتبطين بأي اجندة خارجية.
حين ينظر ساسة لبنان الى داخل الوطن بدلا من تسمُّرهم امام الخارج بانتظار الإشارات، وحين يستمعون الى صوت الناس، سيجدون حتما الحلول المناسبة، بعيدا عن رياح الخارج وعواصفه وهدوئه. هي فرصة لن تتكرر.