قبل نحو خمسة أعوام، ضجت وسائل الإعلام العربية والعالمية بخبر تدمير تنظيم “داعش” بعض أثار مدينة تدمر السورية. الضجة حينها جاءت بحجم الحدث، فالتراث الانساني كان في خطر محدق أمام مطرقة التنظيم المتطرف، قبل أن يزول الخطر بزوال نسبي للتنظيم الإهاربي، والذي خلّف وراءه جرحاً عميقاً في الآثار السورية.
اليوم، يتكرر الحدث ذاته في الشمال السوري الغني بالمدن الأثرية، مع فارق بسيط: لا ضجة إعلامية ولا تحرك دولياً أمام المطرقة التركية التي تتابع تدمير الآثار السورية من دون أي رادع.
أمام هذا المشهد، يبدو خبر اختفاء نصب الأسد البازلتي من معبد عين دارة الأثري شمالي حلب خبراً استهلاكياً ذا تأثير لحظي، في ظل الصمت الدولي المطبق أمام هذه الاعتداءات المتواصلة منذ اللحظة الأولى للتوغل العسكري التركي في الأراضي السورية.
خلال الشهور الماضية، تسربت أنباء متواترة عن اختفاء معالم أثرية من معبد عين دارة الأثري في منطقة عفرين السورية. الأخبار حينها لم تكن دقيقة بسبب سيطرة تركيا على المنطقة وتحويلها إلى “منطقة عسكرية” يُمنع الاقتراب منها أو توثيق ما يجري داخلها، قبل أن تؤكد صور جوية صحة المعلومات.
الصور التي وزعها المتخصص في الآثار صلاح سينو أظهرت اختفاء النصب الأثري من مكانه فعلاً، إضافة إلى عمليات تنقيب وحفر متواصلة في المنطقة.
الباحث السوري، واعتماداً على مقارنة صورتين جويتين الأولى التقطت في 21 آب الماضي، مع أخرى التقطت في 29 كانون الثاني من العام 2018، تمكن من توثيق حجم التعديات وعمليات التجريف التي طالت الموقع ككل، إضافة إلى اختفاء الأسد البازلتي الكبير من مكانه على التل الأثري جنوبي المعبد.
سينو وخلال حديثه إلى “180” أشار إلى أن النصب يبلغ وزنه نحو 12 طناً، حيث يبلغ طوله مع الرأس 3.3 أمتار، وارتفاعه 2.7 متر. وقال: “لا نعرف إن كان قد تم نقله أو تحطيمه، ما نعرفه أن هذا النصب الأثري الهام اختفى، ونطالب تركيا بالكشف عن مصيره”.
الآثار تحت حكم “السلطان”
مع انطلاق العمليات العسكرية التركية في منطقة عفرين شمالي حلب، قبل نحو عامين، تعرضت المنطقة لعمليات قصف عنيف متواصلة، تسببت في تدمير مواقع أثرية عدة، وفق مديرية الآثار السورية التي أصدرت حينها بياناً حول المناطق المتضررة.
وذكرت المديرية في بيانها أن القصف تسبب بأضرار في منطقة عين دارة الأثرية، ومنطقة براد المسجلة على لائحة مواقع التراث العالمي في منظمة “الأونسكو”، والتي تضم ضريح القديس مارون، شفيع الطائفة المارونية، إضافة إلى مناطق أخرى (موقع النبي هوري -قورش- وتل جنديرس الأثري)، معتبرة أن هذا السلوك يدل على وجود خطة ممنهجة للقضاء على التراث السوري وكل مقومات الحضارة السورية، والوصول إلى محو الهوية والذاكرة السورية، مناشدةً في الوقت ذاته “المنظمات الدولية المعنية، والتي قامت بتسجيل هذه المواقع على لوائحها، أن تقوم بما يمليه عليها الواجب الأخلاقي والإنساني في سبيل إدانة العدوان التركي المتواصل على مواقع التراث الأثري السوري وفضحه أمام العالم”.
لم يلق البيان أية آذان صاغية، إذ تابعت تركيا عمليات القصف المتواصل للمنطقة، قبل أن تقوم القوات البرية بالتقدم فيها، والسيطرة عليها، بعد انسحاب الفصائل الكردية التي كانت تسيطر عليها.
وأظهرت تسجيلات مصورة وزعتها فصائل سورية مسلحة عمليات تدريب عسكرية بإشراف تركي بالأسلحة والرشاشات داخل المواقع الأثرية.
في هذا السياق، رأى المحامي والباحث السوري علاء السيد أنّ ما تقوم به تركيا لا يعتبر سلوكاً غريباً عنها، موضحاً أن ما يجري هو استمرار لسلوك السلجوقي بحق الآثار، سواء سرقتها ونقلها إلى متاحف تركيا، أو عن طريق تدميرها لمحو آثار تلك المناطق، مذكراً خلال حديثه إلى “180” بعمليات الإحراق التي قام بها السلاجقة للمدينة البيزنطية في منطقة عين دارة العام 1086 ميلادي، حيث تم تدمير المدينة بشكل كامل.
الباحث السوري علاء السيد لـ”180″: ما تقوم به تركيا هو استمرار لسلوك سلجوقي بحق الآثار
ويُعتبر معبد عين دارة السوري الآرامي دارة من أبرز المواقع الأثرية شمالي سوريا، ويحتوي على معالم أثرية يعود بعضها إلى نحو ثلاثة آلاف عام، وهو يقع على تل مرتفع يضم طبقات أثرية عدة، حيث تعود كل طبقة إلى حقبة زمنية مختلفة، وتجري عمليات التنقيب باستخدام الآليات الثقيلة تحت المعبد، الأمر الذي يؤدي إلى تدميره بشكل تدريجي. كما يضم الموقع درجاً مزخرفاً، وآثاراً للتماثيل المجنحة بالإضافة إلى أسد بازلتي ضخم.
“سطو مسلح”
تضم منطقة عفرين أكثر من 130 موقعاً أثرياً من بينها 92 تلة أثرية، جميعها تعرضت لأضرار بالغة خلال المعارك التي شهدتها المنطقة مع اقتحام القوات التركية، قبل أن تقوم أنقرة بالسيطرة عليها، حيث قامت بتحويل عدد منها إلى مناطق عسكرية، وسمحت للفصائل المسلحة التابعة لها بإجراء عمليات التنقيب في جميع هذه المواقع، الأمر الذي شبهه ناشطون في المنطقة بعملية “سطو مسلح” كبيرة.
الباحث السوري صلاح سينو وثّق عشرات الاعتداءات والسرقات على المواقع الأثرية، كعمليات التنقيب بالآليات الثقيلة واستخراج الآثار (منحوتات بازلتية، وكلسية، ولوحات فسيفسائية وغيرها) وتدمير بعضها. ووثق ناشطون خروج ست شاحنات دفعة واحدة من المناطق الأثرية في عفرين إلى تركيا.
تضم منطقة عفرين أكثر من 130 موقعاً أثرياً من بينها 92 تلة أثرية، جميعها تعرضت لأضرار بالغة خلال المعارك
ومن المناطق التي تعرضت لأضرار كبيرة مناطق: النبي هوري، تل جنديرس، براد، تل شوربة، وغيرها.
وفي منطقة النبي هوري تم توثيق سرقة ثلاث لوحات فسيفسائية، تم استبدالها بثلاث لوحات مزورة.
كذلك، ذكر “المرصد السوري لحقوق الانسان” المعارض الذي ينشط من لندن أن السلطات التركية والفصائل الموالية لها – تحديداً فصيل “صقور الشمال” – قامت في 10 آب 2018 و6 تشرين الأول 2018 و3 تشرين الثاني، بحفريات تخريبية وعشوائية بالآليات الثقيلة (الجرافات) في منطقة بلبل، ما أدى إلى تدمير الطبقات الأثرية من دون توثيقها، إضافة إلى تدمير المواد الأثرية الهشة كالزجاج والخزف والفخار ولوحات الفسيفساء، وغيرها من الآثار.
وأمام وجود عشرات المواقع الأثرية، وتعرضها للاعتداءات وعمليات التنقيب والتدمير والسرقة، ووسط الطوق العسكري الذي تفرضه تركيا على هذه المناطق، تبدو عملية توثيق هذه الاعتداءات صعبة للغاية وفق الباحث سينو، خصوصاً أن هذه الاعتداءات مستمرة.
“داعش” وتركيا… مطرقة واحدة!
المدير العام السابق للأثار في سوريا، ومدير البعثة السورية الفرنسية الأثرية في شمالي سوريا الدكتور مأمون عبد الكريم، اعتبر خلال حديثه إلى “180” أن ما قامت وتقوم به تركيا في منطقة عفرين يطابق تماماً، بل يفوق ما قام به تنظيم “داعش” في مدينة تدمر الأثرية وسط سوريا.
مأمون عبد الكريم لـ”180″: ما تقوم به تركيا في عفرين يفوق ما قام به تنظيم “داعش” في تدمر
ووصف عبد الكريم ما تقوم به تركيا بأنه “إجرام يهدف إلى محو التاريخ والحضارة السورية من المنطقة بشكل كامل”، موضحاً أن عمليات السرقة والتنقيب عن الآثار مازالت متواصلة، حيث تتم سرقة كل ما يمكن سرقته وتدمير ما تبقى.
ورأى مدير البعثة السورية الفرنسية الأثرية في شمالي سوريا أن “الإجرام التركي في المنطقة يسبب خسائر كبيرة جداً تتعلق بالتراث الإنساني التاريخي والعمراني الذي لا يقدر بثمن”، وتابع “كل ذلك يجري من دون أن يحرك أحد ساكناً للأسف”.
وأضاف “ما تقوم به تركيا هو عملية تغيير للمنطقة من جذورها، سواء تدمير آثارها، أو تهجير سكانها، أو توطين سكان جدد، وكل ذلك يجري ضمن مخطط واضح، وليس بشكل عبثي”.