الشرع في الكرملين والأسد لاجئاً.. الدلالات الجيوسياسيّة

شكّل التدخّل العسكريّ الروسيّ في سوريا قبل نهاية عام 2015 نقطة تحوّلٍ حاسمةٍ، لم يكن هدفها المُعْلَن إنقاذ شخص بشّار الأسد بقدر ما كان يهدف إلى إعادة تموضع روسيا كقوةٍ عالميّةٍ عظمى على السّاحة الدّوليّة. جاء هذا التدخّل ردًا على الخسائر الجيوسياسيّة التي تكبّدتها موسكو بعد أزمة أوكرانيا وشبه جزيرة القرم عام 2014 وما تبعها من عقوباتٍ غربيّةٍ مؤلمةٍ. لقد اختارت موسكو سوريا لتكون ساحةً لـ"ردّ الاعتبار" وتأكيد أنّها طرفٌ أساسيٌّ لا يمكن تجاهله في معالجة القضايا الإقليميّة.  

كان الهدف المزدوج للتدخّل الروسي يتمثّل في منع السّقوط الوشيك لدمشق بيد المعارضة المسلّحة، مع تحقيق هدفٍ أمنيٍّ داخليٍّ روسيٍّ يتمثّل في منع عودة آلاف المتطرّفين الإسلاميين ذوي الأصول السوفيتية إلى روسيا. كما أنّ الوجود في سوريا وُظِّفَ كورقةٍ تفاوضيّةٍ كبرى لاستخدامه كأداة ضغطٍ في ملفّات خلافيّة مع الغرب، مثل العقوبات وملفّ القرم. وبذلك، لم يكن دعم نظام بشار الأسد غايةً في حدّ ذاته بل وسيلةً لتحقيق مصالح روسيا الجيوسياسيّة الثّابتة.

ولكنّ، المفارقة الجيوسياسيّة الكبرى تجلّت في نهاية عام 2024، عندما شهدت سوريا انهياراً مفاجئاً وسريعاً لنظام الأسد. فالدّولة التي أنفقت موارد عسكريّةً وماليّةً هائلةً على مدى تسع سنواتٍ لحماية هذا النظام، تحولت في وقتٍ قصيرٍ إلى احتضان قائده الجديد، أحمد الشّرع. لقد كانت الاستجابة الرّوسية سريعةً وبراغماتيّةً، ففي 9 كانون الأول/ديسمبر تم رفع علم سوريا الجديد على مبنى السّفارة السّورية في موسكو. وتلا ذلك اتّصالٌ هاتفيٌّ أجراه الرئيس فلاديمير بوتين مع أحمد الشّرع في 12 فبراير/شباط 2025 لتهنئته وتأكيد روابط الصّداقة. ولم تمض فترةٌ طويلةٌ حتى وُجِّهَت دعوةٌ رسميّةٌ للشّرع لحضور القمّة العربيّة–الرّوسية قبل أن يتقرر تأجيلها حتى إشعار آخر.

يمثّل التحوّل الرّوسي خطوةً لإزالة العقبة الإيرانيّة المحتملة، ويسهل على موسكو لعب دور ضامنٍ للتّوازنات الأمنيّة الإقليميّة. إنّ دعم الشّرع في مساعيه لرفع العقوبات هو استراتيجيّةٌ مباشرةٌ لفتح سوق الإعمار، إضافةً إلى سعي روسيا للحصول على صفقات أسلحةٍ كبيرةٍ من دول الخليج مثل السّعودية والكويت والإمارات، كـ”الجَزَرَةِ الكبرى” مقابل تغيير موقفها من النّظام السّابق

إدارة المصالح

كان هذا التّحوّل الاستراتيجيّ في السّياسة الرّوسية مدفوعًا بإدراك موسكو بأنّ مصالحها الثّابتة تجاوزت أهمّية بقاء شخص الأسد بكثيرٍ. إنّ القواعد الرّوسية في سوريا، وتحديداً قاعدة حميميم الجوّيّة وقاعدة طرطوس البحريّة، تمثّل نقطتي ارتكازٍ استراتيجيّةٍ دائمتين في شرق المتوسّط. هاتان القاعدتان تُشكلان ركيزتين أساسيتين للنّفوذ الرّوسي في المنطقة، بل وفي إفريقيا والجنوب، حيث من المقرّر أن تلعبا دوراً حيويّاً في توزيع المساعدات والأسلحة الروسية. إنّ خسارة أيٍّ من هاتين القاعدتين كانت لتشكّل انتكاسةً كبرى لأهداف موسكو الجيوسياسيّة، مما جعل أيّ بديلٍ سياسيٍّ يضمن استمراريتهما مقبولاً على الفور.

لقد تحوّل بشّار الأسد، بمرور الوقت، من ركيزةٍ للنّفوذ الرّوسي إلى “عائقّ” سياسيٍّ. فعلى الرّغم من الدّعم العسكريّ المطلق، فشلت روسيا في ممارسة ضغطٍ حاسمٍ على الأسد لتقديم تنازلاتٍ سياسيّةٍ بسيطةٍ، سواءٌ في مسار اللّجنة الدّستوريّة أو في الابتعاد عن النّفوذ الإيرانيّ، مستغلاً في ذلك التّناقضات بين المصالح الرّوسية والإيرانيّة. هذا الجمود أدّى إلى وعيٍ روسيٍّ بأنّ التّمسّك بالأسد يعرّض مكتسبات موسكو الاستراتيجيّة للخطر ويعيق الانتقال إلى مرحلة “البناء السّلميّ”. ومن هنا، جاء التخلّي عنه والاعتراف السّريع بالشّرع ليزيل هذا العائق فوراً، ويفتح الباب أمام صفقات إعادة الإعمار المرتقبة.

كما تشير الدلالات إلى أنّ هذا الانتقال لم يكن فوضويّاً بالكامل، بل تمّ ضمن “اتّفاقٍ” ضمنيٍّ لضمان استمرارية المصالح الرّوسية. فقد تلقّت روسيا ضماناتٍ بعدم استهداف قواعدها من قبل الجماعات المسلّحة، وقامت بسحب عناصرها من الشّرطة العسكريّة من مناطق خفض الصّراع في الشّمال الشّرقيّ، وهو ما يؤكّد وجود تنسيقٍ استباقيٍّ لـ”تجنيب” القواعد أيّ مواجهاتٍ.. زدْ على ذلك رواية الأسد التي أسر بها في موسكو إلى من راجعوه بأنه عندما انتقل وشقيقه ماهر بطائرة روسية من دمشق إلى حميميم، كان قرارهما التوجه إلى اللاذقية للقتال ولكنهما فوجئا بقرار عسكري روسي بالانتقال إلى طائرة أقلتهما مباشرة إلى موسكو..

الشّرع في الكرملين

استقبلت موسكو أحمد الشّرع بحفاوةٍ، حيث ظهر وهو يصعد درجات الكرملين بعفويّةٍ، ويستقلّ سيارة “أوروس” الرّوسية الفاخرة التي يرفرف عليها العلم السّوري الجديد. هذا الاستقبال يؤكّد تحوّل العلاقة من “تحالف الهيمنة” تحت قيادة الأسد إلى “مفاوضات التّوازن” تحت قيادة الشّرع.

لقد أعلنت موسكو عن شراكةٍ براغماتيّةٍ، مؤكّدةً على سيادة ووحدة الأراضي السّورية، ودعم الحكومة الجديدة في مساعيها لبسط السّيطرة على كامل الأراضي، بالإضافة إلى دعمها الدّبلوماسيّ لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، وبخاصةً على مستوى مجلس الأمن الدّوليّ. هذا الدّعم يخدم المصلحة الرّوسية المباشرة ويتجلّى في فتح سوق إعادة الإعمار الضّخم أمام شركاتها المتعطّشة للاستثمار بعد سنواتٍ من العزلة، مستغلّةً الشرعيّة الجديدة للشّرع. وتتركّز الشّراكة الجديدة على توقيع عقودٍ جديدةٍ لتسليح الجيش السّوري، خصوصاً في مجال الدّفاع الجوّيّ، وإشراك الشّركات الرّوسيّة في مشاريع البنية التّحتيّة. ويؤكّد هذا التّوجّه أنّ النّفوذ الرّوسي أصبح الآن نفوذاً مؤسّسياً مرتبطاً بالدّولة السّورية الجديدة، بعيداً عن أهواء أيّ قائدٍ فردٍ، مما يجعله أكثر استدامةً وأمناً.

إقرأ على موقع 180  بوتين - بايدن: "ستارت-3" اختبار أول

أمّا المفارقة الأكثر وضوحاً، فتتعلّق بالتّعامل مع بشّار الأسد الذي أصبح “لاجئاً” أو منفيّاً تحت حماية روسيا. إنّ إدارة ملف المنفى هي خطوةٌ استراتيجيّةٌ ضروريّةٌ لموسكو، تهدف إلى ضمان انتقالٍ سلسٍ للسّلطة وعدم قيام الأسد أو مواليه بمحاولة إثارة الفوضى. والأهم هو ضمان حصانةٍ للأسد من المحاكم الدّوليّة، مما يمنع الكشف عن معلوماتٍ حسّاسةٍ حول تفاصيل التّعاون العسكري واللوجستيّ الذي قدّمته روسيا لنظامه على مدى سنواتٍ طويلةٍ. كما يظلّ الأسد المنفيّ ورقة ضغطٍ روسيّةً على بقايا مواليه داخل الهياكل السّورية لضمان طاعتهم للقيادة الجديدة.

يشير المسار المستقبليّ إلى أنّ العلاقة الرّوسية-السّورية ستتعمّق بشكلّ أكبر، مع تركيز روسيٍّ على تعزيز الدّفاع الجوّيّ وتأمين حصةٍ كبيرةٍ في مشاريع إعادة الإعمار ولا سيما في قطاع الكهرباء، بينما يبقى الأسد في المنفى كورقة ضمانٍ روسيّةٍ لعدم إثارة الفوضى – أو لإثارتها في حال أخلّ الشّرع بالاتفاقات، ما يتيح لموسكو دوراً أكثر مرونةً وواقعيّةً في التوازنات الإقليميّة

الدّلالات الاستراتيجيّة

يمثّل التحوّل الرّوسي خطوةً لإزالة العقبة الإيرانيّة المحتملة، ويسهل على موسكو لعب دور ضامنٍ للتّوازنات الأمنيّة الإقليميّة. إنّ دعم الشّرع في مساعيه لرفع العقوبات هو استراتيجيّةٌ مباشرةٌ لفتح سوق الإعمار، إضافةً إلى سعي روسيا للحصول على صفقات أسلحةٍ كبيرةٍ من دول الخليج مثل السّعودية والكويت والإمارات، كـ”الجَزَرَةِ الكبرى” مقابل تغيير موقفها من النّظام السّابق.

من النّاحية العسكرية، تركّز موسكو على تحصين وجودها قانونيّاً وتشغيليّاً. فمحادثات إعادة الهيكلة الجارية للمنشآت العسكريّة تهدف إلى ضمان استمراريّة عمل القواعد على المدى الطّويل كجزءٍ من استراتيجيّةٍ عالميّةٍ، وبخاصةً في ضوء دورها اللّوجستيّ الحيويّ تجاه أفريقيا. كما أنّ توقيع عقودٍ جديدةٍ لتسليح الجيش السّوريّ، في مجال الدّفاع الجوّيّ، يهدف إلى ضمان قدرة النّظام الجديد على حماية المصالح الرّوسية وصدّ التدخّلات الإقليميّة. وقد أكدت روسيا، عبر اتّصال بوتين ببنيامين نتنياهو، رفضها الصّريح للتدخّلات الإسرائيليّة ومحاولات تقسيم سوريا، وهو ما يشير إلى استخدام القيادة الجديدة لتعزيز السّيادة والرّدع.

التحدّيات المستقبليّة

على الرّغم من نجاح موسكو في إدارة التّحول، تواجه “سوريا الجديدة” تحدّياتٍ جسيمةً. أبرزها يتعلّق بالاستقرار الدّاخلي ومخاطر تفكّك السّلطة، وهو ما قد يهدّد المصالح الرّوسية. كما أنّ التّحدي الإقليميّ يفرض على القيادة الجديدة إدارة توازنٍ دقيقٍ بين حاجتها للدّعم الرّوسي وضغوط الدّول العربيّة لتقليل النّفوذ الإيرانيّ. ويظل تحدّي رفع العقوبات الغربيّة بالكامل أمراً بالغ الأهمّيّة؛ فمن الصعب إلغاء العقوبات الدّوليّة ما لم يتم تنفيذ عمليّة انتقال سياسيّ أعمق تتجاوز مجرّد تغيير القيادة. لذا، ستستخدم روسيا نفوذها الدّبلوماسي في مجلس الأمن لدعم جهود الشّرع لرفع العقوبات لتسهيل الاستثمار الروسيّ.

في الختام، أثبتت المفارقة الكبرى أنّ البراغماتيّة الجيوسياسيّة هي القوّة الدّافعة العليا لروسيا. لقد كان الولاء للمصالح الاستراتيجيّة والدّائمة (القواعد العسكريّة والعقود الاقتصاديّة) يتفوّق على الولاء للأشخاص. ويشير المسار المستقبليّ إلى أنّ العلاقة الرّوسية-السّورية ستتعمّق بشكلّ أكبر، مع تركيز روسيٍّ على تعزيز الدّفاع الجوّيّ وتأمين حصةٍ كبيرةٍ في مشاريع إعادة الإعمار ولا سيما في قطاع الكهرباء، بينما يبقى الأسد في المنفى كورقة ضمانٍ روسيّةٍ لعدم إثارة الفوضى – أو لإثارتها في حال أخلّ الشّرع بالاتفاقات، ما يتيح لموسكو دوراً أكثر مرونةً وواقعيّةً في التوازنات الإقليميّة.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  بوتين - بايدن: "ستارت-3" اختبار أول