يقول ميشال شيحا في كُتيّب بعنوان “لبنان اليوم”، ان لبنان لا يقوم “إذا كانت كلُّ طائفة تعيشُ والميزانُ في يدها، تضعُ وزيراً قبالة وزير وحاجبا قبالة حاجب”، حينها يساق لبنان الى “الحلول المستحيلة”. ويضيف أنه اذا فقد الحكم شرعيته وأفلت الزمام “تصبح القوى غير النظامية هي القوى المنظمة للدولة المسيّرة لها”.
الواقع ان ما حذّر منه ميشال شيحا وغيرُه من المؤرخين والمفكّرين، قد حصل فعلاً. صار تعيين حاجبٍ أو مديرٍ او موظف دفاع مدني أو حارس أحراج وغابات، يثير خلافا طائفيا ويطيح بالوحدة الهشّة التي قامت على التكاذب الاجتماعي، ومساحيق التآلف السياسي، بينما بقي جمرُ الطائفية والمذهبية كامناً تحت الرماد وقابلاً للاشتعال في كل لحظة.
هذا التعايش الطائفي الهش وخزعبلاته الدستورية المريبة والمزيّنة بعبارات منمّقة تشي بالفرقة أكثر مما تُرسّخ الوحدة مثل “الميثاقية الطائفية”، “العرف الطائفي”، “التعايش الطائفي”، “المكونات الميثاقية” وغيرها، أدى الى تفكك الدولة وقيام دويلات مكانها خصوصا مع بداية الحرب الأهلية في منتصف سبعينيات القرن الماضي. لا بل قامت دويلات غير لبنانية على ارض الوطن، فصار اللبناني مثلاً مُضطراً لإبراز هويته على حاجز فلسطيني او سوري وهو يعبر من منطقة الى أخرى، حتى اجتاحت إسرائيل الجميع ووصلت الى قلب بيروت بدعم أيضاً من أطراف لبنانية.
كل هذا الهزال الطائفي المدعوم من مافيا سياسية مالية مصرفية ومن مؤسسات دينية اسلامية ومسيحية، سمح لدول أخرى بأن تأخذ دور لبنان، وتفقده بالتالي مكانته الفريدة، فينسى أهله والعالم مثلا أن مدينة مثل صور الجنوبية قامت قبل روما الايطالية بألفي عام.
مع تفشي ظاهرة الفساد في لبنان واجتياح مافيات الكسّارات ومطامر النفايات التي أضيفت الى ما خلّفته القنابل والأسلحة الإسرائيلية من مواد مُسرطنة، تم تشويه الطبيعة وتلويث البحر الى حدود خطيرة، فاجتمع خطر التلوث مع المخاطر الأمنية والتفكك السياسي وغلاء المعيشة والاسعار والمواد الفاسدة، لتهريب السيّاح وقتل السياحة
لاحظوا من أخذ دور لبنان؟
- حين غرق لبنان بحربة الاهلية، تحوّلت دبي الى المركز المالي العالمي والتجاري الأول في المنطقة، فخسر لبنان تحويلات مالية كبيرة، كما انتقلت ممثليات الشركات الكبرى الى الامارات والخليج، برغم صعوبة المناخ وغربة العادات والتقاليد على الغربيين.
- مع قيام قوة عسكرية وسياسية حقيقية في لبنان ضد إسرائيل تعرف متى تقاوم ومتى تنتظر، فقدت الدول الغربية أملها في تحويل لبنان الى قاعدة أطلسية، وفي دفعه الى الصلح مع إسرائيل بشروط إسرائيلية. كان أمل هذه الدول أن ينتقل لبنان تماما بعد انهيار منظومة احزابه اليسارية والشيوعية والاشتراكية والقومية، الى الفلك الغربي كما حصل مع دول أخرى، لكن تبيّن ان القوة الاكبر فيه صارت أقرب الى روسيا والصين، وهي تدور عضويا في الفلك الايراني، ولها تأثير كبير على النظام السياسي برمته. فقد لبنان بالتالي دوره الغربي الذي انتعش مع الرئيس السابق كميل شمعون وحلف بغداد الشهير، وصار في موقع المشبوه اميركيا وغربيا (مع استثناءات قليلة). الغرب كان ولا يزال يريد إسرائيل الدولة الأقوى، وكل جوارها ضعيف.
- مع الانفتاح الاجتماعي والثقافي والفني الكبير الحاصل حالياً في السعودية مع الأمير محمد بن سلمان، بعد دبي والبحرين، صارت كبريات الفرق الفنية والمسرحية تفضّل ثراء وأمن الرياض على فقر وفوضى بيروت. واذا ما استمر الحال هكذا، سوف تصبح السعودية مقصدا لملايين السياح سنويا، بينما تكاد فنادق بيروت خاوية.
- كان لبنان يُعتبر في نظر فرنسا وكما قال الرئيس الراحل جاك شيراك مراراً “بوابة الفرنكوفونية” في الشرق، بينما نرى الآن ان دول المغرب وافريقيا صارت أكثر فعالية وحضورا في مجالات الفرنكوفونية، وتراجعت كثيرا اللغة الفرنسية في لبنان لصالح الدول الانغلوساكسونية، كما تراجع الى حد الاضمحلال الدور الفرنسي. وهو دور يعترف وزير الخارجية الفرنسي السابق اوبير فيدرين نفسه في كتابه “عوالم ميتران” بأنه كان هشاً وشبه مفقود منذ الحرب العالمية الثانية.
- مع تفشي ظاهرة الفساد في لبنان واجتياح مافيات الكسّارات ومطامر النفايات التي أضيفت الى ما خلّفته القنابل والأسلحة الإسرائيلية من مواد مُسرطنة، تم تشويه الطبيعة وتلويث البحر الى حدود خطيرة، فاجتمع خطر التلوث مع المخاطر الأمنية والتفكك السياسي وغلاء المعيشة والاسعار والمواد الفاسدة، لتهريب السيّاح وقتل السياحة، فصارت تركيا المقصد السياحي المفضل ليس للغربيين وحسب ولكن أيضا للعرب. أحسنت تركيا خفض أسعار السياحة اليها وجعل مناطقها جاذبة جدا بجمالها ونظافتها، بينما نجد في لبنان الكوارث البيئية والغلاء والفوضى والقلق.
- بعد ان لعب لبنان دور المركز الإعلامي الأول في الشرق، وكان الزعيم العربي جمال عبد الناصر وقادة الخليج يقرؤون صحف بيروت قبل صحفهم، انهارت مؤسسات إعلامية كثيرة وعريقة، وانتقل مركز الاعلام الاول ومراكز الدراسات الى الخليج. فما عادت الحرية الكبيرة وحدها في لبنان تنفع.
هذا غيضٌ من فيض فقدان لبنان دوره الإقليمي، ومن المرجح ان يتفاقم الأمر مع تزايد الضغوط باتجاه الرفع الكامل للسرّية المصرفية وانعدام الثقة بين المصارف وأصحاب رؤوس الأموال والتحويلات والودائع.
حين يفقد بلدٌ عواملَ الجذب فيه، أي السياحة والمصارف والأمن والثقافة والشروط الصحية (بعد ان كان لبنان مركز الطب الأهم في الشرق)، يُصبح السؤال الأهم حاليا:”هل ثمة من سيتهم لأمره فعلا”؟
انطلاقا من ذلك، يجب على رئيس الحكومة الجديد وعلى مسؤولي الدولة الحاليين والمقبلين، البحث الجدي عمّا يعيد للبنان دوره، وإقامة ورشة فكرية واقتصادية وسياحية وبيئية وتنموية وزراعية ومالية حقيقية يُشارك فيها اختصاصيون وليس مافيات سياسية ومالية، بغية وضع استراتيجية قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى لإعادة رسم معالم دور تلاشى نهائياً.
لبنان ما يزال بلداً جميلاً برغم كل شيء، وفيه حيوية شعب فريدة، ويملك من المقومات السياحية والطبيعية الكثير، ولو أحسنا استغلال الثروة الغازية المقبلة، نستطيع أن نجعله فعلا “سويسرا الشرق”، بعد ان نكون قد أعدنا من سويسرا الغرب الأموال التي نهبتها المافيات، فافقرت الشعب وافقدت البلد دوره.