“لعبة شطرنج” روسية-أميركية في الشرق السوري

تغيّرات ميدانية عدة تشهدها المناطق الشرقية والشمالية الشرقية من سوريا منذ نحو شهرين، على وقع محادثات وتفاهمات متتالية، تتبعها انسحابات وإعادة تموضع للقوات الأميركية وتمدد روسي هادئ، ضمن عمليات فرط عقد "قوات سوريا الديموقراطية"، بضغط تركي استغلته موسكو بشكل كبير.

منذ إعلان تركيا حربها على “قوات سوريا الديموقراطية” ونيتها التوغل العسكري على طول الشريط الحدودي الشمالي والشمالي الشرقي من سوريا لإبعاد خطر الأكراد، وهو الأمر الذي تبعه إعلان الولايات المتحدة عن انسحابها من قواعد عدة كانت تتمركز قواتها فيها في تلك المنطقة، بدأت موسكو عملاً دبلوماسياً وعسكرياً متواصلاً لضمان ملء الفراغ العسكري من جهة، وتقديم تطمينات لحليفتها أنقرة من جهة أخرى، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في توسيع مناطق النفوذ الروسي لتقترب أكثر من المثلث الحدودي بين سوريا وتركيا والعراق، ومن منابع النفط الأكبر في سوريا في تلك المنطقة، والتي تتمسك بها واشنطن بشكل كبير من جهة أخرى.

السياسات الأميركية المترددة، بين انسحاب كلي وجزئي وإعادة تمركز في مواقع النفط من جهة، والخوف من انقطاع طرق الامداد نحو قواعدها من جهة أخرى، وتوسع روسيا قرب مواقع نفوذها في العراق، واقترابها أكثر من تركيا (الناتو)، ساهمت بمجملها في خلط الأوراق، وإعادة التفاهمات مرات ومرات.

توسّع روسي

بعدما تركت الولايات المتحدة الأكراد لمصيرهم في حرب رأت أن “لا دخل لها فيها” ضد الأتراك، وجدت روسيا الأمر فرصة سانحة لعقد تفاهمات واتفاقات مع تركيا بشكل يمنع الحرب أولاً، ويضمن لتركيا مصالحها ثانياً، ويمهّد الأرض لتوسع روسي في الشرق السوري المهم.

الاتفاقات الروسية – التركية تضمنت تسيير دوريات مشتركة ضمن المناطق التي تنحسب منها قوات “قسد”، التي لم تجد حلاً إلا الموافقة على الاتفاق لضمان وجودها في ظل حرب غير متكافئة وجدت نفسها وحيدة فيها، الأمر الذي يتطلب بشكل رئيسي وجود عسكري روسي على الأرض، ضمن قواعد محددة.

الانسحاب الأميركي من المنطقة أفسح المجال لبدء توافد الجنود الروس، الذين أوكلت إليهم مهمة “المراقبة”، كما أفسح المجال أكثر لتوطيد هذا الوجود، وحمايته، الأمر الذي وفّره مطار القامشلي الذي يسيطر عليه الجيش السوري، حيث اتخذت القوات الروسية من مبنى قريب من المطار قاعدة لها، وقامت بنقل مجموعة من المضادات الجوية، ومنظومات الدفاع الجوي، بالإضافة إلى عدد من المروحيات، وسط أنباء عن مباحثات روسية-سورية لاستثمار مطار القامشلي وتحويله إلى قاعدة روسية، الأمر الذي لم تؤكده بعد دمشق، كما لم تنفه،  في ظل استمرار وجود الجيش السوري في المطار، وفق وما أكدت مصادر عسكرية لـ “180”.

تسعى روسيا لخلق “حاضنة شعبية” لقواتها  بما يمهّد الأرض لعودة سيطرة دمشق

توسّع روسيا شمل مناطق عدة، وقد استغلت القواعد الأميركية السابقة وتمركزت فيها، في كل من عين عيسى وصرين (في عين العرب) وسعيدية (في منبج)، بالإضافة إلى تل تمر، في ريف الحسكة الشمالي، ومنطقة “ديكة” التي تضم مطارا زراعياً في عامودا في ريف الحسكة، بجانب مواقع أخرى.

في السياق ذاته، ساهمت الوساطة الروسية بين الحكومة السورية و”قوات سوريا الديموقراطية” في إفساح المجال لتحركات أخرى، في ظل تراجع نفوذ “قسد”، حيث فتحت دمشق الباب على مصراعيه أمام من يود من “قسد” للالتحاق بصفوف القوات السورية الرسمية (الفيلق الخامس)، كما قامت قيادات أمنية وعسكرية سورية بزيارة الحسكة وعقدت لقاءات مع وجهاء من العشائر العرب لتشجيعهم على الانسحاب من “قسد” والالتحاق بالجيش السوري، وهو ما بدأ فعلياً على الأرض، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في خلق “حاضنة شعبية” للقوات الروسية في المنطقة، ويمهّد الأرض لعودة سيطرة دمشق على المنطقة.

عودة أميركية

التوسّع الروسي المتزايد قرب الحدود العراقية التركية، والاقتراب أكثر من مواقع النفط السورية التي تصر واشنطن على الاحتفاظ بها، دفع واشنطن إلى إعادة لملمة اوراقها، والبحث عن سبل للعودة الميدانية بشكل يؤمن مواقع سيطرتها داخل سوريا من جهة، وطرق الامداد بين قواعدها في سوريا والعراق من جهة أخرى، بالإضافة إلى مراقبة التحركات الروسية عن كثب قرب تركيا الشريك في حلف شمال الأطلسي.

وبعد انسحابها من قاعدة “هيمو” (حيمو) التي لا تبعد أكثر من أربعة كيلو مترات عن مطار القامشلي، عادت القوات الأميركية إلى القاعدة، وتمركزت فيها، كما قامت بتدعيم وجودها في قواعدها الأخرى في منطقة حقول الرميلان النفطية، وتل بيدر، والحسكة، والشدادي، لا بل عمدت إلى إنشاء قاعدة جديدة في بلدة القحطانية النفطية (شرقي القامشلي).

كذلك، أرسلت واشنطن تعزيزات عسكرية إلى كافة القواعد العسكرية الأميركية في سوريا، حيث تتمركز فعلياً في سبع منها  في المنطقة الشمالية الشرقية، من أصل 13 قاعدة ونقطة عسكرية في سوريا.

وبالإضافة إلى تأمين حقول النفط، تسعى واشنطن عبر انتشارها الجديد لتأمين طرق الامداد إلى قواعدها، ومحاولة إعاقة التمدد الروسي، والبقاء على مقربة من الطريق الرئيسي في المنطقة ( طريق M4)، الأمر الذي يمكن أن يفسر التصادمات المتتالية التي تتعرض لها القوات الأميركية بين وقت وآخر من قبل النقاط العسكرية السورية والروسية، وآخرها منع رتل أميركي من عبور طريق القامشلي الدولي من منطقة “دمخية”.

إقرأ على موقع 180  كابوس إسرائيل الأسوأ.. حرب متعددة الجبهات الصاروخية

تسعى واشنطن عبر انتشارها الجديد لتأمين طرق الامداد إلى قواعدها، ومحاولة إعاقة التمدد الروسي

وبينما ينصب اهتمام واشنطن على تأمين وجودها في المواقع النفطية، يبدو اهتمام موسكو ذا بعد استراتيجي، حيث يظهر توزّع قواتها على الخريطة حرصها على تأمين الطرق الرئيسية (M4)، بالإضافة إلى توسيع الحاضنة الشعبية خصوصاً بعدما تعرضت قواتها للرشق بالحجارة من قبل بعض الكرد، الأمر الذي اضطرت قيادة “قسد” إلى الاعتذار عنه عبر بيان مصوّر.

وعلى الرغم التحرك المتواصل ولعبة “القواعد” الأميركية الروسية، وتضارب المصالح، وهو ما شبهه مصدر سوري بـ “لعبة الشطرنج”، تشير معظم المعطيات إلى أن موسكو حققت نجاحاً كبيراً حتى الآن، واختراقاً للمنطقة الشمالية الشرقية، الأمر الذي يمكن أن يبنى عليه تصور مبدئي لمستقبل هذه المنطقة الغنية، ويتمثل بوجود روسي قوي، وتقوقع أميركي غير ثابت ومهدد في المواقع النفطية، خصوصاً إن نجحت موسكو في سحب الورقة الأخيرة في المنطقة، والمتمثلة بـ “قسد”، التي حولتها الولايات المتحدة من قوة عسكرية إلى مجرد “حرس للمصالح الاقتصادية”، من دون اية ضمانات مستقبلية، وهو ما ينصب تركيز كل من دمشق وموسكو عليه في الوقت الحالي.

Print Friendly, PDF & Email
علاء حلبي

صحافي سوري

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الجيش الإلكتروني الإيراني: جهوزية في الدفاع والهجوم