لنغادر أحزاب الصمت.. رأفة بالمستقبل العربي

الماضي يجب أن يموت. مائة عام عربي مؤهلة للدفن. قرن من الخسائر والضياع والإنهيارات والإنكسارات والتفتت. قرن جدير باللعنة ومؤهل فقط، للنسيان والنكران.

العالم العربي بلا نوافذ. لن تشرق شمسه من شرفة. إنه ميت يجرجر جثته كأنه صخرة سيزيف. أنقاض فوق أنقاض. مائة عام من الأحقاد والدماء والعداوات والسرقات والإنتهاكات والكراهية والحروب، بكل الحقارات والأسباب الملعونة. كيانات تكتسب حضورها من صخب عدائيتها أو من صمتها المتآمر على كل قضية.

هذا هو اليوم أنقاض. إن سياحة ذكية في الخريطة العربية، تدفع السائح إلى الذهول والتساؤل: هل هذه دول؟ هل هذه شعوب؟ ثم، السؤال الأصعب: هذه إلى أين؟ هناك شعوب معاقبة بلا ذنب. حُذفت من السياسة. دُربت على الطاعة. وإذا خرجت وتمردت، حملت هراوة الدين، وفتكت بالشقيق. مجرد النظر المحايد إلى هذه الجغرافيا تدفعك إلى فتح قواميس الشتائم. إنها تستحق أكثر من ذلك، وسلالات حكامها، مدنيين وعسكريين ومدنيين وتقدميين وملكيين وإماراتيين وجمهوريين، ليسوا إلا هذيان سياسي. يتقنون حراسة الكلمات ويتفوقون في فرض الصمت على الكلام الحقيقي، ويبذرون نفاقهم عبر واجهات إعلامية حديثة، والمشاهدون يكظمون صدقهم، وينخرطون في أحزاب الصمت، خوفاً من عقوبة تصل إلى محاكمة النوايا.

هذا الماضي يجب أن يموت. سجله أكثر سواداً من عتمة التخلف. لم يسجل في هذا الماضي العربي البائس إنتصار واحد يتيم. الحرية موؤودة. الشعوب منقادة بقوة القمع وفتات الإغراء وحذاقة النفاق. بلاد مغلقة على أهلها وعقولها وبكارتها، ومفتوحة لإستقبال الأعداء، بسلعهم وأسلحتهم ومحاورهم وأسواقهم. المواطن الصالح هو “المواطن” الصامت. هو الذي يعمل ولا يتذمر يأكل ولا يلتذ، طموحه الكبير، القليل من الحرية. أكبر سجن في العالم، هو هذه البلاد الراكعة، من المحيط إلى الخليج. السكوت والصمت هما بطاقة التأمين والأمان. شعوب تعيش تحت قبضة الأمرة. الحرية هي العدو الدائم لأنظمة المائة عام العربية. هل يصح عليها لقب الموت؟

كي لا يكون هذا الكلام مندبة بلا دموع، أو تضخيماً لمرض عابر، على العربي أن يتساءل بسره أولاً. ما هو سجل هذه الكيانات. ما عدد حروبها الاخوية؟ كم بلغت نسبة الخلافات البينية؟ كم كانت فلسطين رجساً فاجتنبوها؟ أين الثروة النفطية؟ ما حصة الفقراء والمعوزين والمشردين والطافرين في شوارع البؤس ومناطق التشرد والجوع؟ ما نسبة الأمية؟ لم كل هذه الحروب وما كلفتها؟ لماذا لا سماء عندنا بل جحيم! وألف سؤال وسؤال إلى أن نصل المفتاح المرمي: أين هو الإنسان العربي؟ أين هي ثروته؟ أين مجال حيويته؟ اين منتديات إبداعاته واسهاماته؟

فلنترك أحزاب الصمت تجيب عن هذه الأسئلة وسواها. الإنتماء هو الصمت السامي الذي تعيشه شرائح واعية وحساسة وخلاقة، ولكنها مقطبة الشفاه ومحطمة المبادرات. قلة سافرة وسافلة، تتحكم بخريطة بلاد جميلة ومعطاءة، من المحيط إلى الخليج.

لبنان نموذج. انه يراود العدم. سوريا محطمة ومجزأة وغارقة في دمها. فريسة بين أنقاض. العراق يُحتل من أعراق وعشائر وطوائف ومذاهب برعاية دولية وإقليمية متذابحة، وثروة منهوبة عن بكرة أجيالها القادمة. مصر العظيمة، قائدة الأمل الوحيد في زمن ما، باتت مشهداً سورياليا منفوخاً. ليبيا، السودان يا حرام، الخليج ينفق على حروبه وحروب الآخرين. اليمن دموع وثكالى وكراهية وبلد ممزق الولاءات

هذا الماضي يجب أن يموت. هذا الحاضر يلزم أن نهجره. فلتبدأ مواسم الهجرة إلى المستقبل. لا نفع يرجى من ماض آثم وفاشل ومعيب. لا نفع يرجى من حاضر بلغ القعر الأقصى. لبنان نموذج. إنه يراود العدم. سوريا محطمة ومجزأة وغارقة في دمها. فريسة بين أنقاض. العراق يُحتل من أعراق وعشائر وطوائف ومذاهب برعاية دولية وإقليمية متذابحة، وثروة منهوبة عن بكرة أجيالها القادمة. مصر العظيمة، قائدة الأمل الوحيد في زمن ما، باتت مشهداً سورياليا منفوخاً. لا كلام البتة يعلو على كلام الرئيس، والديموقراطية محمولة على رؤوس الحراب والديموقراطية رجس من قبل الشيطان فاجتنبوه. ليبيا، السودان يا حرام. الخليج ينفق على حروبه وحروب الآخرين. يدفع الجزية صاغراً. اليمن دموع وثكالى وكراهية وبلد ممزق الولاءات. البقية الباقية تعيش على كفاف الرغيف والكرامة. شيء واحد تجمع عليه هذه الكيانات: كرهها الشديد للإنسان والحرية والعدالة وإحترام الشعب. سياسة هذه الكيانات. هي في أن يُداس الشعب وأن يكتم كرامته. أما عن الحياة الفكرية فلا تسأل. لقد ساد عهد الإملاء. ممنوع الإنشاء. تباً: الحياة هي نفسها كل يوم شيء قريب من الموت بعيون مفتوحة.

بلاد جميلة في أقبح هيئة.

بلاد عريقة في عراء إنساني.

بلاد لم تعد تؤمن بالأمل. نشعر بالأسر من أُسرٍ وراثية، ولدت من رحم غرب مغاصب، تعرف أن النوافذ تطل فقط على أرض مكفهرة وشعوب تتقن الصبر حتى الثمالة.

خلص. ما لنا ولهذا الماضي. بلاد ميؤوس منها راهناً، حاضرها أسوأ من ماضيها. نماذج كثيرة تبعث في الشعوب العربية، بذرة اليأس البناء. الحاضر، أين ذلك الماضي، لا حياة فيه. هناك صخب كلامي وانسلاخ قيمي. بلاد لا تفكر بصوت عال. أعلى من صوت اللبنانيين في 17 تشرين لم نعرف. أعلى من حناجر المصريين لم نعرف، أسقط مبارك فحل مكانه مرسي. قيل، الكحل أفضل من العمى. ثم جاءنا العمى المطلق. خليج مقيّد بشروط الصمت ومقاد إلى معارك خاسرة ومدمرة. أعلى من صوت السودانيين لم نعرف. طار الرئيس، وغط عوضاً عنه، نتنياهو. يا للعار. فلسطين متروكة عمداً. لها “يهوه” يرعاها الديانات الإبراهيمية كلها تتفق على الفلسطيني. فلتصلبه. وسيضع العرب الحجر على باب القبر. فلا مسيح قام ولا فلسطين تقوم.

إقرأ على موقع 180  البابا يدق ناقوس الخطر: قلق على الوجود اللبناني

ماذا بعد؟

الماضي مات والحاضر رث ومبعثر وبلاد بلا نوافذ.

سنبقى أحياء. لن ندعهم يقتلون المستقبل أو يحتلونه، كما هم فاعلون اليوم. تعالوا نفكر بصوت عال. لنرفع قبضاتنا عالياً، وليكن دليلنا إلى المستقبل، خريطة طريق مضادة لكل الخرائط الإنهزامية التي كرّسها السلف السياسي السافل

إذاً ماذا؟

لا يبقى لهذه الشعوب غير المستقبل. لقد حلم رواد النهضة العربية. بمستقبل عربي حر، ديموقراطي، تقدمي، عادل، مدني، كتبوا في الحرية. حرية الإنسان وحرية المرأة. كتبوا في السياسة وإستقلال الشعوب والأمة. كانوا يتقدمون ببسالة القلم ووضوح الكلمات لصناعة مستقبل سياسي إجتماعي قوامه المواطنة والحرية والسيادة والتقدم. حلموا. كتبوا. حملوا هم النهضة الأولى. لقد خيّبت “النخب الملتزمة” هذا الهاجس. فضّلوا الإستعباد والإستبداد والظلم.

ليس أمام من يؤمن أن يشير بإصبعه إلى المستقبل.

هل من رواد جدد؟ المستقبل أمامنا بكر. لقد قتل الماضي. لقد عاثوا بالحاضر موتاً. ماذا بعد؟

لا تدعوهم يسرقون المستقبل.

المستقبل مشروع جديد. العمل من أجله دليل على أننا لسنا أمواتاً، بل أحياء عند شعوبهم يرزقون.

فلنبدأ القطيعة أولاً، مع هذا الإرث المنحط. مع هذه السنوات العجاف. مع هذه السلالات المضرجة بدمائنا وأحلامنا وحقوقنا.

من اراد منكم أن يمضي إلى المستقبل، فليستقل أولاً عن هذا الماضي المنكر. عن هذا الحاضر النتن. عن السلالات والعشائر والمذاهب والطوائف والأعراف وليبدأ بممارسة ما يطالب به من زمان.

اذا فقدنا المستقبل، فلنقف ولنتقبل التعازي بوفاتنا.

إنما لا. وألف لا. سنبقى أحياء. لن ندعهم يقتلون المستقبل أو يحتلونه، كما هم فاعلون اليوم. تعالوا نفكر بصوت عال. لنرفع قبضاتنا عالياً، وليكن دليلنا إلى المستقبل، خريطة طريق مضادة لكل الخرائط الإنهزامية التي كرّسها السلف السياسي السافل.

اذن: إلى اللقاء غداً. الحياة ليست نفسها دائماً. فكروا بصوت مرتفع. في المستقبل، عالم آخر، لا يشبه أبداً هذه الجثة المترامية، من المحيط إلى الخليج. ولنا عيون، ليست للبكاء، بل لكي ترى الطريق، ولكي تفتتح إنتظارات الصباح، ولكي نشاهد آثار القطيعة الحاسمة مع الماضي والحاضر.

كل ما كان يجب أن يتغير.

هل هذا إدعاء؟ هل هذه أحلام يقظة؟

لا. هذا واجب من يشعر أن الحياة ملكنا، وأننا أسياد على حياتنا.

وحياتنا، أقدس من كل المقدسات المعتقلة والمرتهنة.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إنها الحرب.. "غُرم" الجغرافيا و"غُنُم" التاريخ