أعلن تنظيم داعش يوم الخميس 2 كانون الثاني/يناير عن انتهاء “غزوة الثأر لمقتل الشيخين البغدادي والمهاجر” وذلك “لانتهاء المدة المحددة لها من قبل أمراء المجاهدين”.
بعد هذا الإعلان بساعات قليلة فقط كانت طائرات مسيّرة أميركية تُطلق صواريخها الحديثة لتمزيق جسد الرجل الذي كان أول من بادر في العام 2014 إلى إعلان الحرب ضد “داعش” وأوقف زحفه نحو العاصمة العراقية بغداد.
إنه قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” وصاحب فكرة “الحشد الشعبي” والقائد الفعلي لمعارك برّية كبرى خاضها الأخير لتحرير مدن العراق الرئيسية من وطأة الارهاب.
عدم التخطيط المسبق لتزامن الحدثين السابقين، لا يلغي ما انطوى عليه من دلالات ومؤشرات على طبيعة الانقلاب الذي حصل في المشهد منذ أعلنت حكومة العراق الانتصار على تنظيم “داعش” في نهاية العام 2017.
وإذا كان خروج واشنطن من الاتفاق النووي في أيار/مايو من العام 2018 أي بعد خمسة أشهر من إعلان النصر، يعتبر بمثابة إنهاء لزواج الإكراه الذي جمع بين إيران والولايات المتحدة على وسادة الحرب ضد الارهاب، فإنه يمكن اعتبار اغتيال قاسم سليماني بمثابة إيذان بدخول علاقة الطرفين إلى مرحلة جديدة سيكون عنوانها الرئيسي حروب الاستنزاف المتبادل وتسعير حروب الوكالة.
ويأتي احتمال ولوج المنطقة في أتون حرب استنزاف بين طهران وواشنطن متزامناً مع تأكيد تنظيم “داعش” أنه رغم انتهاء “غزوة الثأر”، التي حققت بحسب زعمه جميع أهدافها، فإن “المعركة لم تنته بعد وأن فاتورة الحساب ما زالت مفتوحة يتوارثها المجاهدون جيلاً بعد جيل وهم ينفذون وصيه أميرهم بإطالة أمد المعركة ضمن حروب استنزاف مستمرة” حسب ما ذكرت صحيفة “النبأ” (العدد 215) التي تصدر عن ديوان الإعلام المركزي في تنظيم “الدولة الاسلامية”.
ووسط تعدد حروب الاستنزاف وتضارب أهدافها، لا شكّ في أن تلك التي يقودها “داعش” ستجد أمامها من التسهيلات والأبواب المفتوحة ما لم يكن ليتوفّر لها لولا قيام الولايات المتحدة بإزاحة قاسم سليماني من المشهد.
بدأت بعض هذه التسهيلات تدخل حيز التنفيذ تدريجياً وعلى رأسها تعليق التحالف الدولي عملياته في العراق وإعلانه أن مهمته الرئيسية أصبحت الدفاع عن النفس، وكذلك قرار البرلمان العراقي المطالبة بإخراج القوات الأجنبية من العراق، علاوة على أجواء التوتر والترقب التي باتت تسود في المنطقة، ويمكن أن تؤدي في أي لحظة إلى تصعيد غير محسوب.
هذه الحقيقة لم تغب عن قراءة التنظيم للمرحلة الجديدة التي وضعها في سياق “التدبير الرباني لنصر المؤمنين”. وتنطلق القراءة من مفارقة غريبة مفادها أنه بينما تؤكد “غزوة الثأر”، التي توزعت عملياتها بين مختلف الولايات التابعة للتنظيم، على “وحدة جنود الدولة الاسلامية مهما باعدت المسافات بين ولاياتهم وفصلت الحدود والحواجز بين ساحات جهادهم وتفرقت بهم الألسنة والألوان والأعراق” وعلى “طاعتهم كلهم لإمام واحد ووجههم نحو هدف واحد”، فإن مقتل سليماني على العكس من ذلك يؤكد على “شدة بأس الكفّار في ما بينهم وحجم نكايتهم ببعضهم” وأن هؤلاء “بعدما اتحدوا خلال الفترة الماضية على قتال الموحدين وتناسوا خلافاتهم ونزاعاتهم، ها هم اليوم يقتلون بعضهم بعضاً ويتربص بعضهم ببعض” والأهم من ذلك أنهم أصبحوا “غير مبالين جميعهم بآثار حروبهم البينية على حربهم المشتركة ضد الدولة الاسلامية”.
وزيادةً في التشفّي، أشارت مقالة بعنوان “والله أشدّ بأساً واشد تنكيلا” إلى أن مقتل كبار قادة روافض العراق وإيران جاء على يد حلفائهم ضد الدولة الاسلامية وكانت نهايتهم بنفس الطائرات التي كانت تمهّد لهم الطريق إلى ديار الاسلام”.
“داعش”، أسوةً بإسرائيل، قد يجد مصلحته في استمرار حالة التوتر بين طهران وواشنطن
وقد لا تقتصر الفائدة التي سيجنيها التنظيم من إزاحة سليماني وما أعقبها من قواعد اشتباك جديدة، على اكتسابه مزيد من الوقت للعمل على إعادة هيكلة بنيته وترسيخ قيادته الجديدة والتعافي من الأضرار التي لحقت به جراء المتابعة البرية والجوية لخلاياه على مدار الساعة والتي توقفت منذ اغتيال سليماني، بل يمكن أن تتعدى فائدته إلى مجالات أخرى أهمها أن يجد لنفسه ثغرات يتسلل من خلالها بهدف التأثير على مسار الأحداث ورفع مستوى التوتر بين الطرفين المعاديين له.
“داعش”، أسوةً بإسرائيل على سبيل المثال، قد يجد مصلحته في استمرار حالة التوتر بين طهران وواشنطن والحرص على عدم إخماد أجواء المواجهة المباشرة بينهما، بل العمل بشكل حثيث على إيقادها وإبقائها قيد الاشتعال.
ولا تخفي إسرائيل رغبتها في تأجيج الصراع ومواصلتها التحريض عليه. وقد تكون الغارة التي قامت بها طائرات مجهولة، نفى التحالف الدولي قيامه بها، والتي استهدفت مقار لـ”الحشد الشعبي” على الحدود السورية العراقية بعد يوم واحد من الرد الايراني بقصف قاعدة الأسد في العراق، مجرد نموذج على ما يمكن أن تقوم به إسرائيل من الناحية العملية لتحقيق هدفها.
ومن غير المستغرب أن يجد تنظيم “داعش” نفسه منجرّاً إلى محاكاة السياسة الاسرائيلية المتمثلة في التحريض وزعزعة الاستقرار من أجل استدامة الفوضى وإبقاء حالة التوتر والاستنفار، ترجياً لأي انزلاق نحو فخ التصعيد.
وانطلاقاً من ذلك قد لا يفوّت “داعش” أية فرصة يمكن أن تلوح أمامه للعمل على ضرب أهداف تابعة لأحد عدويه إيران وحلفائها أو الولايات المتحدة وحلفائها، على أمل أن يؤدي ذلك إلى استمرار إنشغال الطرفين أحدهما بالآخر بينما يكسب هو مزيداً من الوقت من أجل ترتيب بيته الداخلي واستعادة قوته.