رجل “داعش” البدين… من “هيئة العلماء” إلى “الحسبة”

"حاول لمّا تقرأ الكتاب أن تُبعد كل المشاغل عنك .. لا تنشغل بغير القراءة". لكن صاحب هذه المقولة سرعان ما قاده "تركيزه في القراءة" إلى أحضان تنظيم "الدولة الاسلامية" حتى أصبح من كبار قادته. إنه شفاء علي بشير النعمة "أبو عبدالباري" الذي عُرف بعد القبض عليه يوم الخميس الماضي بلقب "مفتي داعش البدين".

حتى العام 2014 كان شفاء النعمة شيخاً عالماً جليلاً معروفاً ليس في الموصل –مسقط رأسه-  فحسب بل في أصقاع العالم الاسلامي. وكانت له صولاته وجولاته في ميادين الدين والفقه والأعمال الخيرية، متنقّلاً بين المحافل والمؤتمرات ومجالس العلم كأحد أبرز علماء الدين العراقيين المعروفين في هذه العصر.

مقولته السابقة حول “القراءة” مقتبسة من كلمة ألقاها في حفل “أقرأ السنوي الثاني” الذي شهدته مدينة الموصل في شهر تشرين الأول من العام 2013، أي قبل أشهر قليلة من وقوع المدينة تحت سيطرة تنظيم “داعش”.

وقد شغل خريجُ جامعة المدينة المنورة في السعودية منصب عضو هيئة علماء المسلمين في العراق وفرعها في الموصل، فضلاً عن ترأسه مركز “إمام المتقين”. وتعرّض مطلع العام 2006 للاعتقال على يد قوات الاحتلال الأميركي فأصدر قسم الثقافة والإعلام في الهيئة بياناً استنكر فيه اعتقال الشيخ الذي كان يتولى أيضاً إمامة مسجد الشهيد مازن في حي المصارف في مدينة نينوى.

تكشف هذه النقطة عن مدى التحول الذي طرأ على فكر الرجل ومبادئه العقائدية، لأن هيئة علماء المسلمين التي حاز عضويتها لسنوات كانت واجهة لجماعة “الاخوان المسلمين” في العراق، وكانت الأخيرة ممثلة في الحياة السياسية العراقية عبر الحزب الاسلامي الذي لعب الدور الأبرز في تشكيل الهيئة ودعمها من خلال شخصية الشيخ الراحل حارث الضاري.

اتخذت الهيئة اثناء عضوية شفاء النعمة فيها عدداً من المواقف التي تدلل على حجم الهوة التي كانت تفصل بينها وبين فكر وسلوك الجماعات الجهادية التكفيرية وعلى رأسها جماعة أبي مصعب الزرقاوي التي أصبحت في ما بعد “دولة العراق الاسلامية”، ولاحقاً عرفت باسم تنظيم “داعش”.

أهم هذه المواقف على سبيل المثال: إدانة استهداف الكنائس في العراق وخاصة موجة التفجيرات التي حصلت في العام 2004. وفي شهر أيلول/سبتمبر من العام 2005، طالبت الهيئة أبا مصعب الزرقاوي بالتراجع عن التهديدات التي وجهها إلى الشيعة. وذلك قبل أن تتدهور العلاقة بين الطرفين وصولاً إلى درجة العداء المسلح ومساعي التصفية المتبادلة.

لكن كلّ شيء تغير منذ سيطرة تنظيم داعش على الموصل في شهر حزيران/يونيو من العام 2014. فجأة انقلب الشيخ شفاء النعمة على نفسه وتوجهاته السابقة التي يفترض أنه تبناها أثناء عضويته لهيئة علماء المسلمين، وأعلن بيعته لتنظيم داعش وزعيمه آنذاك أبي بكر البغدادي.

هنا اختلفت الروايات حول انضمامه إلى التنظيم. فرواية تقوله أنه كان منذ البداية من الخلايا النائمة التي كانت تميل إلى تنظيم “داعش” ولكن موازين القوة السائدة أنذاك كانت تمنعها من التعبير عن ذلك… وأن الشيخ سارع إلى مبايعة التنظيم بعدما زالت العقبات وأصبحت الموصل تحت سيطرته.

لكن رواية ثانية تنفي ما سبق وتؤكد أن شفاء النعمة بقي بعد سيطرة التنظيم على محافظة نينوى ومدينة الموصل معتكفاً في منزله ينتظر المصير الذي سترسمه له قيادة “داعش” شأنه في ذلك شأن المئات من رجال الدين الموصليين.

اختلفت الروايات حول انضمام شفاء النعمة إلى تنظيم “داعش”

وكان تنظيم “داعش” فور دخوله إلى الموصل قد عمد إلى اتباع سياسة التصفية الجسدية ضد أي عالم أو رجل دين يستشعر بخطره عليه. وبلغ عدد هؤلاء ممن قتلهم التنظيم أكثر من مئتي عالم وطالب علم.

مصير شفاء النعمة كان مختلفاً فلم يتعرض للقتل مثل زملائه الآخرين، بل أدّت خلافات اندلعت بين أجنحة داخل التنظيم حول طريقة التعاطي في إدارة ملف الموصل والتعامل مع أهلها، إلى تغيير مسار حياته وربما تغيير أفكاره وعقائده، لكن الأهم في ذلك الحين أنها جعلته من بين الناجين من حملة “داعش” ضد علماء الدين في الموصل.

يبرز في هذا السياق اسم رضا صيام المصري الألماني الذي كان يتولى منصب مسؤول ديوان التعليم في تنظيم “داعش”. كان صيام المعروف بلقب “ذو القرنين” يعاني من خلافات كبيرة مع قيادة “اللجنة المفوضة” التي كان يتولاها أبو مسلم التركماني. وتصاعدت هذه الخلافات منذ أصدرت اللجنة المفوضة عام 2014 قرار “استتابة المعلمين” في كل من سوريا والعراق قبل السماح لهم بالعمل في مؤسسات الدولة الاسلامية. وفي حين سرى هذا القرار في سوريا بكل سلاسة لوجود مبررات شرعية تمثلت في ذريعة أن معلّمي سوريا كانوا يقسمون الولاء لحزب البعث العلماني، تعرض القرار لموجة رفض واسعة على الضفة العراقية واستند الرافضون إلى أن معلمي العراق لم يكونوا مضطرين للقسم خلافاً لزملائهم في سوريا. واضطر والي الموصل آنذاك شاكر الحمداني إلى إلغاء قرار الاستتابة.

ولتفادي مثل هذه الاستعصاءات التي واجهت “الدولة الاسلامية” في بداية إدارتها لملف الموصل، رأى رضا صيام “ذو القرنين” ضرورة التواصل مع الشخصيات الدينية المؤثرة في المجتمع الموصلي ومحاولة استقطابها. وكان من بين هؤلاء “شفاء النعمة” وصديقه أبو أيوب عبدالله البدراني. حيث أكدت شهادات متقاطعة على أن رضا صيام كان له دور رئيسي في إقناع الشيخ شفاء النعمة بمبايعة التنظيم.

إقرأ على موقع 180  "صفقة قرن" جديدة في المنطقة.. وهذه مؤشراتها

هذا التسلسل التاريخي قد يطرح الكثر من علامات الاستفهام حول بعض المعلومات التي يجري تداولها عن جرائم شفاء النعمة بعد انتسابه لتنظيم “داعش” وخاصة جريمة تفجير جامع النبي يونس، فقد قام تنظيم داعش بتفجير الجامع في تموز/يوليو من العام 2014، والمؤكد أن شفاء النعمة لم يكن يتولى أي منصب في التنظيم في ذلك الحين بل لم يكن قد بايعه بعد، فقد تولى شفاء النعمة منصب مسؤول ديوان الحسبة، ومن المرجح أن ذلك لم يحصل قبل منتصف عام 2015، في حين تولى صديقه أبو أيوب منصب مفتي ولاية نينوى (قتل عام 2017) المعروف بنزعته التكفيرية المرعبة لدرجة أنه أفتى باستهداف المدارس والمطاعم انتقاماً من أهل الموصل. وذلك على عكس المعلومات التي يجري تداولها حالياً بأن النعمة كان هو مفتي التنظيم.

الشكوك حول نسبة جريمة تفجير جامع النبي يونس لشفاء النعمة لا تعني أن سجل الرجل خالٍ من الجرائم والارتكابات، إذ أن ديوان الحسبة كان يتولى مهمة مراقبة مدى التزام الشارع الموصلي بقواعد الشرع الاسلامي وفرض عقوبات على كل من يخالفها.

وفي إطار هذه المهمة عانى الموصليون الويلات على يد شفاء النعمة الذي بثّ رجاله في جميع أنحاء المدينة ليحصوا على الصغار والكبار والنساء والرجال وحتى الأطفال أنفاسهم ويضيقوا عليهم ويقوموا بتعذيبهم وجلدهم وقطع أطرافهم بذريعة مخالفتهم للشريعة الاسلامية وتعاليم التنظيم حولها.

عانى الموصليون الويلات على يد شفاء النعمة الذي بثّ رجاله في جميع أنحاء المدينة لفرض “تطبيق الشريعة”

ومما يذكره الموصليون عن الرجل أنه قام بتلميع صورة كل من عدي العكيدي وشقيقه ضرار المعروفين بسلوكياتهما غير الأخلاقية ونزعاتهما التكفيرية والعدوانية، حيث قام بتعيين الأول إماماً لجامع الصراط المستقيم في حيّ صدام علماً أنه لا يجيد القراءة والكتابة. ومن أشهر مقولات إمام الجامع الجديد أنه “لا يوجد في حي صدام مسلمين” في تعبير عن رؤيته بأن جميع سكان الحي هم كفار ومرتدون وخارجون عن دين الاسلام. وقيل في شهادة منشورة على صفحة “فيسبوك” بعنوان “خوارج داعش” أن حارث صهر شفاء النعمة كان يعمل ضمن مجموعة عدي، وهو ربما ما يشير إلى موافقته على صنيع هذه المجموعة وإلا لم يكن وضع صهره بين أعضائها.

وقد تكون المفارقة أن أحد إعلاميي التنظيم وفي شهادته لوسائل إعلام عراقية أكّد عام 2018 أن قيادة “داعش” قررت طرد شفاء النعمة من صفوفها بسبب تساهله وميله إلى الفكر السروري. ولكن هذه المعلومة بقيت من دون دليل يثبت صحتها، لا سيما أنها صدرت بعد خسارة التنظيم لمدينة الموصل. وقد تكون مجرد طريقة لحماية الرجل من ملاحقة أجهزة الأمن باعتباره أصبح مغضوباً عليه من قيادة التنظيم.

اليوم أصبح شفاء النعمة قيد الاعتقال بعدما ألقت قوات “سوات” العراقية القبض عليه في مكان إقامته في حي المنصورة في الموصل الأسبوع الماضي.

وكان من الملفت أن وزن الرجل قد زاد كثيراً حتى أصبح غير قادر على الحركة بسبب بدانته، ما اضطر أجهزة الأمن العراقية إلى نقله بشاحنة من مكان القبض عليه إلى السجن.

ولاحقاً ألقي القبض على شقيقه، ولكن ما زال نجله عبدالباري الذي يتكنى به متخفياً وهو الذي تقول المعلومات أنه كان الذراع اليمنى وربما المحرك الرئيسي لوالده من وراء الستارة.

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله سليمان علي

كاتب وصحافي سوري، وباحث في شؤون الجماعات الإسلامية

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  الإنتفاضة والمقاومة.. والدولة الجديدة