ستعيش تونس هذه الأيام وما يتلوها لاحقاً، المخاض العسير الأصعب لميلاد أوّل حكومةٍ بعد انتخاب قيس سعيّد رئيساً للجمهوريّة في 15 أيلول/سبتمبر 2019، ثمّ تقلّده المنصب رسمياً في23 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بعد الجدل الذي رافقَ ما صار يُعرف في الأدبيّات السياسيّة المغاربيّة بـ”التجاهل الألماني لتونس” في مؤتمر برلين، واعتراض تونس على المشاركة في صناعة مستقبلٍ ليبي خالٍ من الصراع، بحجة تأخّر توجيه الدعوة لها في ما خصّ “قمّة برلين” في شأنٍ يتّصل بشكل مباشر بها، لاسيما أنّ تونس استقبلت 10 آلاف لاجئ قدموا من ليبيا في الأسبوع الماضي فقط، مع تجدّد الاشتباكات بين فرقاء الأزمة الليبيّة، بحسب ما قالهُ المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تونس مازن أبو شنب في يوم 11 من الشهر الجاري.
هذا المدخنة (ولادة الحكومة) أمامها زهاء شهر كامل حتى يتصاعد الدخان الأبيض من فوّهتها الضيقة، من أجل تكوين حكومةٍ يصاحب ميلادها جوّ سياسي غير مريح.
وسيتولّى الياس الفخفاخ تكوين الحكومة في أجل لا يتجاوز مدّة شهر ابتداءً من اليوم الثلاثاء 21 كانون الثاني/ يناير 2020 وهي مهلة، غير قابلة للتجديد بحسب ما تنصّ عليه الفقرة الثالثة من الفصل التاسع والثمانين من الدستور. على أن تُعرض تركيبة الحكومة على مجلس نواب الشعب لنيل الثقة.
ويأتي هذا التكليف، يضيف البيان الرئاسي، “في ختام سلسلة من المشاورات الكتابيّة التي أجراها رئيس الجمهوريّة مع الأحزاب والكتل والائتلافات بمجلس نوّاب الشعب، وبعد لقاءات مع المسؤولين عن أكبر المنظمات الوطنيّة ومع عدد من الشخصيات التي تمّ ترشيحها”.
ويخوّل الفصل 89 من الدستور، رئيس الجمهوريّة تحديد الشخصيّة التي يراها الأقدر على تكوين حكومة، متيحاً بذلك للجهة التي منحها سلطة التقدير أن تختار من يتراءى لها أنّها هي الأقدر.
من هو الفخفاخ؟
ولد إلياس الفخفاخ سنة 1972في باب الخضراء بتونس العاصمة. حصل على شــهادة فــي الهندسة سنة 1995 مــن المدرسـة الوطنية للمهندسين بصفاقس ( 267 كلم جنوب شرق العاصمة: تونس)، ثمّ ماجستير فـي الدراسات الهندسيّة المعّمقة مـن مدرسة “INSA” بـ ليون، والماجستير في إدارة الأعمال من جامعة “Essonne” بباريس. عمل عدّة سنوات في شركة “توتال” النفطيّة أولاً في تونس، ثمّ في بولونيا ثانياً، قبل أن يُدير عام 2006 معمل “كورتريل” المتخصص في غيار السيارات.
كُلّف في كانون الأول/ ديسمبر 2011 بحقيبة السياحة في حكومة حمّادي الجبالي، ثمّ أنيطت به وزارة الماليّة في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2012. بعد فترة خمسة أشهرٍ تولّى خلالها كاتب الدولة سليم بسباس الوزارة بشكلٍ مؤقت بُعيد استقالة حسين الديماسي. في أيّار/ مايو2013، تمّ تثبيته كوزير للماليّة في حكومة علي العريّض.
ينتمي الفخفاخ إلى المكتب السياسي للتكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (الاشتراكي)، ورأس مجلسه الوطني، ويعدّ أحد أعضاء الحكومة الأربعة المنتسبين إلى الحزب.
لم يقدّم التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريات أيّ مرشحٍ للانتخابات الرئاسيّة التي فاز فيها قيس سعيّد. كما تعرّض التكتّل إلى هزيمة مؤلمة في التشريعيّات، إذ لم يحرز الحزب شيئاً في الانتخابات البرلمانية التونسيّة لسنة 2014 ثم إنتخابات 2019.
الاحتمالات والمآلات
ربما لا يجدر بنا الحكم مبدئياً عن فرص النجاح والإخفاق في تشكيل حكومة تونسيّة تضطلع بآمال الرئيس المنتخب، ومن ورائه؛ الآمال العريضة التي يعقدها التونسيون على رئيسٍ جاء إلى الرئاسة من خارج الطوق السياسي الكلاسيكي في الحكم، وبغضّ النظر عن المدى المنتظر من أداء رئيس الجمهوريّة التونسيّة، كونهُ لم ينبثق من هيراركيّة (التراتبيّة) السياسة، ولم يقُد يوماً عملاً سياسياً تشاركياً، ذلك أنّ ماضيه برمتهِ لا يخرج عن عوالم الأكاديميّا، وثمّة فرقُ فالق الوضوح بين السياسة في إطارها النظري والسياسة في شقّها العملي.
لقد خسر ماكس فيبر الانتخابات البرلمانيّة مرتين على التوالي، الأولى، في كانون الثاني/ يناير 1918، عن الحزب الديمقراطي الألماني، والثانيّة، بعدها بحوالي خمس سنوات عندما صار رئيسه بشكلٍ رسمي، برغم أنّه أحد أعظم المنظّرين الاجتماعيين في النظريّة العامة للدولة والحكم في التاريخ الإنساني، بيد أنّ هنالك ضوء في نهاية النفق ليس ضوء القطار بالضرورة، ذاك الذي رآهُ سلافوي جيجك لمستقبلنا البشري، وإنّما هو شيء من الأمل يطوف بحياءٍ وجلٍ في قلوب التونسيين.
إذا أراد إلياس الفخفاخ أن يقدّم شيئاً للتونسيين عليه أن يتحرّر من حزبهِ أولاً، بالتأكيد ليس هذا التحرّر هو الانعتاق تماماً عن الانتماء، وإنّما انتهاج سياسة قائمة على تأسيس شعبيّة جديدة
ما المنتظر من الفخفاخ؟
إذا أراد إلياس الفخفاخ أن يقدّم شيئاً للتونسيين عليه أن يتحرّر من حزبهِ أولاً، بالتأكيد ليس هذا التحرّر هو الانعتاق تماماً عن الانتماء، وإنّما انتهاج سياسة قائمة على تأسيس شعبيّة جديدة، لا سيما أنّ حزبه (التكتّل الوطني من أجل العمل والحريات) لم يحرز مقعداً واحداً في تشريعيّات 2014، في حين فازت أحزاب “مجهريّة” وأخرى حديثة بمقاعد نيابيّة مثل حزب صوت الفلاحين وحزب المبادرة، وحزب المحبة والجبهة الوطنيّة التونسيّة، بلّ إنّ الأوراق الملغاة في وقتها، حصّلت أضعاف ما حصدهُ حزب التكتّل من ناخبيه! وتكبّد الحزب هزيمةً أخرى في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة سنة 2019، حيث لم يحصل على أيّ مقعد، وأحرزت أحزاب مجهريّة أخرى مقاعد نيابيّة، مثل قائمة “مواطنون ونشارك” وحركة الوطن الجديد وحزب الرحمة الإسلامي وحزب البديل والاتحاد الديمقراطي الاجتماعي.
يبدو الفخفاخ قريب إلى حدّ ما من نيل ثقة الأغلبيّة البرلمانيّة ممثلةً في حزب النهضة الإسلامي، الذي حصل على 52 مقعدا في الانتخابات الأخيرة، كونهُ كان حليفاً لها في ما كان يُعرف سنة التأسيس في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 بـ”الترويكا”، وحمل عليها مع حزبه، مغبّة العقاب الانتخابي اللاحق بعد ثلاث سنوات من التحالف انتهت في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، لم تكن ورديّةً كما وعدت أطراف التحالف التونسيين، بلّ تميّزت بالخضوع شبه التام لما اعتبره البعض “إملاءات” حركة النهضة على التكتّل وزميله في الترويكا، المؤتمر من أجل الجمهوريّة الذي نال رئيسه المنصف المرزوقي هزيمة كبرى في الانتخابات الرئاسيّة أدّت به إلى اعتزال العمل السياسي كله.
من هنا، يبدو أنّ ما سينال حكومة الفخفاخ التي قال عنها اليوم بأنّها ستكون “حكومة كفاءات مصغرة” في أوّل ظهور لهُ بعد تكليفه، من إفشالٍ متوقع من قِبل باقي أحزاب الأغلبيّة غير المتحفزة لمنح الثقة (حزب قلب تونس: 38 مقعدا. حزب التيار الديمقراطي: 22 مقعدا. حزب ائتلاف الكرامة: 21 مقعدا. الحزب الدستوري الحر: 17 مقعدا. حركة الشعب: 16 مقعدا. حزب تحيا تونس: 14 مقعدا)، قد يكون إنجاح مرتقب إذا أحسنت حركة النهضة عقد تحالفات جديدة، قوامها، التخفيف قليلاً من ثقل شروطها من أجل مرشحٍ ينتمي لحزبٍ كان زميلها أيام الترويكا وتحمّل جرّاء هذا الزواج التعيس، طلاقاً بائساً في التشريعيّات اللاحقة.
الغنوشي “لا يعارض”
لكن رئيس مجلس الشعب ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، أبدى “تبرّمه” من هذا الاختيار حسب بعض الأنباء الواردة من مصادر لم يتسنّ التأكد من صدقيّتها بعد، غير أنّه لم يعارض، أو أجّل معارضته أو موافقته، إلى حين طرح الحكومة في الآجال المحدّدة. في حين ذكر موقع قناة “نسمة” التونسيّة المملوكة لصاحبها نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس بأنّ “الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس النواب أعلمت رئيس الجمهورية برفضها التام لإلياس الفخفاخ، خاصة وأن حزاما سياسيا كبيرا التف حول شخصيات أخرى مثل حكيم بن حمودة أو الفاضل عبد الكافي وأن هذا الاختيار سيدخل البلاد في أزمة سياسية خطيرة”.
يبقى فقط من هذا الالتباس السياسي، من رشح إلياس الفخفاخ، ومن لم يُعارض، ومن لم يناصر؟
من رشحهُ هو حزب تحيا تونس الذي يرأسه رئيس الحكومة السابق و”المُعاقب” انتخابياً بالمركز الخامس في رئاسيّات 2019 في الدور الأول يوسف الشاهد، مزدوج الجنسيّة (تونسيّة+ فرنسيّة)، وحزب التيار الديمقراطي، وحتى لو تحالفا فلن يصلا إلى عدد المقاعد التي حصلها حزب قلب تونس وحده، دون احتساب النهضة إذا لم يغيّر رئيسها من “تبرّمه” من اسم إلياس الفخفاخ، وينزل حزبه من هضبة “لا يعارض” إلى سهل “أتحالف”، دون اتخاذ أسباب تصعيديّة تمنع هذا التوافق من أجل ميلاد حكومة جديدة إنْ حصل بين أكثر من طرف برلماني، ذاك أنّ الأداء المتواضع أفضل بما لا يُقاس من الفراغ المُخلّ، فكما أنّ الأسباب في السياسة، كما قال ماركس، ناجحة في استيلاد نفسها من نفسها، ولكنّها فاشلة في الغالب الأعمّ في أخذ شكلها المعقول.