لبنان الضاحك سياسياً.. شعبه “رايح فين”؟

المشهد اللبناني اليوم غاية في التعقيد. صحيحٌ أن تركيبة بلد كهذا تبدو كأحجية فريدةٍ في تفاصيلها، لا يُحلّ فيها لغزٌ إلا وينبت من الحل نفسه لغز آخر، وصحيحٌ أيضا أنّ الأحداث "المشوّقة" متّسمة بسوداويّةٍ مقلقة، لكن ثمّة في الصورة العامّة ما هو لافت للنظر، وما قد يعبث في السوداويّة المطبقة، فيسخر منها، ويحيلها مادّةً أوليّةً تدخل في صناعة "هضامةٍ" ساعدت وسائل التواصل الاجتماعيّ على تمظهرها، لتكشف بذلك عما هو مختبئ في الشخصية اللبنانيّة المحنّكة.

عودة بالزمن إلى ما يقارب العشر سنين خلت، ثمة ثقافةٌ سياسيةٌ مرحة تسرّبت إلى الشارع العربي، لتكون من جهة بمثابة مادة للتسلية والترفيه، ولتغدو من جهة أخرى أسلوباً من أساليب التعبير الحر البعيد عن المساءلة القانونية، والذي أظهر جرأة في انتقاد الناس لزعماء يناهضونهم، أو ربما حتى يوالونهم. يتبدى في خفايا الطرائف نوعٌ من الوعي النقدي المبطن، الذي لا يقدر صاحبه ربما على الإجهار به بالطريقة المجردة؛ هذا تحديدا ما يعبر عنه المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري بالقول: “النكتة باعتبارها جزءاً من الثقافة الشفهية يمكن أن تكون قناة يعبّر من خلالها الرأي العام الشعبي عن رأيه ورؤيته وغضبه بعيداً عن رقابة سلطة الدولة المركزية، وبالتالي يمكن للنكات أن تكون مؤشرا على تصاعد الوعي الشعبي، ودعوة لقوى المعارضة وأعضاء المجتمع المدني للتحرك، تساندهم قاعدة  شعبية عريضة”.

وإذا كانت النكات مؤشرا على تصاعد الوعي الشعبي حقاً، فإن حراك 17 تشرين الأول/أكتوبر اللبناني، قد سجل في تداعياته رقماً قياسياً في الطرائف المطروحة في بازار النكتة السياسية. فهل نحن أمام مؤشر يشي بنهوضٍ في ذهنية اللبنانيين السياسية أم أن للواقع اللبناني خصوصية معينة، تتعلق بشعب يقوى على “التنقير”، من دون أن يصبّ ذلك في إطار منظومة نقدية واعية وعميقة ومنظمة ومؤطرة؟

وعلى سبيل المثال لا الحصر، شهدنا في الأيام القليلة الماضية رواجاً واسع الانتشار لفيديو النائب القومي السوري سليم سعادة في مجلس النواب، وفيه يحاول إيصال رسالة مفادها بأن لا محظورات بعد الآن، طالما ترتكب السلطة محظورات كثيرة، وبوقاحة، وبالتالي، ثمة علاقة جدلية بين “المحظورَيْن” هنا وهناك. بهذا المنطق نفسه، يمكن أن  يبرّر حجم الشتائم التي رافقت انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر. جوهر الكلام هو أن النكتة السياسية لم تعد حصرية بنائب أو طبقة سياسية بل صارت متاحة للجميع.

ابتكرت قوات مكافحة الشغب في الشرطة السويدية أسلوبًا جديدًا لفض المظاهرات عن طريق غاز الضحك، أو أكسيد النيتروز، حيث استخدمته لتفريق مظاهرة تطالب بتعديل بعض قوانين المساواة بين الجنسين، في العاصمة استوكهولم. فماذا لو  استخدمت قوى مكافحة الشغب هذا الأسلوب مع الشعب اللبناني

وعلى الهامش، فإن الضحك غدا وسيلة لردع المتظاهرين حتى! وهنا ليس الحديث عن الضحك الذي يستتبع النكات، إنما هو وليد شيءٍ آخر، فقد ابتكرت قوات مكافحة الشغب في الشرطة السويدية أسلوبًا جديدًا لفض المظاهرات عن طريق غاز الضحك، أو أكسيد النيتروز، حيث استخدمته لتفريق مظاهرة تطالب بتعديل بعض قوانين المساواة بين الجنسين، في العاصمة استوكهولم. فماذا لو  استخدمت قوى مكافحة الشغب هذا الأسلوب مع الشعب اللبناني، وانتشر فيديو القمع سريعا كانتشار فيديو النائب سعادة؟ هل كان ليزيد إبداع اللبناني في “التنكيت”، أم أنه سيظهر مقدرة عجيبة على إزعاج السلطات بالضحك أيضاً؟

أيا يكن، فإن الخوف  كل الخوف يكمن في أن يصدق على الواقع اللبناني التحليل النيتشوي، الذي يعتبر “النكتة سخرية من موت الشعور”، لتكون كل الطاقات الكامنة التي سمحت لها الطرائف بالإنطلاق والتحرر مجرد آلية دفاعية للتأقلم مع واقع مرير، ولحماية النفس من الوقوع في فخ الاكتئاب. من هنا ربما بالإمكان فهم الإبداع والغزارة في النكات اللبنانية في الآونة الأخيرة.

أمام كل هذا “المرح”، يطرح السؤال اليوم: هل يستسيغ الزعماء هذا الواقع “الطريف”، أم أنهم يتمنون تحجيمه ولو قيض لهم أن يفعلوا، لما قصروا في ذلك؟

يقال إن يوليوس قيصر كان يمقت النكات السياسية التي كان يطلقها خصمه الخطيب الشعبي سيسرو في أنحاء روما، وكان ينشر جواسيسه في المدينة ليسجلوا له تلك النكات..

وبطبيعة الحال، يرجّح المنطق مبدأ رهاب السلطات من الطرائف، لكن أمر رهابهم هذا منحصر في الحالة التي يكون فيها الناس أنفسهم هم مصدر الطرائف، لا السلطة عينها. بل على العكس، السلطة اللبنانية مثلاً كانت تحاول من خلال بعض البرامج الترفيهية التي بثّتها القنوات التابعة للأحزاب اللبنانية، أن تعيد أنسنة رموز الحرب في ذهنية الناس – وخصوصاً من خلال استضافة بعض هذه الرموز في برامج مثيلة – تدعيماً منها لاتفاق الطائف وتكريساً له في الوعي اللبناني. ولم يكن هذا الجو من المزاح يزعج السلطة إلا في حالاتٍ بعينها، حين كانت تطال الممنوع السياسي أو الديني. أما وأن تصدر النكات من الناس أنفسهم، فالحال يختلف طبعاً.

ليس بعيدا عن الساحة اللبنانية، فإن الشعب المصري مجبول بالنكتة، سواء الفقير الذي ينتصر على بؤسه بالنكتة أم الميسور الذي يستوي مع غيره بالظرفة والضحكة، فتنتافي المسافة بين هذا وذاك. الأمثلة كثيرة في زمن الخديوي والملك فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي، ولعل باسم يوسف أبرز مصداق على ذلك. لكن المفارقة أن الساحة المصرية استطاعت أن تؤثر بشكل كبير من خلال ليس فقط النكتة السياسية، بل من خلال الشعارات المرفوعة التي تحمل طابعا فكاهيا، فأسقطت بذلك أنظمة وبدلتها.

إقرأ على موقع 180  هل تتوحد "الدولة الأميركية العميقة" ضد روسيا والصين؟

وما يذكره الكاتب نواف القديمي في كتابه “يوميات الثورة: من ميدان التحرير إلى سيدي بوزيد حتى ساحة التغيير” من شعارات رفعت في ميدان التحرير، يستأهل أن يُحلل ويصار إلى صوغ دراسة جدية عن آثار تلك الشعارات ومفاعيلها. لقد تطور الأمر مع المصريين ليبرهنوا عن إبداع حقيقي في هذا العالم، وكأنه جزء من السليقة عندهم، وربما يكون كذلك. يذكر القديمي مثلا “حدوتة” كان يرويها الناس في ميدان التحرير، تقول: قائد الجيش راح لحسني مبارك وقال له: خلاص يا ريس انتهى كل شيء لازم تكتب خطاب الوداع.. فيجيب مبارك هنا: “الله! هو الشعب رايح فين”؟.. وتقول “حدوتة” أخرى: “وزير الزراعة قال لحسني مبارك: يا ريس السلحفاة دي بتعيش 400 سنة، فرد عليه الريس: هاتها ويبقى نشوف هتعيش كم”.. وتبرز جملة لافتة للقديمي في هذا السياق يقول فيها: تملك هذه الحشود (يقصد تلك الموجودة في ميدان التحرير) موهبة مبهرة في استحداث فوري لهتافات جديدة تلائم الحدث..

قد يكون هذا هو التعبير الأنسب والأدق: موهبة التنكيت السياسي. وإذا كان المصريون بحسب الدراسات هم من أوائل المتصدين لمجال الطرائف، حتى قيل بأن أقدم نكتة ألقاها إنسان على وجه الأرض تعود إلى ما قبل 3000 سنة قبل الميلاد، عندما استخدم الفراعنة النكتة للتعبير عما يعانونه من زوجاتهم اللواتي أتين لهم بالنكد، فإن اللبنانيين، وعلى الرغم من أن “المرأة النكدية” ظلت ملهمتهم للكثير من الطرائف، إلا أنهم قد يظهرون تفوقا اليوم على غيرهم في هذا المجال، من حيث أن واقعهم الحالي لا بد وأن يكون ملهما وبقوة لولادة الطرائف، لكن هل سيكون لهذا الأمر نتائج جدية على أرض الواقع؟

تقول الأسطورة التي كان يعتقد بها المصريون القدماء إن العالم خلق من الضحك.. وعلى هذا المنوال، وعلى سبيل الأمل، يصنع اللبناني اليوم أسطورته التي تقول “إن لبنان جديد سيخلق من الضحك”.

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  حوار إفتراضي حول "المتوسط": نعيش معاً أو نموت معاً