

كيف وسّع البابا فرنسيس نطاق الفاتيكان العالمي؟
من خلال هذه الجهود، أصّلَح البابا فرنسيس العلاقات التي تدهورت في عهد أسلافه، وخلّف وراءه شبكة ديبلوماسية قوية عالمياً. ويتعين على خليفته الآن الاستفادة من النوايا الحسنة الواسعة التي تراكمت في عهده لتعزيز أولويات الكنيسة في التعاطف والعدالة والسلام. السؤال هو: هل سيمتلك البابا القادم القدرة على تحقيق أقصى استفادة من نفوذ سلفه؟
الانفتاح على الآخر
جسّدت أطول رحلة للبابا فرنسيس، بصفته الحبر الأعظم، والتي استغرقت 12 يوماً، عبر إندونيسيا وبابوا غينيا الجديدة وتيمور الشرقية وسنغافورة، في أيلول/سبتمبر 2024، العديد من أولوياته الديبلوماسية. كان من بينها تحسين العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية والعالم الإسلامي. كانت هذه العلاقات في حالة تدهور في عهد سلفه، البابا بنديكتوس السادس عشر. وكان بنديكتوس، قد ألقى خطاباً، عام 2006، اعتبره كثيرٌ من المسلمين مُسيئاً للنبي محمد. وفي عام 2011، قطع الإمام الأكبر شيخ الأزهر، أحمد الطيب (أحد أعلى المرجعيات السُنية في العالم)، العلاقات مع الفاتيكان بسبب تعليقات أدلى بها بنديكتوس بعد هجوم إرهابي في مصر. تمكَّن البابا فرنسيس من إصلاح العلاقات مع الشيخ الطيب، وفي النهاية بنى صداقة مثمرة معه. وظهر الزعيمان الروحيان معاً، في عام 2019، في أبو ظبي لتوقيع اتفاقية تاريخية لمعارضة التطرف الديني، خلال ما كان بالفعل رحلة تاريخية – كانت المرة الأولى التي يزور فيها البابا منطقة الخليج، وأكملها بعد فترة بزيارة لافتة للانتباه إلى العراق التقى خلالها المرجع الشيعي آية الله السيستاني.
بعد عودته من رحلته إلى آسيا في أيلول/سبتمبر الماضي، قال لجمهوره الأسبوعي مع آلاف المؤمنين في روما: “ما زلنا نميل إلى المركزية الأوروبية، أو كما يقولون، “غربيين”. لكن في الواقع، الكنيسة أكبر بكثير، أكبر بكثير من روما وأوروبا، أكبر بكثير”!
كذلك أراد البابا فرنسيس، من خلال زيارته إلى إندونيسيا؛ وهي أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان؛ تأكيد إلتزامَه بالتعاون بين الأديان. وقد حضر اجتماعاً مع قادة دينيين آخرين، في مسجد “الإستقلال” في جاكرتا، وأعرب عن إعجابه بنهج التعايش السلمي بين الأديان الذي تتبعه إندونيسيا.
والجدير ذكره هنا، هو أن مسجد “الإستقلال”؛ وهو أكبر مسجد في جنوب شرق آسيا؛ يرتبط، عبر نفق تحت الأرض، بكاتدرائية كاثوليكية على الجانب الآخر من الشارع، ما يُجسّد ويعزز نهج التعايش والروابط بين الأديان.
القادة الجدد
حثّ البابا فرنسيس الكنيسة الكاثوليكية على أن تكون أقلّ انغلاقاً على ذاتها، وأكثر تبشيراً، وأن توجه اهتمامها نحو كل أطراف المجتمع العالمي. وضمّ إلى مُجَمَّع الكرادلة، الذي سيختار خليفته، رجالاً من دولٍ لم يكن لها تمثيلٌ يُذكر في قيادة الكنيسة سابقاً. وكان من بين الذي عينهم كَرَادلة من 25 دولة لم يسبق لها أن كان لها تمثيلٌ كهذا، مثل: بابوا غينيا الجديدة، سنغافورة، وتيمور الشرقية. فوفق عادات الفاتيكان، يستخدم جميع الباباوات الكرادلة كمبعوثين فقط، لكن لم يسبق لأيّ بابا أن عيّن كرادلة من هذه الأماكن، وبهذا العدد، وبهذه الصفة.
خدمت هذه “الشبكة” من القادة الجُدد هدف البابا فرنسيس، المتمثل في جعل الكنيسة أقل تركيزاً على أوروبا وأكثر تركيزاً على البلدان التي تنتشر فيها الكاثوليكية. خلال فترة بابويته، زار 13 دولة في آسيا، و9 دول في إفريقيا، وهي زيادة ملحوظة عن زيارات بنديكتوس الثلاث إلى أفريقيا وعدم قيامه بأي رحلات إلى آسيا (زار لبنان في العام 2012).
تُقدّم تيمور الشرقية؛ الدولة ذات أعلى نسبة من الكاثوليك في العالم؛ مثالاً رئيسياً على نفوذ الكنيسة المتزايد. عندما غزت إندونيسيا تيمور الشرقية (كما كانت تُعرف قبل استقلالها)، في عام 1975، كان حوالي 20 في المائة فقط من السكان كاثوليك. وبعد عشر سنوات، وصل هذا الرقم إلى 95 في المائة. وخلال فترة الاحتلال العسكري الإندونيسي، الذي استمر حتى عام 1999، قامت الكنيسة بحماية الأشخاص المضطهدين ونشرت سجلات الفظائع، بما في ذلك المجازر والاختفاء القسري والإعدام خارج نطاق القضاء والتجويع والاغتصاب.
عندما زار فرنسيس تيمور الشرقية، حضر ما يقرب من نصف سكان البلاد البالغ عددهم 1.3 مليون نسمة القداس الذي أقامه، على الرغم من أن الجو كان حاراً جداً. وفي حديثه على الأرض التي دفن فيها الجيش الإندونيسي مقاتلي الحرية التيموريين، حذر فرنسيس من تدخل القيم الليبرالية الغربية التي تشجع المادية والأنانية.
رؤية متعدّدة الأقطاب
غالباً ما قدّم البابا فرنسيس رؤيته للعالم المُعولم، لا ككرة، بل كشكل مُتعدّد السطوح، وهي استعارة قال إنها “تعبّر عن كيفية بناء الوحدة مع الحفاظ على هويات الشعوب والأشخاص والثقافات”. وقد أشاد، على سبيل المثال، بعزم سنغافورة على البقاء فوق صراعات التنافسات الجيوسياسية وتبنيها التعدّدية القطبية. وخلال بابوية فرنسيس، بذل الفاتيكان نفسه جهوداً حثيثة لتجاوز الانقسامات الجيوسياسية، مُولياً اهتماماً ديبلوماسياً خاصاً للصين. قبل فرنسيس، طغى الشكُّ المتبادل على الجهود المبذولة لحل خلاف طويل الأمد بين بكين وروما. ولكن عندما اختارت الصين زعيمها الجديد شي جين بينغ، في اليوم الأول لفرنسيس في منصبه، كتب البابا رسالة تهنئة شخصية إلى الرئيس شي. وقد ردّ الأخير بحرارة على رسالة التهنئة، ما أثار دهشة بعض موظفي الفاتيكان.
كان فرنسيس مولعاً بالصين طوال حياته. فقد اختار بيترو بارولين، الكاردينال الذي قاد مفاوضات الفاتيكان مع بكين، بين عامي 2005 و2009، (وهو الآن أحد أبرز المرشحين لخلافة فرنسيس)، أميناً للخارجية. وبعد عام من توليه منصبه، صرَّح فرنسيس، لصحيفة “كورييري ديلا سيرا” الإيطالية، أن الفاتيكان “قريبٌ من الصين”. وكانت هذه العلاقات الديبلوماسية بين الجانبين حيوية لحل خلافٍ محوري حول تعيين الأساقفة: فقد أصرَّت بكين، لعقود من الزمن، على اختيار الأساقفة الصينيين بنفسها، رافضة العقيدة الدينية الكاثوليكية التي تمنح هذه السلطة لبابا الفاتيكان. وبعد أربع سنوات من المفاوضات الهادئة، توصل الفاتيكان والحكومة الصينية، في عام 2018، إلى اتفاق مؤقت لإجراء تعيينات مشتركة للأساقفة. وقد تمَّ تجديد هذا الاتفاق ثلاث مرات، وتمَّت الموافقة على 11 أسقُفاً جديداً بموجب أحكام هذا الاتفاق.
قدَّم البابا فرنسيس رؤيته للعالم المُعولم، لا ككرة، بل كشكل مُتعدّد السطوح.. وحثَّ الكنيسة الكاثوليكية على أن تكون أقلّ انغلاقاً على ذاتها وأكثر تبشيراً
حاول اثنان من البابوات قبل فرنسيس إيجاد آلية عمل مع بكين، لكنهما فشلا. كان فرنسيس مثابراً للغاية، إذ وجّه ديبلوماسييه إلى مواصلة الحوار مع نظرائهم الصينيين حتى عندما كانوا يواجهون انتكاسات وعقبات. ففي مفاوضات سابقة، أدَّت القرارات الأحادية الجانب في بكين إلى انهيار المناقشات. لكن في عهد فرنسيس، لم يتراجع الفاتيكان، بل حقَّق في النهاية تقدماً ملموساً يمكن البناء عليه.
وقد تجلَّى التقارب بين الفاتيكان والصين في مؤتمر عُقد في روما العام الماضي، بمناسبة مرور قرن على دعوة المبعوث البابوي، الكاردينال سيلسو كوستانتيني، إلى عقد “سينودس” رسمي لقادة الكنائس في البرّ الرئيسي الصيني، والذي أدَّى إلى تعيين ستة أساقفة صينيين أصليين. وكان المبشرون الأجانب قد قادوا الكنيسة الكاثوليكية في الصين، قبل أن يرفض “سينودس” عام 1924 هذه الممارسة. وكان من بين المشاركين في مؤتمر روما، عام 2024، أسقف شنغهاي، جوزيف شين بين، الذي ألقى خطاباً باللغة الصينية، وأوضح أن بكين لا تريد تغيير العقيدة الكاثوليكية، لكنها تتوقع من الكاثوليك الصينيين الدفاع عن الثقافة والقيم الأصلية. والجدير بالذكر أن الحكومة الصينية نقلت شين بين من إحدى الأبرشيات إلى أبرشية شنغهاي من دون موافقة الفاتيكان. وكان من الممكن أن تُوجه هذه الخطوة ضربة قاضية لاتفاقية عام 2018، لكن البابا فرنسيس قرَّر قبولها، بل وحتى الترحيب بشين بين في مناقشات سياسية رفيعة المستوى في روما.
واجهت ديبلوماسية البابا فرنسيس تجاه الصين انتقادات واسعة، لا سيما من إدارة الرئيس دونالد ترامب الأولى. حتى أن وزير الخارجية الأميركي، آنذاك، مايك بومبيو، كتب مقالاً، في عام 2020، ينتقد فيه الفاتيكان بشدّة على اتفاقه مع بكين. ورداً على تلك المقالة، رفض الفاتيكان طلب بومبيو لقاء البابا بعد أسابيع. لكن معارضة الفاتيكان لواشنطن عزَّزت سُمعة الفاتيكان كشخصية مستقلة جيوسياسياً، وهي هوية غرسها البابا فرنسيس. بعد عودته من رحلته إلى آسيا في أيلول/سبتمبر الماضي، قال لجمهوره الأسبوعي مع آلاف المؤمنين في روما: “ما زلنا نميل إلى المركزية الأوروبية، أو كما يقولون، “غربيين”. لكن في الواقع، الكنيسة أكبر بكثير، أكبر بكثير من روما وأوروبا، أكبر بكثير”!
عارض الغرب في أوكرانيا وروسيا
بالإضافة إلى نهجه تجاه الصين، انفصل فرنسيس عن القوى الغربية في ردّه على الحرب في أوكرانيا. عارض العقوبات المفروضة على روسيا، مُتبعاً موقف الكنيسة الراسخ القائل بأنه لا ينبغي استخدام العقوبات كسلاح ديبلوماسي لأنها تضرُّ برفاهية الناس العاديين. كما أعطى فرنسيس الأولوية للعلاقات مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. قبل ذلك، ومنذ البابا يوحنا الثالث والعشرون، الذي خدم من عام 1958 إلى عام 1963، سعى الباباوات إلى المصالحة الكاثوليكية الأرثوذكسية، وكان تعزيز علاقة الفاتيكان مع بطريركية موسكو أحد أعظم الإنجازات الديبلوماسية لبنديكتوس السادس عشر. ثم جاء فرنسيس وطوَّر صداقة وثيقة مع زعيم الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، البطريرك المسكوني برثلماوس من القسطنطينية، ووسَّع نطاق تواصل بنديكتوس مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. في مطار هافانا، بكوبا، عام 2016، أصبح أول بابا يلتقي بطريركاً روسياً شخصياً. ومع ذلك، أثار توقيعه على اتفاقية مشتركة مع البطريرك كيريل قلق بعض الكاثوليك الأوكرانيين.
كان فرنسيس مولعاً بالصين طوال حياته، واتبع معها ديبلوماسية استثنائية. والفاتيكان رفض طلب مايك بومبيو لقاء البابا لأنه انتقد هذه الديبلوماسية
مع تصاعد الصراع في أوكرانيا، رفض فرنسيس شيطنة روسيا. وبدلاً من ذلك، تحدث عن مأساة “قتل الأخوة” بين الإخوة المسيحيين. وكثيراً ما اتهم تجار الأسلحة بإثارة الحرب. بل تجرأ على القول إن توسع حلف “الناتو” – الذي وصفه بأنه “نافخ الناتو على أبواب روسيا” – ساهم في قرار روسيا بالغزو. مع ذلك، أدان الحرب ودعا للصلاة علناً من أجل “الشعب الأوكراني الشهيد”، حتى من سريره في المستشفى، لكنه لم يوجه اتهاماً شخصيا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
من سيخلف “بابا المفاجآت”؟
حتى لو كانت بعض مواقفه مثيرة للجدل، فقد أعاد البابا فرنسيس الديبلوماسية الكاثوليكية إلى الواجهة. لقد عزَّز الجهاز الديبلوماسي للفاتيكان، عندما أضاف قسماً جديداً إلى وزارة الخارجية مهمته الأساسية دعم الموظفين الديبلوماسيين. وعزَّز جهود السلام بتعيين كرادلة في مناطق النزاع، بما في ذلك سوريا والقدس، التي تشمل قبرص والأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينية، ويقودها الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، المرشح الآن لخلافة البابا فرنسيس. كما عزَّز البابا فرنسيس المجتمعات الكاثوليكية الصغيرة بتعيين كرادلة لأول مرة في بنغلاديش وإيران وباكستان ذات الأغلبية المسلمة، وفي منغوليا وميانمار وسنغافورة ذات الأغلبية البوذية. ولقيادة الوزارة التي تركز على الحوار بين الأديان، عيّن البابا فرنسيس ديبلوماسياً هندياً، هو الكاردينال جورج كووفاكاد.
إن القيم والاستراتيجية التي أتى بها البابا فرنسيس للشراكة الدولية متجذرة في الإنجيل؛ وهي ليست فريدة من نوعها. علاوة على ذلك، يُدرّس أسلوبه الديبلوماسي لسلك الكهنة الديبلوماسيين في الفاتيكان في أقدم مدرسة ديبلوماسية في العالم، وهي الأكاديمية البابوية الكَنَسيّة. وقد إلتحق بيترو بارولين، وزير الخارجية ومهندس السياسة الخارجية لفرنسيس، بهذه المدرسة. وإذا انتُخب بارولين لخلافة البابا فرنسيس، فسيواصل العمل الذي بدأه في عهده قبل اثني عشر عاماً. لكن البابا فرنسيس ساهم أيضاً في تنشئة العديد من القادة الموهوبين الآخرين ذوي المواهب الديبلوماسية الواعدة. وإذا اختير خليفته من دول الجنوب العالمي، فقد تستمر حملاته الإنجيلية.
من المرجح أن يختار الكرادلة الـ 135 الذين سينتخبون البابا القادم هذا المسار. وبالنظر إلى أن 108 منهم قد رُقّيوا من قِبل البابا فرنسيس، المعروف غالباً باسم “بابا المفاجآت”، فمن المرجح أن يُفاجئ مُجَمَّع الكرادلة العالم أيضاً.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) فيكتور غايتان، كبير المراسلين الدوليين في صحيفة السجل الكاثوليكي الوطني، ومؤلف كتاب “ديبلوماسيو الله: البابا فرنسيس، ديبلوماسية الفاتيكان، وكارثة أميركا“. يُساهم في وكالة “أنباء الفاتيكان” ووكالة “أنباء الدين”.