مشهد غير مسبوق في تاريخ لبنان منذ إستقلاله في العام 1943. عشرات النواب يتسللون إلى مقر البرلمان اللبناني منذ ليل أمس الإثنين وفجر اليوم الثلاثاء من أجل توفير النصاب الدستوري لإلتئام جلسة البرلمان اللبناني التي خصصت لتقديم البيان الوزاري لحكومة حسان دياب، التي أسماها رئيسها “حكومة مواجهة التحديات” وأطلق عليها عدد من النواب “حكومة الفرصة الأخيرة”، ومن ثم نيل ثقة النواب.
بدا المجلس النيابي اللبناني في ساحة النجمة في قلب بيروت، أشبه ما يكون بقلعة محصنة الأسوار ببلوكات إسمنتية من كل الجهات، فضلا عن إقامة زنار عسكري وأمني بمشاركة الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي وشرطة المجلس النيابي. وبرغم هذه الإجراءات التي تم رسم خطوطها العريضة في الإجتماع الذي عقده المجلس الأعلى للدفاع في لبنان، يوم الجمعة الماضي، برئاسة الرئيس اللبناني ميشال عون، فإن مئات المتظاهرين المنخرطين في الحراك الشعبي، تمكنوا من إقفال معظم المداخل والطرق المؤدية إلى مجلس النواب، وخاضوا على مدى ساعات الليل والنهار، مواجهات بالحجارة مع القوى الأمنية اللبنانية التي إستخدمت القنابل الدخانية والرصاص المطاطي لتفريقهم، إلا أن النتيجة كانت نوعا من التعادل بالنقاط.
من جهة، تمكن المجلس النيابي من عقد جلسته بنصاب قانوني وأعطى الثقة لحكومة دياب، ومن جهة مقابلة، تمكن الحراك من فرض مشهدية غير مسبوقة، برغم الإجراءات الأمنية والعسكرية المشددة، في محيط مجلس النواب، كما عند كل مداخل العاصمة اللبنانية، وصح القول أن الوزراء والنواب كانوا يتسللون إلى مجلس النواب، وبعضهم بات ليلته في مكتبه في مجلس النواب، علما أن الحراك اللبناني، كان يتحرك من دون بوصلة، بدليل التعرض لموكب النائب الدكتور سليم سعادة، ورشقه داخل سيارته بحجارة أدت إلى إصابته في رأسه، وهو من النواب الذي كانوا الأكثر إعتراضا على السياسات الإقتصادية والمالية للحكومات المتعاقبة من الطائف حتى يومنا هذا، كما أنه إمتنع عن منح الثقة للحكومة، مع باقي أعضاء كتلة نواب الحزب السوري القومي الإجتماعي.
ماذا يمكن الإستخلاص من هذا اليوم الماراتوني الطويل؟
أولاً، صارت حكومة حسان دياب حكومة مكتملة المواصفات سياسيا ودستوريا، وبات عليها أن تنتقل من ضفة الأقوال إلى الأفعال، حتى يحكم عليها الناس، تبعا لأدائها.
القوى السياسية التي سمّت معظم الوزراء، قد لا تكون صاحبة مصلحة في جعل هذه حكومة تكنوقراط تنجح، كي لا يتكرر نموذجها، في ظل المعادلة التي أرسيت بعد الطائف، بان إنتقال مركز السلطة السياسية من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعا، أقفل الباب أمام حكومات التكنوقراط
ثانياً، هذه الحكومة هي الرقم 19 منذ إتفاق الطائف حتى الآن، لكنها أول حكومة تكنوقراط، رئيساً وأعضاء، وبالتالي ستكون أمام إختبار قاس، في بلد يكاد يكون أشبه بغابة وحوش سياسية، حتى أن القوى السياسية التي سمّت معظم الوزراء، قد لا تكون صاحبة مصلحة في جعل هذه حكومة تكنوقراط تنجح، كي لا يتكرر نموذجها، في ظل المعادلة التي أرسيت بعد الطائف، بان إنتقال مركز السلطة السياسية من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعا، أقفل الباب أمام حكومات التكنوقراط.
ثالثاً، نالت هذه الحكومة نصف أصوات النواب تقريباً ( 63 صوتا من أصل 84 مجمل الحاضرين، حيث حجب الثقة 20 نائبا وإمتنع عن منحها نائب واحد)، وهذا الأمر إن دلّ على شيء، إنما على قدرة فريق 8 آذار/مارس على التحشيد، كونه يملك مفتاح الأكثرية النيابية، برغم بعض التصدعات في صفوفه، وهي تصدعات جعلت عددا من مكوناته إما يقاطعون الجلسة أو يحجبون الثقة عن الحكومة الجديدة. يذكر أن أعلى الأصوات حصلت عليها حكومة سعد الحريري في 2009 (122 صوتا من أصل 128) وحكومة سعد الحريري في 2019 (111 صوتا من أصل 128)، تليهما حكومة نجيب ميقاتي في 2005 (109 أصوات من أصل 128، كما تبين الصورة التي نشرتها الدولية للمعلومات).
رابعاً، أمكن تفادي حمام دم، وهذا الأمر كانت أشارت إليه التقارير التي وضعت أمام المجلس الأعلى للدفاع، حيث حذر أكثر من مسؤول أمني لبناني من أن بعض القوى الداخلية، وبعض من دخلوا على خط الحراك لحرفه عن مساره الإجتماعي، قد يكونون أصحاب مصلحة في جعل يوم الثلثاء في 11 شباط/فبراير “يوماً دموياً بإمتياز”، بما يؤدي إلى سقوط الحكومة في الشارع من جهة، وتحميل رئاسة الجمهورية المسؤولية عن ذلك، من جهة ثانية.
خامساً، أظهرت المداخلات النيابية أن الإمتحان الذي ستخضع له الحكومة، من الآن فصاعدا، هو إمتحان إقتصادي ـ مالي ـ نقدي. هذا الخطاب يبدو مفهوما من وجهة نظر المعارضين للحكومة مثل تيار المستقبل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي، لكن اللافت للإنتباه أن مكونات الحكومة نفسها، لوّحت بإسقاطها في الشارع، وكان الأكثر تعبيرا عن ذلك، رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بقوله إننا سنعطي هذه الحكومة “فإن لم تتصرف بسرعة وبشكل مغاير غير متأثرة بالابتزاز، فنحن من سنسقطها ولن ننتظر احدا، بل سننزل ضدها في البرلمان وفي الشارع”.
باسيل: أي رهان هو خاطئ اذا أتى من الخارج لهز الاستقرار ولتغيير معادلات الداخل على حساب قوة البلد، وسيتكرر سيناريو تموز/يوليو 2006 مع مفاعيل داخلية مختلفة هذه المرة
سادساً، يمكن القول أن أبرز كلام سياسي قيل في جلسة اليوم هو ما صدر عن باسيل، بدعوته الواضحة إلى “تغيير نظامنا السياسي بالانتقال الى العلمنة (مع قانون موحد للأحوال الشخصية وقانون انتخاب نسبي من دون قيد طائفي)، مع انشاء مجلس شيوخ لتطمين الملل والأقليات على الأمور الكيانية، وتغيير نظامنا المالي والاداري بالانتقال الى اللامركزية الادارية والمالية الموسعة (النص نفسه الذي تضمنه تفاهم معراب الذي وقعه ميشال عون وسمير جعجع بعد تبني القوات ترشيح زعيم التيار الوطني الحر لرئاسة الجمهورية في العام 2016)”. وقال باسيل “أي رهان هو خاطئ اذا أتى من الخارج لهز الاستقرار ولتغيير معادلات الداخل على حساب قوة البلد، وسيتكرر سيناريو تموز/يوليو 2006 مع مفاعيل داخلية مختلفة هذه المرة وإذا أتى (الرهان) من بعض الداخل للانتقال الى المثالثة أو اي صيغة اخرى فيها تحويل للقوة الزائدة الى الموازين الداخلية، فهو ايضا خاطئ لأنه سيؤدي الى اهتزازات داخلية يفيد منها الخارج، وما اكثر من هم جاهزون لتقديم خدماتهم للخارج، وإذا أتى من البعض الآخر في الداخل للتخلص من الطائف، وليس لتصحيح الخلل فيه، فهذا فيه مجازفة كبرى لأنه قد يكون انتقال الى ما هو أسوأ ان لم يكن منسقا”.
واللافت للإنتباه أن كلام باسيل يأتي بعد حوالي الـ 72 ساعة على كلام قاله الزعيم الروحي للموارنة البطريرك بشارة الراعي من الفاتيكان يوم الأحد الماضي، ولم يحظ بإهتمام سياسي أو إعلامي في لبنان، وفيه دعا الحراك المدني “الذي يطالب بالدولة المدنية، أن يطالب باستعادة هذه الدولة واستكمالها باللامركزية الادارية الموسعة ومجلس الشيوخ، وعندها فلتلغ المادة 95 من الدستور، والتي لا احد متعلق بها”. ويمكن القول أيضا أن هذا أول موقف للبطريركية المارونية في لبنان تتبنى فيه إلغاء المادة 95 من الدستور (*).
سابعاً، ثمة ملفات محددة على الحكومة أن تقدم إجابات سريعة بشأنها وهي الآتية:
- دفع إستحقاق اليوروبوندز الأول في العام 2020، في 9 آذار/مارس المقبل للمصارف الخارجية بقيمة 800 مليون دولار.
- هل ستعتمد الحكومة خيار إعادة هيكلة الدين العام وهل يعني ذلك الإستعانة بصندوق النقد الدولي، وهل طلب المساعدة التقنية هو مقدمة لطلب المساعدة المالية والإدارية؟
- كيف ستتعامل الحكومة مع خطة الكهرباء التي قدمتها الحكومة السابقة في ضوء فشل الحكومات السابقة في مقاربة هذا الملف الذي رتب ديونا على الدولة تقدر بحوالي 47 مليار دولار(أي حوالي نصف الدين العام) منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي حتى الآن، علما أن كبار المانحين الدوليين يرهنون أي دعم مستقبلي للبنان بمقاربة نوعية مختلفة لملف الكهرباء.
- كيف ستقارب الحكومة الملفين النقدي والمالي من أجل تسهيل حصول صغار المودعين اللبنانيين على ودائعهم وعدم شمولهم بأية عملية “hair cut” وهل ستقونن الحكومة، بشراكتها مع مجلس النواب، عملية الـ”كابيتال كونتورل” القائمة حالياً؟
- كيف ستتعامل الحكومة مع ملف الهندسات المالية والفوائد المرتفعة التي دفعها مصرف لبنان المركزي للمصارف التجارية اللبنانية (أحد النواب قال إنه إستفاد من هذه الهندسات وأنه إذا أعاد، هو وغيره من المستفيدين، بعض أرباحهم، يمكن أن يوفر ذلك للخزينة اللبنانية حوالي الملياري دولار).
ثامناً، أخضعت الأجهزة العسكرية والأمنية، في الساعات الأخيرة، لإمتحان شبيه بذلك الذي أخضعت له يوم مناقشة الموازنة العامة للحكومة في 27 كانون الثاني/يناير الماضي، وأمكن القول أنها تمكنت من إجتيازه، برغم ما شابه من مواجهات وإستخدام مفرط للعنف وسقوط عشرات الجرحى وتوقيف عدد كبير من المتظاهرين.
جولة دياب العربية إن حصلت، ستكون “متواضعة” ببرنامجها ونتائجها، طالما أن هناك قرار “بإدارة الظهر للبنان”، على حد تعبير رئيس الحكومة في ختام جلسة الثقة، محذرا من أن كرة النار إذا إنزلقت من يد هذه الحكومة، سيكون البلد كله بخطر وليس الحكومة نفسها
تاسعاً، أظهرتا حادثتا الهرمل (مقتل ثلاثة عسكريين) والأوزاعي (مقتل عسكري وإصابة آخر بجراح خطرة)، خلال أقل من 48 ساعة، أن التحديات التي تواجه الحكومة، ستكون أمنية أيضا، خصوصا في ظل حالة التفلت التي يمكن أن تتسع فصولها، كلما تأزم الواقع الإقتصادي والمالي، فضلا عن ضرورة معالجة الظواهر الشاذة وعدم التساهل معها.
عاشراً، لا بد من رصد حالة النأي بالنفس دوليا وإقليميا عن لبنان، وهي حالة قابلة للإتساع ولا تصب في مصلحة الحكومة الجديدة، التي مهما قالت وفعلت ستبقى بنظر الخارج “حكومة اللون الواحد” ولن تحظى، على الأرجح، بأي دعم دولي أو عربي، وبالتالي، لننتظر ما سيجده رئيسها حسان دياب في جولاته الخارجية، ولعل البداية من مؤتمر الأمن في ميونيخ، في نهاية الأسبوع الحالي، ومن بعده التحضير لجولة عربية، لا يبدو أنها موضع ترحيب، وإن حصلت، فإنها ستكون “متواضعة” ببرنامجها ونتائجها، طالما أن هناك قرارا “بإدارة الظهر للبنان”، على حد تعبير رئيس الحكومة في ختام جلسة الثقة، محذرا من أن كرة النار إذا إنزلقت من يد هذه الحكومة، سيكون البلد كله بخطر وليس الحكومة نفسها.
***
(*) تنص المادة 95 من الدستور اللبناني على الآتي: “على مجلس النواب المنتخب على اساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق الغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالاضافة الى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.
مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية وتقديمها الى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية. وفي المرحلة الانتقالية: أ – تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزراة. ب – تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والامنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الاولى فيها وفي ما يعادل الفئة الاولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص اية وظيفة لاية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة”.