لم يكن رفيق الحريري بعيداً عن مجريات إتفاق الطائف، تحضيراً وإنعقاداً. علاقته بالقيادة السعودية، من جهة، وبمعظم السياسيين اللبنانيين، من جهة ثانية، جعلته يواكب المشاورات التي رافقت أو سبقت إنعقاد المؤتمر في مدينة الطائف السعودية. لم يكن الحريري حاضراً بين المؤتمرين، لكنه لم يغب عن القاعات والكواليس الخلفية، وكان جاهزاً لكل تدخل تطلبه القيادة السعودية.
اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الاهلية اللبنانية (1975ـ 1990)، فتح الباب امام مرحلة جديدة هي مرحلة رفيق الحريري. في هذا السياق، جاء عرض رئيس الجمهورية الياس الهرواي على الفضل شلق تعيينه رئيسا لمجلس الانماء والاعمار. كانت المفاجأة بأن رفض رفيق الحريري ـ ولم يكن قد أصبح رئيسا للحكومة بعد ـ هذا التعيين. لا بد من الإعتذار من الهراوي، غير أن إصرار الأخير على تعيين شلق في هذا المنصب، دفعه لمناقشة الأمر مع الحريري نفسه. تبين أن اعتراض الحريري سببه وجود إسم ينوي تعيينه في مجلس الادارة الجديد لمجلس الانماء والاعمار. سرعان ما تبدد إعتراضه بعد ان اقنعه شلق بأن وجود شخص من بين 12 عضواً لا يقدم ولا يؤخر في قرارات المجلس. الأساس هو رئيس المجلس.
قبل ذلك، كان الرئيس الشهيد رينيه معوض قد عرض على شلق تعيينه وزيرا للاشغال. زُهد شلق بالمناصب الرسمية جعله يعتذر من معوض عن قبول العرض، كما يقول.
في 21 كانون الثاني/يناير 1991، صدر مرسوم تعيين شلق رئيسا لمجلس الانماء والاعمار. اول قرار له هو اقفال باب التدخلات السياسية في شؤون المجلس. هذا القرار طال أيضاً رفيق الحريري نفسه. كيف؟ تم استبعاد شركة “جينيكو” عن مناقصة مشروع الكوكودي – الكولا لأنها مملوكة من شفيق الحريري شقيق رفيق الحريري، وهو قال ذلك صراحة للحريري عندما استدعاه الى قصر قريطم. استبعاد “جينيكو” عن المناقصة جعلها تلجأ الى اسلوب آخر. اتفاق من تحت الطاولة بين شركة “سلوان” – التي فازت بالمناقصة – وبين شركة “جينيكو”، تم بموجبه تلزيم المشروع لشركة “جينيكو”. لم يسكت شلق عما جرى. ذهب الى رفيق الحريري وإحتج بشدة وقال له: “اولاد الحرام كثر.. وسيتم تأويل الموضوع على غير حقيقته”.
تقدمت شركات عالمية للفوز بمشروع تلزيم الكهرباء، بينها شركة صينية عملاقة. رفض شلق تلقي عرض الشركة الصينية بسبب وروده بعد المهلة المحددة. حاول الحريري اقناعه بتجاوز هذا الشرط من اجل المصلحة العامة، لكن تلك المحاولة لم تجد نفعاً أيضاً.
تعددت محاولات التدخل في شؤون مجلس الانماء والاعمار. سياسيون لبنانيون، مسؤولون سوريون، سفراء دول أجنبية، العديد من هؤلاء حاولوا ولوج هذا الباب فوجدوه مقفلاً. أصرّ سفير كندا على التدخل لصالح احدى الشركات الكبرى في بلاده. مشادة كلامية عنيفة بين شلق الرافض وبين السفير المذكور تطورت الى حد طلب رئيس مجلس الانماء والاعمار من هذا السفير مغادرة مكتبه من دون ابطاء.
طلب السفير الاميركي حضور احدى جلسات فض العروض. رد عليه شلق: “سوف نسمح لك عندما يسمح القانون الاميركي لرئيسكم بحضور جلسات مماثلة”. موقف شلق هذا رد عليه السفير الاميركي بمنعه من الحصول على تأشيرة دخول الى الولايات المتحدة طيلة فترة خدمته في لبنان.
التجاذبات السياسية والمصالح الضيقة عطلت الكثير من المشاريع الحيوية. مشروع بناء الجامعة اللبنانية في الحدث اصر عليه رفيق الحريري وعارضته قيادات مسيحية، روحية وسياسية. قالوا صراحة انهم لا يريدون لطلابهم ان يندمجوا مع طلاب من مناطق وطوائف اخرى في جامعة واحدة. مشروع تعذية بيروت بمياة الشفة من مغارة جعيتا وقف بوجهه سياسيون من “الوزن الثقيل” وربطوا تنفيذه باستكمال مشروع الليطاني.
معالجة مشكلة النفايات عجز مجلس الوزراء عن ايجاد حل لها. كانت النتيجة تلزيم النفايات لشركة “سوكلين”. مطمر الناعمة كان نتيجة اتفاق بين وليد جنبلاط وشركة “سوكلين”. هذه الشركة لم تأت من فراغ، بل نتيجة الحاجة لمن يجمع النفايات في بيروت، خاصة في ضوء النقص الكبير في عدد عمال التنظيفات في بلدية العاصمة، بعد احالة عدد كبير منهم للتقاعد، ورفض الشباب اللبناني الانخراط في مثل هكذا وظائف.
خطة الاعمار الشاملة التي تقدم بها رفيق الحريري الى مجلس الوزراء بعد ان اصبح رئيسا للحكومة، اثيرت ضجة كبيرة حولها. الخطة تم التحضير لها في مجلس الانماء والاعمار، وتم التدقيق في ارقامها في وزارة المالية، قبل تقديمها الى مجلس الوزراء. الارقام الواردة في المشروع الإعماري تبين انها غير دقيقة. الاشخاص الذين قدموا الارقام هم أنفسهم من حاولوا التبرؤ منها، وتحميل مسؤوليتها الى رئيس مجلس الانماء والاعمار. كان واضحا للفضل شلق ان ثمة من يعد له كميناً. “وزارة المالية هي التي أعطتنا ارقاما غير دقيقة ومن ثم قامت بتحميل مسؤوليتها الى مجلس الانماء والاعمار”، يقول شلق. امتناع الحريري عن الدفاع عن خطة مجلس الاعمار داخل مجلس الوزراء مرده إلى ان اثنين من معاونيه دخلا عليه اثناء الجلسة وقالا له انهما غير واثقين من دقة ارقام المجلس. الشخصان ذاتهما كانا قد اكدا في جلسات سابقة وبحضور الحريري انهما دققا بالارقام وتأكدا من صحتها.
وصلت اخبار الى الفضل شلق، وهو في لندن، ان رفيق الحريري ينوي الاستغناء عن خدماته في مجلس الانماء الاعمار، فسارع بعد عودته الى لبنان الى إبلاغ رئيس الحكومة نيته الاستقالة على خلفية ما حدث في مجلس الوزراء. رفض الحريري الإستقالة وطلب منه الاستمرار في منصبه
في ذروة هذا المشهد المتأزم والمتضارب، وصلت اخبار الى الفضل شلق، وهو في لندن، ان رفيق الحريري ينوي الاستغناء عن خدماته في مجلس الانماء الاعمار، فسارع بعد عودته الى لبنان الى إبلاغ رئيس الحكومة نيته الاستقالة على خلفية ما حدث في مجلس الوزراء. رفض الحريري الإستقالة وطلب منه الاستمرار في منصبه.
اعادة تشغيل سكة القطار في لبنان كانت في صلب الخطة التي اعدها رفيق الحريري لتنشيط الحياة الاقتصادية والخدماتية في لبنان. وهو سعى منذ اليوم الاول لوصوله الى الحكم لإعادة تشغيل الشبكة القديمة للقطار وتوسيعها. معارضة الطبقة السياسية أبقت المشروع نائماً في الادراج. ما هو السبب؟ “شركة سكة الحديد هي من اكبر مالكي العقارات في لبنان، والكل يعلم أن معظم افراد الطبقة السياسية قد اعتدوا على املاكها، ولا يريدون اعادة الحقوق لأصحابها”.
وزارة الهاتف
اربع سنوات امضاها الفضل شلق رئيسا لمجلس الانماء الاعمار قرر في نهايتها عدم تجديد ولايته مرة اخرى، بالرغم من اصرار الحريري عليه بالقبول. ثقة رفيق الحريري بامكانات الفضل شلق جعلته يفكر بالاستفادة منها في مكان اخر. استدعاه إلى قريطم وأسر له بأن “مجلس وزراء جديد سيولد بعد شهرين وانه ينوي تعيينه وزيرا للهاتف في الحكومة الجديدة”. حاول شلق الاعتذار. أعاد تذكير الحريري بحديث دار بينهما قبل عدة سنوات وقال خلاله شلق للحريري: “انا لا أشتغل معك في السياسة، انا اشتغل معك في الوظيفة. في الوظيفة اقوم بما يكلفني به رب العمل، اما في السياسة فأنفذ فقط ما اكون مقتنعا به”. قال له الحريري: “عندي مشكلة كبيرة في وزارة الهاتف واريدك أن تحلها لي”.
قبل صدور مرسوم تأليف الحكومة الجديدة، إجتمع شلق بالحريري وقال له: “الوزارة منصب سياسي، والسياسة رأي وموقف، وقد لا أسيطر على الرأي الذي قد يتكون لدي نتيجة وجودي في الحكومة، ونتيجة الممارسات التي سأكون شاهدا عليها”.
سلسلة من المطبات كانت بإنتظار شلق في وزارة الإتصالات التي عين على رأسها في 25 ايار/مايو 1995. خلال الجولة التي قام بها في مبنى الوزارة في اليوم الأول لتسلمه منصبه من سلفه الوزير محمد غزيري إكتشف مخالفات تبدأ ولا تنتهي. على سبيل المثال لا الحصر، مصادرة وزير سابق في وزارة الإتصالات عددا كبيرا من الكابلات الهاتفية والاحتفاظ بها في مستودع داخل منزله. مناشدة الوزير السابق، عبر الوزارة، أن يعيد الكابلات لم تجد نفعاً. هدّده شلق بفضحه في وسائل الاعلام ما لم يُعد الكابلات التي اخذها، فأعيدت للوزارة. وزير سابق للهاتف لم يجد حرجا في اخبار رفيق الحريري انه كان يتعمد قطع خطوط الهاتف عن مكاتب ومنازل بعض النواب والوزاء والشخصيات والمفاتيح الانتخابية كي يتصلوا به ويتوسلوا اليه اعادتها. عدد كبير من السنترالات التي دشنها وزير سابق للهاتف بحضور وسائل الاعلام اكتشف الفضل شلق انها كانت غير مفعلة.. وبرغم ذلك كانت الدولة تستوفي من المواطنين بدل رسوم عنها.
شركتا الخلوي
انشاء شركتي الهاتف الخلوي “سيليس” و”ليبانسيل” في لبنان، في العام 1994، جرى تمويله من جيوب المشتركين باستيفاء مبلغ قدره خمسمئة دولار من كل مشترك (بدل تأسيس خط نقال). تبين أن المبلغ الذي جمع اكبر بكثير مما صرف على تجهيز شركتي الخلوي. برغم ذلك، بقيت الخدمة دون المستوى المطلوب. هدد شلق شركتي “سيليس” و”ليبانسيل” بفسخ عقدهما ما لم يتم تحسين مستوى الخدمة في مهلة اقصاها شهر. مضت مدة الشهر دون أن تبادر الشركتان الى اجراء اي تحسين في مستوى الخدمة. الانذار القانوني الذي تلقته الشركتان من وزارة الاتصالات دفعهما لمحاولة الضغط على شلق. تلقى الأخير إتصالا من وزير الدفاع محسن دلول عاتبه فيه على الانذار الموجه للشركتين، قائلا له: “لن تستطيع تحمل الموضوع”، ملمحا الى انزعاج قيادات سورية من الانذارات. تبين أن تدخل محسن دلول سببه الاساس ان نجله الأكبر نزار هو المساهم الاكبر في شركة “ليبانسيل”.
غضب شديد اعترى رئيس الاركان السوري عندما طالبه شلق بوقف دعمه لأولاد محسن دلول. يومها قال له الشهابي: “لو كنت اعرف مسبقا سبب زيارتك.. لما استقبلتك”
متاعب شلق مع آل دلول لم تتوقف. تمكنوا من الحصول على ورقة من مدير عام وزارة الإتصالات عبد المنعم يوسف يتنازل فيها عن حق الدولة في تسويق المخابرات الخارجية لصالحهم. عارض شلق منح هذا الحق لغير الدولة اللبنانية، الأمر الذي جعل عبد المنعم يوسف يسترد الورقة من آل دلول. طلب شلق من محسن دلول اقناع اولاده بالكف عن المطالبة بتسويق المخابرات الخارجية والاكتفاء بالارباح التي تأتيهم من عائدات الخلوي. إنزعج محسن دلول وإشتكى للحريري من تصرفات الفضل شلق. طبعاً حسابات الحريري السياسية كانت مختلفة عن حسابات الفضل شلق المهنية في هذا الموضوع. خوف رئيس الحكومة من قيام العماد حكمت الشهابي، وهو المرجع السوري الداعم لآل دلول، بعرقلة تشكيل الحكومة المقبلة برئاسته، دفعه الى الطلب من شلق الموافقة على طلبات نزار دلول استنادا الى الورقة التي أعطاه اياها عبد المنعم يوسف. لاحقا، تبين أن الأمر يتجاوز السياسة. ثمة حصة لأولاد الشهابي من عائدات الخلوي في لبنان. إقترح شلق على الحريري أن يزور هو شخصياً العماد حكمت الشهابي في دمشق ويناقش الأمر معه..
في دمشق، كانت بداية اللقاء بين الشهابي وشلق، في مكتب الأول، ودية، لكن سرعان ما إنفجر الموقف. غضب شديد اعترى رئيس الاركان السوري عندما طالبه شلق بوقف دعمه لأولاد محسن دلول. يومها قال له الشهابي: “لو كنت اعرف مسبقا سبب زيارتك.. لما استقبلتك”.
اخبار لقاء شلق بالشهابي وصلت الى الحريري الذي استدعى وزير الإتصالات الى قصر قريطم وقال له: “هل تعلم انك بتصرفك هذا قد اقفلت الباب امام عودتك وزيرا مرة اخرى، وبذلك اكون انا من أكل الكف؟ ام انك تعتقد انك اتيت وزيرا بقوة عضلاتك”؟ رد عليه شلق بأنه لا يرغب أصلاً بالعودة للوزارة مجدداً، وانه لن يقوم الا بما هو مقتنع به.
عبد المنعم يوسف دائماً
في أول حكومة تلت انتخابات العام 1996، احتفظ رفيق الحريري لنفسه بوزارة الاتصالات الا انه كلّف شلق بادراتها من دون ان يكون له حق التوقيع. فجأة، برزت مشكلة اسمها عبد المنعم يوسف الذي بدأ يمتنع عن تنفيذ المطلوب منه ويتمرد على القرارات. تبين أن عبد المنعم يوسف قد تحول الى كاتب تقارير عند اللواء جميل السيد واصبح يعمل وفق تعليماته. طلب الحريري من شلق استيعاب ممارسات يوسف، الامر الذي رفضه شلق، وقال للحريري: “كيف تطلب مني استيعابه.. وانت تستقبله من وراء ظهري”؟
عهد لحود
في العام 1998، إنتخب إميل لحود رئيسا للجمهورية. “هو عهد الإنتقام من رفيق الحريري” يقول الفضل شلق. أراد البعض في سوريا إضعاف الحريري، فوجدوا ان الطريقة الانسب تتمثل بتوجيه اتهامات بالفساد الى بعض معاونيه. بدأ المسلسل بتوجيه “اتهام سخيف” الى المدير العام السابق لمؤسسة كهرباء لبنان مهيب عيتاني ـ المحسوب على الحريري ـ بسرقة جنزير باخرة!
بعد توقيف عيتاني، تلقى شلق اتصالا من مدير تحرير “السفير” الصحافي فيصل سلمان اخبره خلاله أن ثمة معلومات لديه بانه سيستدعى للتحقيق بتهمة الهدر في مشروع بناء سنسول لحماية مبنى استراحة صور الذي كان مهددا بالسقوط جراء عملية شفط رمول من تحته. عشية الموعد المقرر لمثوله أمام القاضية ربيعة قدورة للتحقيق، أبلغ شلق الرئيس الحريري بأنه ينوي عدم الذهاب الى قصر العدل والاعتصام في منزله في الرملة البيضاء وانتظار الاجهزة الامنية لاقتياده مكبلا امام وسائل الاعلام. لم يوافقه الحريري الرأي. قال له إن المواجهة أمام القضاء هي الانسب في هذه اللحظة. اربع ساعات من الانتظار، قبل أن يمثل شلق أمام قدورة. الجلسة الاولى اتسمت بالتوتر. شعر شلق بأن ثمة مكيدة تدبّر له. بعث مهيب عيتاني من مكان توقيفه برسالة إلى شلق يبلغه فيها ان احد الضباط قال له حرفياً: “الزانزانة يلي جنبك محجوزة للفضل شلق”.
سأل الحريري ضيفه شلق: “أما زلت تزور دمشق”؟، فاجابه شلق: “أسلك نفس الطريق التي سلكها والدك من قبل”
إستأذن شلق الحريري بأنه سيزور دمشق قبل موعد موعد الجلسة الثانية للتحقيق. في العاصمة السورية، إستقبله معاون الرئيس حافظ الاسد اللواء محمد ناصيف (ابو وائل). بعد عودته من دمشق، اتصل به اللواء غازي كنعان ودعاه الى اجتماع في مكتب العميد رستم غزالة في الرملة البيضاء. في هذا الاجتماع، قال له كنعان ان لديه معلومات انه سيتم توقيفه في اليوم التالي.
قبيل جلسة التحقيق الثانية، أجرى غازي كنعان إتصالاً بمدعي عام التمييز القاضي عدنان عضوم ابلغه فيه ان شلق “هو صديق للقيادة السورية”. بعد 25 عاما امضاها شلق في العمل مع رفيق الحريري، قرر التقاعد. هذا القرار توصل اليه بعد مقابلة تلفزيونية أجراها حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة مع الصحافي مارسيل غانم. في اليوم التالي للمقابلة، استدعى الحريري شلق وسأله رأيه بما قاله سلامة. كان رأي شلق ان سلامة قال في المقابلة نصف الحقيقة فقط، وسأل: “لماذا سعر الليرة ثابت بقرار صارم من المصرف المركزي.. وسعر الفائدة متروك للسوق”. إنزعج الحريري من جواب شلق. بعد عدة ايام، قرر شلق تقديم استقالته من جميع المسؤوليات التي أوكلها إليه الحريري. قرار شلق لم يعلق عليه الحريري بل اكتفى بسؤاله: “كم تريد تعويضا لنهاية الخدمة”؟
إغتيال الحريري
مع إستقالة شلق من دائرة القرار الحريرية، بدأت مرحلة جديدة، بدا خلالها حرص الإثنين على إستمرار صداقتهما. قال شلق للحريري إن التمديد لإميل لحود سيحصل ولن يحول دونه شيء. لسان حال الحريري أنه كان مطمئناً لوعود صديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك بأن التمديد “لن يمر”، وهو قال للفضل شلق بالحرف الواحد: “كبّر عقلك.. لن يحصل تمديد”.
بعد التمديد للحود، في نهاية العام 2004، كُلّف الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة. لم يطل زمن التكليف. إعتذر الحريري، وتم تكليف الرئيس عمر كرامي بتشكيل حكومة ما بعد التمديد الرئاسي. خلال أول إجتماع عقده كرامي مع الرئيس بشار الاسد في دمشق، إقترح الأخير على كرامي تعيين شلق رئيسا لمجلس الانماء والاعمار في لبنان. في اليوم التالي، تلقى شلق إتصالاً من رستم غزالة دعاه فيه الى مكتبه، ثم أبلغه أن بشار الاسد يود الاجتماع به. تعيين شلق رئيسا لمجلس الانماء والاعمار لم يعترض عليه الحريري، بل على العكس تمنى له النجاح وطلب منه الاهتمام بمشروع المجمعات المدرسية الذي كانت حكومة الرئيس الحريري قد بدأت العمل به.
اقام الفضل شلق حفل عشاء في فندق الفينسيا لمناسبة زفاف نجله علي. كانت صدفة غير عادية أن تنقطع الكهرباء عن الفندق لحظة وصول رفيق الحريري، مع العلم ان هذا الفندق مجهز بتقنيات عالية لمواجهة هكذا حالات. فهم الحريري الرسالة، وغادر مسرعاً المكان. في اليوم التالي، إتصل مسؤول سوري بالفضل شلق وعاتبه على دعوة الحريري. إستمرت الحرب على الحريري باشكال متعددة. تعرض شلق لضغوط عديدة من أجل الانضمام الى تشكيل سني معارض للحريري، لكنه رفض الإنضمام إلى أي مشروع سياسي ضد رئيس الوزراء السابق.
حصل اللقاء الاخير بين الحريري وشلق قبل ايام من جريمة الاغتيال في 14 شباط/فبراير 2005. في ذلك اللقاء، كان الحريري شديد التوتر “وكان كل جسمه يرتجف”. في يوم 14 شباط/فبراير، كان الفضل مدعواً للغذاء لدى أحد الأصدقاء في دمشق، عندما سمع خبراً عاجلاً مفاده أن إنفجاراً ضخماً هزّ بيروت. سرعان ما أتاه اتصال من ابنته تخبره فيه ان الانفجار استهدف الرئيس رفيق الحريري. على الفور، قطع زيارته الى دمشق وعاد الى بيروت. في قصر قريطم، كان المشهد غريباً. كل الذين كانوا يكرهون الحريري ويتمنون له السوء، كانوا يتفجعون عليه. تفجعهم كان مزيفا. اطلاق الاتهامات من دون دليل لا بد من تجنبه. هذه هي نصيحة شلق لبهاء الحريري، وهو قال لبهية الحريري “لا يظنن احد منكم انه قادر على ان يحل مكان الرئيس الشهيد”.
في باريس، إجتمع الفضل شلق بسعد الحريري في صيف العام 2005. يومها قال الفضل للحريري: “الحقيقة تشبه النار. يمكنك ان تطهو بها طعامك ويمكنك ان تحرق بها منزلك”. لقاء اخر جرى بينهما بعد شهر من اللقاء الاول. سأل الحريري ضيفه شلق: “أما زلت تزور دمشق”؟، فاجابه شلق: “أسلك نفس الطريق التي سلكها والدك من قبل”. “سعد الحريري عقله محدود”، يقول شلق، ويضيف “الصدمة التي تلقاها باغتيال والده جعلته غير قادر على قيادة السفينة”.
مع تولي الرئيس فؤاد السنيورة رئاسة الوزراء، إثر انتخابات العام 2005، قرر الاخير التضييق على شلق في مجلس الانماء والاعمار. ابلغه ان لا ضرروة للاجتماع به وطلب منه ايداع ملفات المجلس في مكتب مستشار رئيس الحكومة فادي فواز. رفض شلق ذلك، لا سيما وانه كان في وقت سابق قد طرد فادي فواز من مكتبه في مجلس الإنماء والإعمار “لاسباب معينة”.
خلال اجتماع لمناقشة ملفات مجلس الإنماء والإعمار، توجه السنيورة الى شلق قائلا: “ان شاء الله مفكرني محمد عطالله”، وكان يقصد المرحوم الدكتور محمد عطالله الرئيس السابق لمجلس الانماء والاعمار. ردّ عليه شلق بحدة قائلا: “ليش انت بيطلعلك تكون متل محمد عطالله”. وخرج من الاجتماع غير آبه بمناداة السنيورة له للعودة.
بعد خروجه من الاجتماع، توجه شلق الى قصر بعبدا وأبلغ رئيس الجمهورية قراره بالإستقالة وتم الاتفاق مع الرئيس إميل لحود على تعيين رئيس جديد لمجلس الانماء والاعمار. برغم ذلك، طلب شلق في يوم من الأيام التوسط لحل الخلافات العالقة بينه وبين السنيورة. كان جواب سعد الحريري صادماً:”انصحك بالاستقالة. انا مش قد فؤاد السنيورة”.
منذ 15 سنة حتى الآن، عاد شلق إلى الأحب إلى قلبه. إلتهام الكتب، إذ ندر أن يمر يوم لا يطالع فيه كتاباً. الأهم هي الكتابة. واظب على الكتابة في جريدة “السفير” حتى آخر أعدادها في الثالث من كانون الثاني/يناير 2017. أنشأ مدونة أسماها “الفضل شلق” (http://www.alfadelchalak.com)، يطل من خلالها بشكل دائم، بالإضافة إلى مساهمات دورية في بعض المواقع التي يحترمها.
بعد السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019، إرتسمت معالم مرحلة جديدة أمام ناظري الفضل شلق. ما حصل كان مفاجئاً بالنسبة إليه. كان أشبه بحلم. شارك معظم أفراد عائلته في “الثورة”، وهي التعبير الأحب إلى قلبه. إنكب منذ ذلك النهار على الكتابة اليومية. وبين القراءة والكتابة، لا بد من محطات. محطة شبه يومية في المقهى البيروتي مع ثلة أصدقاء يفكرون من خارج الصندوق العادي للمواضيع والنقاشات. محطة أسبوعية مع ثلة من “الأشرار” في مقهى “البينكي” في طرابلس. الفضل شلق لا يهدأ. لا يتقاعد. ثورة متنقلة بين البيت والمقهى والسيارة.
– راجع الجزء الأول، الفضل شلق: هكذا تعرفت على كمال جنبلاط ورفيق الحريري: https://180post.com/archives/8441