“لندع الذين حضروا إلى المنطقة من بعيد، وشركاتهم، يرون
(…) أنّه لا يُمكن القيام بأي شيء في المتوسط من دوننا”.
وزير خارجية تركيا/شباط ٢٠١٩
تحّولت تركيا خلال السنوات القليلة الماضية إلى عقدة وصل إقليمية رئيسية لنقل الغاز الآتي من آسيا ومن روسيا إلى أوروبا. ففي بداية صيف ٢٠١٨، شغّلت الجمهورية التركية خط أنابيب “تاناب” الذي ينقل الغاز من أذربيجان مروراً بالأناضول وصولاً إلى شرق أوروبا. وقبل ذلك بنحو عامين، شهدت مدينة إسطنبول التوقيع على اتفاق روسي تركي يقضي بإنشاء أنابيب “ترك ستريم” المارة بالبحر الأسود والتي ستهدف بدورها إلى نقل كميات من الغاز الروسي إلى شرق أوروبا وجنوبها.
يضاف إلى هذين الخطين خط آخر قائم منذ عام ٢٠٠٢ وينقل الغاز الإيراني من مدينة تبريز إلى أنقرة، ما يجعل من “تركيا (ليس) بلد عبور للطاقة فحسب، بل تلعب دوراً في تحديد أسعارها من المنتج إلى المستهلك النهائي”، وفقاً للرئيس رجب طيب إردوغان في صيف ٢٠١٨.
غير أنّ تحوّل شرق المتوسط إلى نادٍ محتمل لتصدير الغاز إثر عمليات التنقيب والاكتشافات المترافقة مع إنشاء منتدى للطاقة منافس لأنقرة في القاهرة في بداية ٢٠١٩، يضم بشكل أساس مصر واليونان وإسرائيل وجمهورية قبرص (اليونانية)، هي عوامل قادرة على توليد “آثار عميقة على التوازنات الجيوسياسية والاقتصادية الإقليمية”، وفقاً للباحثين التركيين قدري تاستان وتوبياس كوتشكا، اللذين يحذران أيضاً في ورقة بحثية نشرت في نيسان/ابريل ٢٠١٩ من احتمال “تحرّك مركز الثقل الإقليمي للطاقة” من تركيا إلى دولة أخرى.
البداية من قبرص
من بوابة الجزيرة القبرصية، بدأت تركيا في رسم دائرة شبه مفرغة أمام منافسيها/خصومها. فإزاء المشهد الإقليمي القائم والذي يعززه إعلان قبرص لعدد من الاكتشافات (حقول غلوكوس وأفروديت وكاليبسو)، عملت تركيا على فرض حضورها في وجه التحركات المقابلة عبر إرسال سفن تنقيب وأبحاث خاصة بها (فاتح ويافوز وبربروس) إلى ما تعتبره مياهها الإقليمية، وهي مياه متنازع عليها مع قبرص. وأرسلتها أيضاً إلى ما تعتبرها أنّها “مياه جمهورية شمال قبرص” التي لا يعترف بها أحد سوى أنقرة، وهددت مراراً باللجوء إلى القوة لوقف “الاعتداءات”.
وفي عملية إظهار قوة في شباط/فبراير ٢٠١٨، منعت سفن تركية سفينة تنقيب تابعة لشركة إيني الإيطالية من الاقتراب من منطقة أعمالها في جنوب شرق قبرص، مما زاد التوتر بين أنقرة ونيقوسيا اللتين تفتقدان بالأصل للعلاقات الديبلوماسية بسبب اجتياح تركيا لشمال الجزيرة في السبعينيات و”دورها” في تقسيمها.
يبدو جواب قبارصة (يونانيين) بديهياً: “اعتادت تركيا على تخويفنا وتهديدنا”، كما يعلّق سائق التاكسي في الطريق بين لارنكا حيث المطار الدولي لجمهورية قبرص وبين العاصمة نيقوسيا، آخر عواصم العالم التي لا تزال مقسمة (هي إلى حد بعيد برلين أخرى).
يطول الحديث ويأخذ كل أبعاده في الطريق الممتدة لنحو ٤٥ دقيقة، قبل أن يصل السائق إلى خاتمته: “جاء كثيرون إلى جزيرة قبرص واستعمروها. الجميع رحلوا، بمن فيهم بريطانيا، إلا تركيا فقد أتت وبقيت”. (خاتمة، ولكنّها عملياً بمثابة مقدّمة تقول الكثير عن هذه الجزيرة الملوّنة بكثير من ألوان الشرق الأوسط برغم ابتعادها “المعنوي” عنه وعضويتها في الاتحاد الأوروبي).
مع تصاعد الأحاديث عن الغاز في شرق المتوسط، فإنّ ديناميكيات “الحرب الأهلية/الإقليمية” الصامتة عادت لتطغى من جديد وبدأت “لحظة السلم” بالخفوت
ثمة جانبان في اشتباك تركيا مع جمهورية قبرص. الأول مطالبة أنقرة لنيقوسيا بإعطاء القبارصة الأتراك و”جمهوريتهم” حصتهم من الغاز الذي يجري الحديث عنه.
حول هذه النقطة، يتأسف الصحافي القبرصي كريستوس كريستوفيدس في حديث إلى مجلة ١٨٠، لأنّ “سياسيينا استخدموا مسألة الغاز لتعقيد الأمور، فهم يقولون إنّ الغاز لكل القبارصة (…) ولكنّهم بدأوا التفاوض مع الشركات الكبرى قبل التوصل إلى حل للانقسام القبرصي”.
يضيف ممازحاً: “أعتقد أنّ الأفضل لنا كقبارصة أن يبقى الغاز حيث هو، في أعماق البحر!”. ويبرر ذلك أولاً بـ”التداعيات البيئية” التي سيخلّفها استخراجه وثانياً بالتساؤل عن قيمته التجارية المستقبلية.
يتفق رئيس جمعية الصحافيين في شمال قبرص سامي اوزوسلو في سياق حديثه إلى مجلة ١٨٠ مع صديقه، ويضيف ممازحاً بدوره: “(البر) مقسّم، لكنّهم لن يستطيعوا تقسيم البحر”.
لدى شق واسع من سكان “القبرصتين” شعور بأنّ مسألة الغاز صعّبت “حتى الآن” دروب الحل والتوحّد مجدداً. وثمة خشية ملموسة لأنّ “مسألة قبرص تغيرّت دراماتيكياً (أيضاً) منذ خمسة أو ستة أعوام حين عادت روسيا إلى الشرق الأوسط (وباتت) بقية القوى الكبرى تبحث عن مصالحها بالطرق المثلى في ظل الواقع الجديد. هذا ما يجعل قبرص محاطة بالبوارج من كل الدول الكبرى. وأنا كصحافي وكمواطن عادي، لا أعرف ماذا يحضّرون لمستقبلنا”، يقول سامي اوزوسلو.
الجانب الآخر الذي يؤطر الاشتباك التركي مع جمهورية قبرص ذو طابع تقني بحت، إذ إنّ تركيا ترفض ببساطة الحدود البحرية التي رسمتها نيقوسيا لنفسها ومع دول الجوار بشكل أحادي وثنائي، وتعترض عليها لأنّها “تعتدي” على مياهها.
على هذا الصعيد، تشرح وزارة الخارجية القبرصية على موقعها الالكتروني أنّ جمهورية قبرص ثبتت حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة والجرف القاري بقانون صدر عام ٢٠٠٤ (عدّل عام ٢٠١٤ أيضاً) وجرى إيداعه لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة طبقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار العائدة إلى عام ١٩٨٢ والموصوفة بأنّها “دستور البحار”. وتعرّف هذه الاتفاقية “المنطقة الاقتصادية الخالصة” بأنّها “منطقة وراء البحر الإقليمي (الذي لا يتجاوز ١٢ ميلاً، نحو ٢٠ كيلومترا) وملاصقة له وللدولة فيها حقوق سيادية لغرض استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية”.
كما ثبتت جمهورية قبرص أيضاً حدود هذه “المنطقة الاقتصادية الخالصة” مع الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على غرار اليونان: مصر في عام ٢٠٠٣، لبنان عام ٢٠٠٧ وإسرائيل عام ٢٠١٠. وتقول إنّها عرضت على تركيا ترسيم الحدود سابقاً لكنّها رفضت، ويبدو واضحاً أنّ الأخيرة ترفض أيضاً تطبيق مبدأ “الخط الوسط” الذي يشير إليه قانون البحار إذا كانت الدول متواجهة ومتقاربة.
“ترسيم سياسي” للحدود
ويعتبر الدبلوماسي التركي تشاغاتاي ارجييس في دراسة أعدّها في أيار/مايو ٢٠١٩، وهو كان سابقاً سفيراً لتركيا لدى بيروت، أنّ “الجزر في القانون الدولي (يكون لها) أثر محدود في ترسيم الحدود البحرية في حال كان موقعها يشوّه الترسيم العادل”. وهذا ما ينطبق على مجمل الجزيرة القبرصية بنظره، ويسمح لتركيا بالمطالبة بحدود جديدة.
بالمناسبة، اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار والذي أنشأت قبرص بموجبه منطقتها الاقتصادية الخالصة قد يكون متوائماً مع واقع المحيطات أكثر من تواؤمه مع البحر الأبيض المتوسط حيث لا مجال لإعطاء الدول حقوقاً توازي ٢٠٠ ميل بحري. هذا ما يقوله الباحثان غيما اندريوني وغيسيبي كاتالدي في مقالة نشراها عام ٢٠١٠ في المجلة الفرنسية للعلاقات الدولية. وفي ظل غياب هذه المساحات في المتوسط، جرى غالباً رسم الحدود استناداً إلى الخط الوسط البحري بين الدول. (وسط هذه المعطيات قد يكون السؤال مشروعاً عن أسباب الاستعجال خلال العقد الماضي لرسم الحدود البحرية في شرق المتوسط بشكل يبدو “توافقياً، سياسياً”. كأنّه جرى في ليل).
مخاوف من تفاقم النزاعات
لا بدّ أنّ منسوب الأمل في جمهورية قبرص متباين وسط هذه التجاذبات. فالخشية من تفاقم المشهد يقابلها واقع أنّ مقارنة خريطتها البحرية بخريطة الحدود التي تنسبها تركيا لنفسها ولجمهورية شمال قبرص، تظهر أنّ اكتشافات الغاز التي أعلنت عنها قبرص تقع في نقاط (وليس كتل بحرية) غير متنازع عليها. ربما هذا مبعث على الأمل.
لكن بالمحصلة، يرفض الأستاذ المساعد في جامعة نيقوسيا قنسطنطينوس حدجيستاسو، كل ما تحاجج به تركيا التي “تنتهك القانون الدولي وقانون البحار من خلال (لتنقيب) غير الشرعي غرب مدينة بافوس (في جنوب الجمهورية القبرصية) وقبالة مدينة فاماغوستا شرقاً” التابعة لشمال قبرص حيث اسمها التركي مدينة غازي ماغوسا.
تركيا ترفض ببساطة الحدود البحرية التي رسمتها نيقوسيا لنفسها ومع دول الجوار بشكل أحادي وثنائي، وتعترض عليها لأنّها “تعتدي” على مياهها
ويقول في حديث إلى مجلة ١٨٠ إنّ “غاز قبرص شأن من شؤون الحكومة المركزية وليس من شؤون تركيا، والرئيس القبرصي نيكوس أناستاسياديس يخطو خطوات ملموسة في اتجاه حل (…) ففي محاولة للتفاعل مع قلق القبارصة الأتراك من الاستغلال الأحادي (للغاز) قامت نيقوسيا بإنشاء صندوق سيعمل بمجرد تدفق ايداعات وسيشمل حصة للقبارصة الأتراك (…لكنّهم الآن) يطالبون بأن تكون لهم كلمة في القرارات (وبالتالي ستكون هذه القرارات تحت) تأثير تركيا التي تريد بسط نفوذ جزئي على الغاز”.
ويشرح “حالياً، توجد خطوات من أجل استئناف المحادثات القبرصية، لكن لكي يحصل ذلك سيكون على تركيا أن توقف أعمالها”.
لماذا منتدى الطاقة؟
لواحد من أبرز المتخصصين القبارصة في مجال الطاقة تشارلز اليناس، رأي واقعي يقول بأنّ اكتشاف الغاز في شرق المتوسط شيء واستغلاله شيء آخر. تختزل هذه الجملة واحداً من أهم دروس السياسة في القرن الماضي، والقائل بأنّ أي سلمٍ إقليمي هو تماماً مثل السلم الذي تأتي به الدولة لناحية أنّه “ليس سوى لحظة استراتيجية في سياق تاريخ حرب أهلية مستمرة”، صامتة. وبالتالي مع تصاعد الأحاديث عن الغاز في شرق المتوسط، فإنّ ديناميكيات “الحرب الأهلية/الإقليمية” الصامتة عادت لتطغى من جديد وبدأت “لحظة السلم” بالخفوت.
ولكن كيف يتمظهر ذلك في السياق الحالي لشرق المتوسط؟ توازياً مع بروز الاشتباك التركي-القبرصي، كان منتدى الطاقة الإقليمي الذي دعت إليه القاهرة يتشكّل. القاسم المشترك بين الدول الرئيسة لهذا المنتدى الذي تأسس في بداية العام 2019 ثم نظمت جلسة ثانية له في تموز/يوليو المنصرم، هي العلاقات المتوترة بين كل دولة ضمنه من جهة وبين تركيا من جهة أخرى، وفق الباحثَين في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أوفير وينتر وغاليا ليندشترواس.
يضيف هذان الباحثان: “يمكن الادعاء أنه كما يشكّل الخوف من إيران عاملاً يدفع إلى التقارب بين إسرائيل ودول الخليج العربية، كذلك أيضاَ إنّ التحدي التركي هو العامل الذي يقرّب العلاقات بين إسرائيل واليونان وقبرص ومصر في شرق البحر المتوسط”. (المعلق العسكري في صحيفة يديعوت احرونونت أليكس فيشمان وصف منذ بداية ٢٠١٦ ما كان يحضّر له بأنّه “حلف اقتصادي-أمني على قاعدة مصالح استراتيجية قوية، وإذا شئتم إنّه حلف لدول الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من دون تركيا”).
بذلك، تكون لحظة السلم تلك قد انتهت. كانت تساعد على توفيرها أيضاً منظومة العلاقات الغربية مع هذا الإقليم والتي كانت تركيا تلعب ضمنها دوراً ريادياً، وهذا ما لم يعد موجوداً حالياً في سياق إعادة تعريف الأقطاب الغربية لنظرتها إلى مجمل الشرق الأوسط.
تسافوس: “داعمو أنبوب غاز شرق المتوسط يعتبرونه ضرورياً وسينتج تغييراً، إذ أنّه وسيلة لجلب الغاز غير الروسي إلى جنوب-شرق أوروبا”
برغم ذلك، قد تبقى أهمية هذا المنتدى حتى الآن رمزية أكثر من كونها عملية، أولاً لوجود تباينات داخله بشأن الآليات الإقليمية المتوخاة لاستغلال الغاز المكتشف وتسويقه، وثانياً وربما الأهم لرعاية الولايات المتحدة بشكل مباشر مشروع أنبوب بمسمى “أنبوب شرق المتوسط”، يمتد من حقول الكيان الإسرائيلي مروراً بقبرص وصولاً إلى اليونان فأوروبا، فيما تبدو مصر رافضة له لأنّها تقول إنّها تملك منشآت لتسييل الغاز مناسبة في دمياط وادكو ويمكن شحن الغاز منهما إلى أوروبا وبتكلفة أقل.
آخر اجتماع بخصوص هذا الأنبوب استضافته أثينا في ٧ آب/أغسطس ٢٠١٩، ويشرح الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي نيكوس تسافوس أنّ “داعمي أنبوب غاز شرق المتوسط يعتبرونه ضرورياً وسينتج تغييراً، إذ إنّه وسيلة لجلب الغاز غير الروسي إلى جنوب-شرق أوروبا”، وللمناسبة هو الغاز الذي يمرّ جزء كبير منه عبر تركيا.
هل كان بإمكان تركيا اتباع سياسة أخرى مغايرة لسياسة الحكم الحالي في ظل هذه الخريطة؟ يجيب الصحافي التركي إلهان تانير إيجاباً في حديث إلى مجلة ١٨٠، ويقول إنّ “سياسيين آخرين كانوا ربما سينتهجون نهجاً آخر. (مسؤول آخر) كان سيسعى إلى اللعب مع قوى إقليمية أخرى ضمن لعب التنقيب وسيحاول إيجاد حل دبلوماسي بدلاً من الذهاب وحيداً والتهديد بالقوة الخشنة”.
وقد يكتسب استعار الحرب الصامتة بعداً جديداً مع تصريح وزير الطاقة الروسي الكسندر نوفاك في ٥ آب/أغسطس ٢٠١٩ بأنّ بلاده “على استعداد” للتعاون مع تركيا في شرق المتوسط. لكن، بأي حال، تقول الصحافية التركية اليف بينجي إرشن المتابعة عن كثب لملف غاز شرق المتوسط، في حديث إلى مجلة ١٨٠، إنّ “جميع الأطراف واعية بأنه لا يمكن استغلال هذه الموارد من دون إشراك تركيا والقبارصة الأتراك في مرحلة من المراحل”، وتضيف أنّه “من أجل الاستغلال المادي الكامل لهذه الموارد هم بحاجة قبل كل شيء إلى نوع من المصالحة السياسية (…) بحاجة إلى إطلاق حوار سياسي مع تركيا (خاصة أنّها) أكبر سوق للغاز في منطقتها وهي تمتلك بنية تحتية متطورة”.
“شيء ما يطبخ”
بناء على مجمل هذه الخلفية، يبدو “من الصعب تصوّر إصلاح تركيا لعلاقاتها مع جيرانها في أي وقت قريب”، وفقاً للصحافي المخضرم المتخصص بالشرق الأوسط جيرالد بات الذي ينطلق من واقع أنّ “لتركيا في عهد إردوغان أجندة للمطالبة بما تراه حقوقاً لها في المنطقة، (وحالياً) هي وحيدة بين دول شرق المتوسط، وكذلك في العالم، في رفض الاعتراف بالمنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص”.
ويضيف بات الذي سبق أن عمل مراسلاً في الشرق الأوسط لهيئة الإذاعة البريطانية أنّ تركيا “تشدد أيضاً على أنّها ستتخذ الخطوات التي تراها مناسبة (…) وإردوغان يقول إنّه سيلجأ إلى القوة لدعم مطالبه. وفي الوقت نفسه، حصول تركيا على منظومة الدفاع الجوي الروسية اس-٤٠٠ وضعها على خصومة مع الولايات المتحدة وبقية حلف شمال الأطلسي، وهذا ما سرّع في سعي واشنطن إلى تعزيز الروابط مع اليونان وقبرص وإسرائيل بهدف خلق حاجز أمام تركيا التي تميل إلى روسيا”.
روائي تركي معروف وضليع بتاريخ تركيا، يجيب مجلة ١٨٠ لدى سؤاله عمّا قد يكتنفه مصطلح “الوطن الأزرق” في التاريخ التركي، قائلاً: “لا يقول لي شيئاً. قد يمكن تفسيره كتعبير عن سياسة توسعية لتركيا في المتوسط”
ببساطة، تعيد اليف بينجي ارشين تلخيص المشهد من وجهة نظر أنقرة، قائلة إنّ “خطاب التهديد الأوروبيّ والأميركيّ تجاه عمليات البحث والتنقيب التركية في شرق المتوسط يتناقض مع تحالفهم مع أنقرة والتكافل القائم بينهم منذ عقود”. وتعتبر أنّ “النموذج الحالي للسياسة الإقليمية لأميركا والاتحاد الأوروبيّ يقوم على إزاحة تركيا من العلاقات السياسية والاقتصادية الإقليمية، وواشنطن تعد حالياً ببيع مقاتلات إف-35 لليونان لمواجهة شراء تركيا منظومة اس-٤٠٠ الروسية”.
“باختصار، تبحث واشنطن وبروكسل عن تحالفات جديدة في المنطقة، لكن لم تتخذ أي خطوة مادية إلى حد الآن لأن تلك الدول لا تمتلك نفس قدرات تركيا على جميع الأصعدة، وهذه اللعبة الخطابية تثبت أنه لا يمكن لكلا الطرفين التخلي عن الآخر على نحو كليّ، لكن الصراع والتوتر سيمتدان فترة طويلة”، تضيف ارشين.
لعلّ الأقرب في هذا الملف إلى عقل صانع القرار التركي في ملفات شرق المتوسط، هو الأميرال المتقاعد جام غوردينيز الذي يشرح أنّ في نهاية التسعينيات “لم يكن أحد يعير أهمية لشرق المتوسط”، مضيفاً أنّ الأزمة بدأت في عام ٢٠٠٢ “حين اعترضت السفن التركية سفينة استكشاف نرويجية”. ويرى غوردينيز الذي يقول صحافيون أتراك إنّ صوته مسموع لدى الرئيس رجب طيب إردوغان، “بعد التسعينيات، بدأ شيء ما يطبخ هناك”.
ثمة فكرة رئيسية ترتكز إليها قراءة غوردينيز، وهي أنّه في ظل الواقع القائم حالياً في شرق المتوسط حيث رسّمت الدول المجاورة لتركيا حدودها البحرية بشكل “اعتدى” على حقوقها، فإنّ الجمهورية التركية تواجه اتفاقاً شبيهاً بالذي أرسى هزيمة السلطنة العثمانية عام ١٩٢٠، في إشارة إلى معاهدة سيفر.
من هنا يبرر غوردينيز أهمية مناورات “الوطن الأزرق”، وهو مصطلح يعني المساحات البحرية التي تتمتع بها تركيا بين البحر الأسود شمالاً وبحر ايجه غرباً وشرق البحر الأبيض المتوسط جنوباً. ويقول إنّ هذه المناورات “طرأت لمواجهة توسع التكتلات ضدّ تركيا في شرق المتوسط”. كما يشرح بأنّه منذ ٢٠١٣ كتب أنّ “شرق المتوسط سيمثّل (ضمن الوطن الأزرق) مساحة صراع كبير بين تركيا وبقية الدول (…) وذلك بعدما كانت تركيا تركّز على البحر الأسود في عقود سابقة لأسباب على علاقة بالحرب الباردة”.
ومن خلف مسألة قبرص وخريطة الانتشار الحالي، تمثّل اليونان في قراءة غوردينيز للتنافس الإقليمي مرتكزاً أساسياً آخر: “الوطن الأزرق تحوّل إلى عقيدة تركيا البحرية (…) بالعادة كان اليونانيون يعتقدون أنّ الأتراك شعب يهتم بالبر وكانوا يؤمنون بأنّ البحر لهم، ولكن للمرة الأولى خلال قرون يقول الأتراك: نحن الآن في البحر ولدينا أسطول قوي”. وبالمناسبة، هو من القائلين بأنّ تجاهل تطوير الأسطول البحري كان أحد أسباب بداية تراجع السلطنة العثمانية “بينما الجمهورية التركية لن تسمح للتاريخ بأن يعيد نفسه”.
روائي تركي معروف وضليع بتاريخ تركيا، يجيب مجلة ١٨٠ لدى سؤاله عمّا قد يكتنفه مصطلح “الوطن الأزرق” في التاريخ التركي، قائلاً: “لا يقول لي شيئاً. قد يمكن تفسيره كتعبير عن سياسة توسعية لتركيا في المتوسط”.
يكتفي الروائي بذلك. لكن، في المقابل، أياً كان توصيف هذه السياسة، توسعية أو “إمبريالية” أو دفاعية، ما يبدو أكيداً حالياً أنّ سفن التنقيب التركية التي قد تفتقد للخبرات الواسعة في البحث عن الغاز البحري، وترافقها أحياناً سفن حربية وطائرات إظهاراً للقوة، أتت لتبقى… سعياً إلى فرض مفاوضات جديدة بأقل تقدير.